التوحيد وشبهة الوحدوية
20 شعبان 1431

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وبعد فقد خلق الله الخلق، وأنـزل الكتب، وأرسل الرسل لعبادته وتوحيده {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، قال ابن عباس وغيره من المفسرين: أي يوحدون، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، فالغاية من خلق الخليقة التوحيد، والهدف من بعثة الرسل الدعوة إلى التوحيد، ومع ذلك نرى من منتسبي الدعوة من يدعي أن التركيز على التوحيد والبداءة به قد يكون عائقا أمام وحدة الأمة، وتأليف الشعوب الإسلامية، واجتماع كلمة الدعاة، فيتحاشى مناقشة أمور العقيدة خوفاً من الفرقة -كما يتوهم- ويجمع الناس على عمومات لا تثبت عند الملمات، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، وقد أساء فهماً فأساء فعلاً.

 

ولو أبصر هؤلاء لأدركوا أنهم بهذه الدعوى ينقضون دعوة جميع الرسل الذين بعثوا في قوم لهم شمل مجتمع، فلما دعوهم للتوحيد إذا هم فريقان، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45].

 

إن من سمات أهل السنة والجماعة أنهم يدعون إلى اجتماع الكلمة ووحدة الصف ونبذ الفرقة والخلاف، والله- جل وعلا- يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: من الآية103]، وقال: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: من الآية13].

وقال  صلى الله عليه وسلم : "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية"(1).

 

فجمع الكلمة وتأليف القلوب مطلب شرعي وهدف سام، ولكنه غير مراد لذاته بل لمعاني، ومما يلحظ في هذا الجانب أن هناك من يذكر أن الاجتماع مراد لذاته، بغض النظر عما ينتج منه، وهذا خطأ في الفهم وقصور في التصور؛ لأن الهدف هو الاجتماع على كلمة الحق، لنصرة الحق، والتعاون على البر والتقوى، وذلك لأن الاجتماع والاتفاق إن لم يكن على التقوى والطاعة فسيكون على الإثم والعدوان، ولذلك أمر الله بالتعاون على البر والتقوى، فقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: من الآية2].

وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: من الآية103]، فجعل الاعتصام على حبل الله (وهو التوحيد).

 

والذين جعلوا الاجتماع هو الغاية والهدف، تساهلوا في أمر التوحيد، ولم يجعلوه من الأصول التي يجتمعون عليها، بل تجد بعضهم يمنع أتباعه من إثارة قضايا العقيدة، بحجة أن هذا الأمر سيكون عائقاً أمام وحدة كلمة المسلمين، وتوحيد الصفوف، بل لا يخجل بعضهم أن يقول: إن طرح مسائل العقيدة تؤدي إلى الفرقة والخلاف، فحسبنا الله ونعم الوكيل.

ولا أدري على ماذا يجمعون الناس ولأي شيء يوحدون صفوفهم إذا كانت القضية التي من أجلها خلق الله الخليقة محل خلاف بينهم!

 

هذا مع أنه ثبت فشل مثل هذه التجمعات التي تضم خليطاً من العقائد، فعند المحن والشدائد يتحول الأصدقاء إلى أعداء، والأحباب إلى خصماء، وصدق الله العظيم {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وإن كان هذا واقعاً في الآخرة فإنه يقع أحياناً في الدنيا كما رأينا وشاهدنا، ولذلك لابد أن تبنى الدعوات والتجمعات على أصول وثوابت منبثقة من عقيدة التوحيد، ملتزمة بمنهج أهل السنة والجماعة، بعيدة عن البدع المحدثة والتنازلات في دين الله المخزية، وتمييع قضايا العقيدة، بحجة جمع الكلمة ووحدة الصف والمصلحة العامة، مما لا يثبت عند التحقيق والتأصيل.

ولذلك فلابد عند التوحيد أن يكون (التوحيد أولاً) وإلا فلا.

 

وقد عرضت لبعضهم شبهة تتعلق بهذه القضية حاصلها أن هارون عليه السلام اعتذر لموسى لما عبد قومه العجل بأنه خشي أن يقول فرق هارون بين بني إسرائيل، فكأنهم ظنوا أن هارون تركهم وشأنهم في عبادة العجل لأنه خشي إن دعاهم أن يتفرقوا!

وهذا فهم لم يسبق مدعيه أحد من أهل العلم، وقد غفل عن سياق الآيات وتشبث بحرف على طريقة المستدلين بويل للمصلين!

 

ومن نظر أدنى النظر في سياق القصة وتفكر لابد أن يقر بأمرين مهمين:
1-    الأول: بذل هارون عليه السلام وسعه مع القوم ليصدهم عن عبادة العجل  فدعاهم لتوحيد الله –الذي يريد هؤلاء أن يكف الناس عن الدعوة إليه- وأنكر عبادتهم العجل كما قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طـه:90].

 

2-    والثاني: أن هارون عليه السلام لم يتمكن من التمادي في الإنكار باليد، ولم ير من الحكمة مفارقة القوم لسببين ذكرهما في مقام واحد وهو مقام تعنيف موسى عليه السلام له –وحسبك بتعنيف موسى دليلاً على أن مفارقة المشركين واجبة ناهيك عن دعوتهم-:

•    الأول: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طـه:94].

•    والثاني في سورة الأعراف في نفس الموقف: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150].

 

فهارون عليه السلام بلغ به الإنكار معهم مبلغاً خشي أن يقتل بعده، فالقوم قد عصوه، وخالفوا أمره وهو قد بذل غاية جهده ولم يبق إلاّ أن يقتل.

فإن فارقهم في تلك الحال واتبع موسى بعدد قليل فلن يأمن بقاء أولئك، فيتفرقون على شركهم فيتأصل فيهم ويستشري في نسلهم، فكان من حكمته أن بقي مقيماً معلنا الإنكار حتى يرجع موسى عليه السلام ليعين على معالجة الأمر ورد القوم إلى ربوع التوحيد، وهو لم يزل باذلا جهده في نصحهم، داعياً إلى التوحيد غير مقر بالشرك أو راض عنه.

 

ومن هنا تعلم سقوط الشبهة التي ذكرها من ادعى بأن وحدة الصف الإسلامي أهم من قضية التوحيد، وأن هارون سكت خشية التفريق بين القوم مع عبادتهم العجل! فهارون ما سكت إلاّ لما خشي القتل بنص آية الأعراف، ولم يفارق لأن فراقه لن تترتب عليه مصلحة بخلاف بقائه، وليس شأن الخلاف في المستضعف الذي يخشى القتل لو أنكر الباطل، ولكن الخلاف في شأن الذي يقرر طوعاً واختياراً أن للمشرك وعابد العجل والملحد من الحق ما للمسلم من حقوق المواطنة وأن جميعهم تسعهم الوحدة الوطنية، وأن الدعوة للتوحيد لا داعي لها، فقائل هذا لم يحتج بصنع هارون عليه السلام وإنما هو محتج بالسامري الذي لم ير غضاضة فيما أنكره النبيان الكريمان!

 

________________

(1) أخرجه البخاري (7054). ومسلم رقم (1849).