مفسدات الصيام المعاصرة التي تعم بها البلوى (1/2)
4 رمضان 1431
نايف بن جمعان جريدان

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد.

فشَرَع الله الصِّيام مَحْدودًا بِحُدود شرعيَّة، مَن تجاوزها أفْسَد صِيامه أو نقَّصه، فيجب على المسلم أن يعرفَ حُدُود ما أنزل الله على رسوله، ممَّا يَتَعَلَّق بالعِبادات التي فُرِضَتْ فَرْض عَيْنٍ على كُلِّ مسلمٍ ومنها الصِّيام، وخاصَّة فيما يَتَعَلَّق بِمَعْرفته، بِمَا يُؤَدِّي إلى فساد صَوْمه وبُطْلانه، وقد ظهر في عصرنا هذا منَ المُفْطرات المُتَعَلِّقة بالجَوَانب الطِّبيَّة ما ينبغي النَّظَر فيه، ودراسته؛ للتَّوَصُّل إلى القول الذي تدل عليه النُّصوص، والقَوَاعد الشَّرعيَّة.
 
ولم أَقِف على كتابٍ، أو بحثٍ مُستقلٍّ حول هذه الموضوعات، عدا ما وَرَدَ ذِكْره في بُحُوث المجمع الفِقهي، أو كُتُب الفتاوى المُعَاصِرة، وهي تعتمد في الخَوْض فيها على دراستها في ضوء نصوص الكتاب والسُّنَّة، وتأصيل هذه المسائل وإرجاعها إلى قواعدها الشَّرعيَّة المُتعلِّقة بالصِّيام، وتخريج هذه المسائل على ما ذَكَرَه فُقَهاؤنا المُتَقَدِّمونَ - رحمهم الله.
 
ومُفسدات الصِّيام التي ذَكَرَها الفُقهاء قديمًا، والمُتفق على أنَّها منَ المُفطرات، والتي يدل عليها النَّص والإجماع، على أنَّها مُفسدة للصِّيام، ما يلي:
1- الأَكْل.
2- الشُّرب.
3- الجِماع.
 
ودليلُ هذه الثلاثة قوله - تعالى -: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}[1].
 
1 - دم الحَيْض والنِّفاس:
ودليلُه حديث أبي سعيد الخدري - رضيَ الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أليس إذا حاضَتْ، لَمْ تصلِّ، ولم تَصُم))[2].
 
2 - السَّعوط:
وهو إيصال شيءٍ إلى الجوف، من طريق الأنف، فهذا مُفطر؛ ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وبالِغ في الاستنشاق، إلاَّ أن تكونَ صائمًا))[3]، وَلَعَلَّ علَّة هذا النَّهي هي: خشية دخول الماء منَ الأنف إلى الجوف عند المُبَالغة.
 
3 - القيء:
وهو تَعَمُّد إخراج ما في المَعِدة منَ الطعام، ودَلَّ على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن ذَرَعه القَيء فَلَيس عليه قضاء، ومَنِ استقاء عمدًا فَلْيَقْضِ))[4].
 
4 - الاستمناء:
وهو استدعاء خُرُوج المَنِي بِنَحْو لَمْس، أو ضَمٍّ، أو تقبيل، ونحو ذلك مما يدخل تحت اختيار المرء، وهو منَ المفطرات عند عامَّة أهل العلم، قال ابن قدامة[5]: "يفطر به الصَّائم بِغَيْر خلاف نعلمه"، ولِعُموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَدَع شهوته وأكله وشُربه من أجلي))[6].
 
أمَّا المسائل المعاصرة المُسْتَجَدَّة، والتي ينبغي البحث في كونِها مُفسدة للصِّيام فكثيرةٌ؛ منها ما يلي:
بخَّاخُ الرَّبْو، والأقراص التي توضَع تحت اللسان، والمناظير الطِّبيَّة "منظار المعدة"، وقطرة الأنف، والأذن، والعين، وغاز الأوكسجين، وبخَّاخ الأنف، وغازات التخدير "البنج"، والحقن العلاجيَّة بأنواعها: (الجلديَّة، والعَضَليَّة، والوَرِيديَّة)، والدهانات، والمَرَاهم، واللصقات العلاجيَّة، وإدخال القسطرة (أنبوب دقيق) في الشَّرايين للتصوير أوِ العلاج، وإدخال منظار البطن، أو تنظير البطن، والغسيل الكلوي، وما يدخل إلى الجسم عبر المِهْبل: كالغسول المهبلي، والتحاميل، والمنظار المهبلي، وأصبع الفحص الطبي، وما يدخل إلى الجسم عبر فتحة الشرج: كالحقن، والتحاميل الشرجيَّة، والمنظار الشَّرَجي، وما يدخل إلى الجسم عبر مَجْرى البول: كإدخال القسطرة أوِ المنظار، أو إدخال دواء أو محلول لغسل المثانة، أو مادة تُسَاعد على وضوح الأشعة، والتَّبَرُّع بالدم.
 
غير أنِّي أكتَفِي بالحديث عنِ المسائل التي تَعُم بها البَلْوى، والتي تقع شاملة للمُكلَّفين باسْتِمرار، بِحَيث يعسُر على المكلَّف الاحتراز منها، ويصعُب الاستغناء عَنِ العمل بها، والتي في ظَنِّي أن منها ما يلي:
المسألة الأولى: غسيل الكُلى وقياسه على الحجامة، وأَثَر ذلك على الصيام.
المسألة الثانية: بخَّاخ الرَّبو، وأثرُ استعماله على الصيام.
المسألة الثالثة: استِعمال الصَّائم قطرة الأنف.
المسألة الرابعة: استعمال الصَّائم قطرة العين.
المسألة الخامسة: الحُقَن العلاجيَّة (الجلديَّة، العَضَليَّة، الوَرِيديَّة).
 
ولكن قبل البَدْء بِذِكْر مختصر ما قيلَ في كل واحدةٍ منَ المسائل الخمس السابقة، أَذْكُر الجامِع الذي يجمع هذه المسائل، وكل المسائل السَّابقة، وهو وصولُ شَيءٍ إلى الجوف لِيَكُون بِمَعْنى الأكل أوِ الشرب؛ لأنَّ القارئ لِكَلام الفقهاء يجد أنهم يستخدمون هذا المصطلح، ويبنون عليه حكم الإفطار مِن عدمه، فما المقصود بالجوف في كلام الفُقَهاء؟
 
اختلفتْ أقوال المذاهب الأربعة في ذلك على النَّحو التالي:
المذهب الحنفي:
 بيَّن الأحناف مُرَادهم بالجوف عند حَدِيثهم عنِ الجائفة؛ فالجائفة عندهم: هي التي تصل إلى الجوف، والمواضع التي تنفذ الجراحة منها إلى الجوف[7]: هي الصدر، والظهر، والبطن، والجنبان، وما بين الأنثيين والدُّبر، ولا تكون في اليدين والرِّجلَيْنِ، ولا في الرَّقَبة والحلق جائفة؛ لأنَّه لا يصل إلى الجوف[8]، وفرقوا بين المعدة والجوف، فإنَّ الجوف يشمل المعدة وغيرها مما يوجد في التَّجويف البطني، أمَّا الحلق فقد جعلوا الدَّاخل إليه مفطرًا؛ لكونه منفذًا إلى الجوف، كما قال الكاساني: "يُكره للمرأة أن تذوق المَرَقة لِتَعْرفَ طعمها؛ لأنه يخاف وصول شيء منه إلى الحلق، فتفطر"[9].
 
كذلك الدماغ، جعلوا الدَّاخل إليه مفطرًا؛ لكونه منفذًا إلى الجوف، وكذلك المنافذ الأخرى، كالإحليل، وقبل المرأة وغيرها جعلوا الداخل إليه مفطرًا؛ لكونه منفذًا إلى الجوف.
 
فهم بذلك لا يقصرون الجوف على المعدة؛ بل يشمل كلَّ التَّجويف البطني، أما باقي المنافذ فقد جعلوا الدَّاخل إليه مفطرًا؛ لكونه منفذًا إلى الجوف[10].
 
المذهب المالكي:
 تَكَلَّموا كذلك عنِ الجوف عند حديثهم عنِ الجائفة، كما جاء في "المدونة": أنَّ الجائفة ما أفضى إلى الجوف، وإن مدخل إبرة[11]، وهم يَرَوْن أنَّ الجوف هو كل البطن، وليس فقط المعدة، ويُفطرون بِمُجَرد الوصول إلى الحلق ولو لم ينزل، واختلفوا في الدِّماغ، أما باقي المنافذ فلا بدَّ من وصول الداخل منها إلى الجوف[12].
 
المذهب الشافعي:
 يُطلق الشافعية مسمَّى الجوف على كل مجوف كباطن الأُذن، وداخل قحف الرأس، وباطن الإحليل، وإن لم يصل الدَّاخل إليها إلى المعدة، وأمَّا وصول الداخل إلى الحلق، فإنه يبطل الصوم وإن لم يصل إلى المعدة؛ بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك، فإنَّ الصائم يفطر عندهم إذا وصل الداخل إلى باطن الفم، وحَدُّه مخرج الحاء، أو الخاء، فما بعده باطن.
 
وإن غلبه القيء فلا بأس، وكذا لا يفطر لو اقتلع نخامة منَ الدماغ أو الباطن وَلَفَظَها - أي: رماها - لأنَّ الحاجة لذلك تَتَكَرر، فرُخص فيه، لكن يسن قضاء يوم، أمَّا إذا لم يقتلعها بأن نزلت من محلها منَ الباطن إليه، أو قلعها بسعال، أو غيره، فَلَفَظَها فإنه لا يفطر قطعًا، وأمَّا لوِ ابْتَلَعها مع قُدرته على لَفْظها بعد وصولها لحد الظاهر، فإنه يفطر قطعًا، فلو نزلت من دماغه وحصلت في حد الظاهر منَ الفم، وهو مخرج الحاء المهمَلَة، فما بعده باطن فليقطعها من مجراها، وليمجها إن أمكنه، حتى لا يصلَ منها شيءٌ للباطن، فإن تَرَكَها مع القُدرة على لَفْظِها فَوَصَلَتِ الجوفَ، أفطر في الأصح لتقصيره[13].
 
المذهب الحنبلي:
يرى الحنابِلة أنَّ ما وصل إلى أحد الجوفين جوف البدن أو الدماغ، فهو مفطر، قال ابن قدامة في "الكافي": "وإن أوصل إلى جوفه شيئًا مِن أي موضع كان، أو إلى دماغه، مثل: أنِ احتقن، أو داوى جائفة بما يصل جوفه، أو طعن نفسه، أو طعنه غيره بِإِذنه بما يصل جوفه، أو قطر في أذنه فوصل إلى دماغه، أو داوى مأمومة[14] بما يصل إليه أفطر؛ لأنه إذا بطل بالسَّعوط، دَلَّ على أنه يبطل بِكُل واصل مِن أي موضع كان؛ ولأنَّ الدِّماغ أحد الجوفين"[15].
 
وقال في "المغني"[16]: "إنَّه يفطر بِكُل ما أدخله إلى جوفه، أو مجوف في جَسَده: كدماغه، وحلقه ونحو ذلك، مما ينفذ إلى مَعِدته، إذا وصل باختياره وكان مما يمكن التَّحَرُّز منه".
 
والذي يظهر أنَّ الحنابِلة يقصدون بالجوف المَعِدة، فقد صَرَّح ابن قدامة - كما سبق - بذلك أي إنَّ المُفَطر ما يصلُ إلى المعدة.
 
الخُلاصَة والتَّرْجيح:
إنَّ الفقهاء منهم الذين يَرَوْن فساد الصوم بِغَير الواصل إلى الجوف: كالواصل إلى الدِّماغ والدُّبر، والأذن والأنف، ونحوها، بناءً على وصوله إلى الجوف. ومنهم الذين يَرَوْن أنَّ هذه المنافذ (الدماغ والدبر، والأذن والأنف، ونحوها) - جوف بِحَد ذاتها، ولو لم يصل ما يدخل مِن طريقها إلى التَّجويف البَطْني.
 
ولكن المُتَأمل سيظهر له أنَّ الجوف هو المَعِدة فقط، أي إنَّ المفطر هو ما يصل إلى المَعِدة دون غيرها من تجاويف البدن؛ لأن المعدة - كما هو معروف - مكان التَّغذية، ووصول الطَّعام إليه ليمدَّ الجسم بالطاقة، وبناء عليه؛ يمكن في المسائل التالية، محاولة معرفة هل ما يتناوله الصائم عبر المنافذ المختلفة في البدن يصل به إلى المعدة، أو لا؟ وذلك للوصول للحكم على أنَّ ذلك الشَّيء الذي تناوله الصائم قد دخل إلى الجوف (المعدة)، فتغذى الجسم منه فأفطر؛ أم لا.
 
 وعند التأمُّل في قول الله - تعالى -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}[17]، يَتَبَيَّن أنَّ الشَّارع علَّق الفطر على الأكل والشُّرب، وكما هو معلوم أنَّ الأكل والشُّرب في حالة الإنسان الطبعي - أي: في صحَّة تامَّة، غير مريض - يكون بالفم، والغرض غالبًا منَ الأكل والشُّرب هو تغذية الجسم، فإذا لم يَتَحَقَّق هذا الأمر فيما يصل إلى الجوف (المعدة)، فلا يُسمَّى أكلاً ولا شربًا.
 
وبِمَعنًى آخر: فإنَّ الفطر يحصُل بِأَحد أمرين[18]:
الأول: الأكل والشُّرب، وهو إيصال الطعام أوِ الشَّرَاب إلى الجوف (المعدة)، من طريق الفم أو الأنف، بِشَرط أن يستقرَّ الداخل في الجوف (المعدة)، ويتحلل فيه، فأمَّا ما لا يستقر؛ كما لو أدخل خيطًا أو منظارًا ثم أخرجه، فلا يفطر، وكذا إذا كان لا يتحلل في جوفه: كالحصاة، والنُّقود المعدنيَّة، ونحوها.
 
الثاني: ما كان بِمَعْنى الأكل والشُّرب، وهو كل ما ينفذ إلى البدن، ولو مِن غير الفم أو الأنف مما فيه تغذية للبَدَن، فأمَّا ما ليس بِمُغذٍّ (ليس مقصودًا لذاته)، فليس بِمُفطر؛ لأنَّه ليس أكلاً ولا شُربًا ولا بمعناهما، وهذه مقدمة هامَّة أرجع إليها فيما يأتي مِن مسائل معاصرةٍ، هل هي مُفسدة للصِّيام، أو لا؟
 
 
المسألة الأولى
غسيل الكُلى وقياسه على الحجامة
وأَثَر ذلك على الصِّيام
يعتبر الفَشَل الكُلوي منَ الأمراض الشائعة التي انتشرت في هذا العصر، والكُلية ذلك العضو مع صغر حجمه، إلاَّ أنَّه يقوم بوظائف أساسيةٍ، ترتكز عليها حياة الإنسان، فلا يستطيع العيش بدونها، إلاَّ أن الطبَّ الحديث قدِ استحدثَ ثلاث طُرُق لِمَرضى الفَشَل الكُلوي، وهي:
1- الغسيل الدموي (الديلزة الدموية).
2- الغسيل البريتوني (الديلزة الصفاقية).
3- زراعة كُلية جَدِيدة.
 
فأمَّا زراعة كُلية جديدة فهو موضوع آخر، يَتَعَلَّق بِحُكم زراعة الأعضاء، وأمَّا الطريقتان الأوليان فهما الحَلُّ الأسرع والمبدئي، الذي يُعمل لِسَائر مرضى الفشل الكُلوي.
 
والمريض المُصَاب بِهَذا المرض في شهر رمضان مُضطر للدُّخول في إحدى هاتين الطريقتين، وفيما يلي أُلقي نظرةً طبِّيَّة سريعةً عليهما؛ حتى يمكن تَصَوُّر الحكم في كونهما مُفطرتينِ أم لا.
 
الطريقة الأولى: طريقة الغسيل الدموي للكُلى، ويُعرف بالديلزة الدموية:
 تعتمد هذه الطَّريقة على ضَخِّ الدم من خلال الكُلية الصناعية، التي يتم من خلالها إزالة السُّموم، ومِن ثَمَّ إعادة الدم إلى الجسم.
 
والكُلية الصناعيَّة: هي عبارة عنِ اسطوانة، تَحْتوي على غشاء يفصل بين الدم وبين سائل التَّنقية، ويوجد في هذا الغشاء فتحات صغيرة جدًّا، تسمح بِمُرور السموم والأملاح إلى سائل التنقية، وسائل التنقية عبارة عن ماء يُضاف إليه بعض الأملاح، وسكر، ومعادن، تُعادل الكميات الموجودة في الدم، تَعْبر الفضلات السَّامة والأملاح الزَّائدة منَ الدم إلى سائل التنقية، يحدث العكس كذلك، أي: تعبر الفضلات السامة والأملاح الزائدة من سائل التنقية إلى الدم، ومِن ثَمَّ يتم ضخ الدَّم إلى الجسم مَرَّة أُخرى، بينما يطرد سائل التنقية المُحَمَّل بِالفَضلات السامة إلى الصَّرْف الصِّحي.
 
وتستلزم عمليَّة التنقية الدَّمويَّة هذه إعطاء أدوية متعددة كمسيلات مثل: الهرمونات، والفيتامينات، كما تستغرق هذه العملية من 3 - 4 ساعات، ثلاث مرات أُسبوعيًّا.
 
الطريقة الثانية: التنقية البريتونية (الديلزة الصفاقية):
أشرت في الطريقة السابقة إلى الغشاء الموجود في الكُلية الصناعيَّة، والذي يفصل بين الدم وبين سائل التنقية، وهذا الغِشاء يوجد مثله في بطن الإنسان، يحيط بالأمعاء والأعضاء الأخرى، وهو يسمح لأمعاء البطن بالتَّحَرُّك، دون حُدُوث احتكاكٍ فيما بينها، كذلك في هذه الطريقة يوجد الغِشاء البريتوني، الذي يحتوي على فتحات صغيرة جدًّا تشبه المنخل، يوضع في تجويف البطن، حيث يتم إدخال أنبوب صغير في البطن، وينفذ منَ الجسم بِجَانب السُّرة؛ لِيَقوم بإدخال سائل التَّنقية إلى تجويف البطن؛ لتَتَرَشح الفضلات السامة منَ الدم الموجود في الأوعية الدَّمَوية لأعضاء البطن، إلى سائل التنقية، ويَتَكَوَّن سائل التنقية المستخدم في هذه الطريقة منَ الماء النَّقي، مُضافًا إليه الأملاح، والمعادن، والسكر.
 
وهناك طريقتان في استخدام الغسيل البريتوني هما:
1- الطَّريقة اليدوية.
2- الطَّريقة الأوتوماتيكية (الآلية).
 
الطريقة اليدوية:
في هذه الطريقة يقوم المريض بِوَضع السَّائل النَّقي في تَجْويف البطن، حيث يُترك السائل من 4 إلى 6 ساعات، خلال هذه الفترة تنتقل الفضلات السامة منَ الدم إلى تجويف البطن إلى السائل، وبعد مرور هذه الفترة يُعاود المريض إلى فتح الأنبوب، وتفريغ السائل المُحَمَّل بالسموم والسوائل الزائدة عن حاجة الجسم، ثم يتم وضع سائل نقي مرة أُخرى في تجويف البطن، وفي كل مرة يضع المريض كميات تَتَرَاوح بين 1 إلى 3 لترات، حسب حجم جسمه، وتَتَكَرَّر هذه العمليَّة من 4 إلى 5 مرات يوميًّا.
 
الطريقة الثانية:
تعتمد هذه الطَّريقة على استخدام جهاز يقوم بِوَضع السائل النقي، وسحب السائل المُحَمَّل بالسموم، لِفَترة تَتَرَاوح من 7 إلى 9 ساعات، أثناء النَّوم فقط، وخلال هذه الفترة يظل المريض مُتَّصل بجهاز الغسيل البريتوني، وتمتاز هذه الطَّريقة بِعَدم حاجة المريض لِفَصْل وإعادة شبك الأنبوب الموجود في البطن، كذلك عدم حاجته إلى وَضْع وتفريغ السائل بِنَفْسه؛ ولكن هذه الطريقة تَتَطَلَّب وجود المريض في السرير خلال فترة الديلزة[19].
 
وبعد هذا العَرْض الطِّبي السريع في كيفيَّة غسيل الكُلى، والتَّصَوُّر الواضح الذي خرجنا به عمَّا يتم فيه منَ الناحية الطِّبية، أَنْتَقِل إلى ذِكْر شيءٍ مما قيل في الحجامة؛ لكونها قريبة شيئًا ما منَ الغسيل الكُلوي، إضافةً إلى أنَّ عددًا منَ الباحثين المعاصرين يقيسون غسيل الكُلى بالحجامة، وفي هذا القياس نَظَر، وأعده منَ القياس مع الفارق - من الناحية الطبية - حيث إنَّ الحجامة - كما هو معروف - استخراج دم فاسد منَ البَدَن - من أي جزءٍ منه - ولا يُعوض بِبَدِيل عنه، بينما غسيل الكُلى هو إخراج دم مُحَمّل بالسموم وإعادته دمًا منقى؛ بل مضافًا إليه بعض المواد المُغَذية، وأُخرى غير المُغَذية.
 
ومع ذلك كله، فَلْنَنْظُر فيما ذكر عنِ الحجامة من خلاف، وأدلة، عَلَّنا نخرج بعدها وبعد عرضنا الطبي السابق بِنَتِيجة في مسألتنا.
 
فالحجامة - كما هي معروفة -: إخراج الدَّم منَ البَدَن للتَّداوي، وفيها خلاف طويل لأهْلِ العلم في كونها مُفطرة أم لا، وهل يفطر الحاجم والمحجوم بها، ومُلَخَّص ذلك كما يلي:
 
القول الأول:
وهو القول بِفَساد الصوم بالحجامة، وبفطر الحاجم والمحجوم بِفِعْلها، وهو مذهب الحنابلة، ونُقِل عن جماعة منَ الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يحتجمون ليلاً، ويَتَجَنّبون الحجامة بالنَّهار، نُقل هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وأنس،     وغيرهم، - رضي الله عنهم[20].
والدليل العُمْدة الذي يحتج به مَن قال بِفَساد الصوم بالحجامة، هو قول النبي: - صلى الله عليه وسلم -: ((أفطر الحاجم والمحجوم))[21].
 
القول الثاني:
وهو القول بأن الحجامة لا تفسد الصوم، ولا يفطر بها لا الحاجم ولا المحجوم، وهذا مذهب الحنفية[22]، والمالكية[23]، والشافعية[24].
 
ومما استُدل به لِهَذا القول ما يلي:
1 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - "احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم"[25].
 
2 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رخص في الحجامة للصائم[26].
وجه الدلالة منه: وقوله "رخص"، دليل على أنه كان ممنوعًا، ثم رخص فيه، فهذا حجة لِمَن قالوا بأن آخر الأمرين هو الرُّخصة بالحجامة للصائم[27]،وقال ابن حزم: "صَحَّ حديث: ((أفطر الحاجم والمحجوم))[28] بلا ريب؛ لكن وَجَدْنا من حديث أبي سعيد: ((أرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة للصَّائم))، وإسناده صحيح، فوَجَبَ الأخْذ به؛ لأنَّ الرُّخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدَلَّ على نسخ الفطر بالحجامة، سواء كان حاجمًا أم محجومًا"[29].
 
3 - وكذلك حديث أنس - رضي الله عنه -أنه سُئِل: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: "لا، إلاَّ من أجل الضَّعف"[30]؛ أي: لم يكونوا يكرهون الحجامة؛ لأنها     تفطر، ولكن كانوا يكرهونها خشيةَ أن يضعف الصائم فيفطر، إلى غير ذلك مِن أقوال الصَّحابة والتَّابعين.
 
وقد وَرَدَتْ بعض المناقشات على دليل أصحاب القول الأول: ((أفطر الحاجم والمحجوم))، أذكر بعضًا منها:
1 - بأنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على رجلينِ، وهما يغتابان، وكان أحدهما حاجمًا والآخر محجومًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أفطرا))؛ بسبب الغِيبة، وهذا ضَعيف سندًا، وضعيفٌ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عَلَّق الفطر بالحجامة، ولأن الغيبة لا تفطر،     باتِّفاق العلماء أو ما يُشبه الاتفاق[31].
 
2 - وأجاب بعضهم بأن معنى أفطر - أي قارب الفطر - أي: كادا أن يفطرا؛ لأن الغالب أنه إذا احتجم، فإنه يضعف عن مُوَاصَلة الصيام، وقد يحتاج إلى الأكل أوِ الشُّرب، وهذا إن صحَّ في حال المحجوم، فليس بِوَاضح     في حال الحاجم؛ لأنَّه لم يُسْتخرج منه شيء[32].
 
3 - وقيل: إنَّ حديث: ((أفطر الحاجم والمحجوم))، منسوخ بِحَديث ابن عباس - رضي الله عنهما - السابق[33].
 
الخلاصة والترجيح:
وَلَعَلَّ القول الذي استند إلى الحجَّة الأقوى، هو ما ذَهَب إليه الجمهور مِن أنَّ الحجامة لا تفسد الصَّوم.

______

[1] - الآية (187)، من سورة البقرة.
[2] - أخْرجَه البخاري في كتاب الحَيْض، باب ترك الحائِض الصَّومَ، (1/116)، رقم (298).
[3] - أخرجه أبو داود في كتاب الصيام، باب الاستنشاق للصائم، (1/721)، رقم (2366)، والتِّرمذي في كتاب الصيام، باب ما جاء في كَرَاهية مُبَالغة الاستنشاق للصائم (3/155)، رقم (788)، والنسائي في كتاب الطهارة، باب المبالغة في الاستنشاق (1/66)، رقم (87)، وابن ماجَهْ في كتاب الطهارة وسننها، باب المبالغة في الاستنشاق والاستنفار، (1/142)، رقم (407)، وابن خُزَيمة في صحيحه، في كتاب الوضوء، (1/78)، رقم (150)، وابن حِبَّان في كتاب الطهارة، باب فروض الوضوء (3/332)، رقم (1054)، والحاكِم في "مستدركه"، في كتاب الطَّهارة، (1/248)، رقم (525)، من حديث لقيط بن صبرة عن أبيه عامر- رضي الله عنه.
[4] - أخرجه الترمذي في كتاب الصيام، باب ما جاء فِيمَن استقاءَ عمدًا، (3/98)، رقم (720)، وابن ماجَهْ في كتاب الصيام، باب ما جاء في الصائم يَقِيء (1/536)، رقم (1676)، وابن حِبَّان في كتاب الصيام، (8/284)، رقم (3518)، والحاكِم في كتاب الصيام (1/589)، رقم (1557).
[5] - في "المُغْنِي" (3/20).
[6] - أخرجَه البخاري في كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15]، (6/2723)، رقم (7054)، ومسلم في كتاب الصِّيام، باب فضل الصَّوم (2/806)، رقم (164).
[7] - الجائفة هي: الطعنة التي تبلغ الجوف، وتنفذ إليه، انظر: "لسان العرب"، مادة (جلف) (9/30)، و"المطلع" (1/367).
[8] - "البحر الرائق" (8/381).
[9] - "بدائع الصنائع" (2/106).
[10] - "بدائع الصنائع" (4/9)، و(2/93)، (2/106)، "البحر الرائق" (8/381).
[11] - "المدونة" (4/566).
[12] - "المدونة" (4/566)، "الشرح الكبير" (1/524)، "بداية المجتهد" (1/212).
[13] - "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج"، لشمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة ابن شهاب الدين الرملي، الشهير بالشافعي الصغير، الناشر: دار الفكر للطباعة، بيروت، عام 1404هـ - 1984م، (3/165).
[14] - المأمومة: الجراحة الواصلة التي تصل إلى جلدة الدماغ انظر: "المغني" (9/647)، وقال في "اللسان": هي التي لا يبقى بينها وبين الدماغ إلا جلدة رقيقة، انظر "لسان العرب"، مادة (شجج) (2/303).
[15] - "الكافي" (1/352).
[16] - (3/36).
[17] - الآية (187)، من سورة البقرة.
[18] - انظر في ذلك مبحث "العلاج بالاستنشاق، وأثره على الصيام"، ليوسف بن عبدالله الشبيلي، قَدَّمَه في الجلسة الثانية من النَّدوة الفِقْهيَّة الأولى، والتي بعنوان: "التداوي بالمستجدات الطِّبية، وأثرها على الصِّيام"، نُشِر من ضمن سلسلة الإصدارات الفقهيَّة، رقم (1)، لموقع الفقه الإسلامي، ص (67)، بِتَصَرُّف.
[19] - العرض الطبي السابق لَخَّصْته منَ الجلسة الأولى، المُنْعَقِدة في النَّدوة الفِقهيَّة الأولى، "التداوي بالمستجدات الطِّبية، وأثرها على الصيام"، في الرِّياض بتاريخ 23/8/1428هـ، والتي أعدتها أمانة موقع الفقه الإسلامي، وكانت عنوان هذه الجلسة "غسيل الكُلى، وأثره على الصيام"، البحث الطبي: "طرق الديلزة (تنقية الدم) المستخدم لمرضى الفشل الكلوي"، لعبدالركريم بن عمر السويدا، في سلسلة الإصدارات الفِقهيَّة لِمَوْقع الفقه الإسلامي، رقم (1)، ص (9 - 15)، تاريخ النشر 1428هـ.
[20] - وقول غالِب فُقَهاء أهل الحديث؛ كإسحاق بن راهويه، وابن   المنذر، وعطاء، والحسن، وغيرهم، "فتح الباري" (4/178).
[21] - هذا الحديث الشريف مِن أكثر أحاديث الأحكام تَجَاذُبًا بين الأئمة مِن محدثين وفُقَهاء، تَصْحيحًا وتَضْعيفًا، تَسْليمًا لظاهره، وتأويلاً له، أوِ القول بأنه منسوخ أو غير منسوخ، وقد روى هذا الحديث كما في "نصب الراية" (2/341) ثمانية عشر صحابيًّا، منهم: شداد بن أوس، وثوبان، ورافع بن خديج، وجاء عن آخرين منَ   الصحابة؛ كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، وابن عباس، وأبي موسى،   وأبي هريرة، وبلال، وأسامة بن زيد، وعائشة، وصفيَّة، وغيرهم - رضي الله عنهم - فطرقُه كثيرة   جدًّا، وقد أخْرَجه أبو داود في كتاب الصيام، باب في الصائم يَحْتَجِم (1/721)، رقم (2367)، وابن ماجَهْ في كتاب الصِّيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم (1/537)، رقم (1680)، وأحمد (5/276)، رقم (22425)، وابن خُزَيْمة في كتاب الصِّيام، باب ذِكْر البيان أنَّ الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم جميعًا (3/226)، رقم (1963)، وابن حِبَّان في كتاب الصيام (8/301)، كلُّهم من حديث ثَوْبان مَوْلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
[22] - "المبسوط" للسَّرَخْسِي (3/57)، "بدائع الصنائع" (2/100).
[23] - "الفَوَاكه الدَّوَاني" (1/308)، "الذخيرة" (2/506).
[24] - "الأم" (2/97)، "المجموع" (6/364).
[25] - أخرجه البخاري في كتاب الصيام، باب الحِجامة والقيء للصائم (2/685)، رقم (1836)، ولكن هذا اللفظ وإن كان في البخاري     - قد أنْكَره جماعة، وأعلَّه آخرون منَ الأئمة، وقالوا: الصَّواب أنه احتجم وهو   محرم، أما زيادة ((وهو صائم))، فإنها لا تثبت، وآخرون أثبتوها، انظر: "التلخيص الحبير" (2/192)، قال الصنعاني في "سبل السلام" (4/105)، ظاهره أنه وقع منه الأمران المذكوران مفترقين، وأنه احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم؛ ولكنه لم يقع ذلك في وقت واحد؛ لأنه لم يكن صائمًا في إحرامه، إذا أراد إحرامه وهو في حجة الوداع إذ ليس في رمضان، ولا كان محرمًا في سَفَره في رمضان".
[26] - أخرجه النسائي، في كتاب الصيام، باب الحجامة للصائم وذكر الأسانيد المختلفة فيه، (2/236)، رقم (3237)، وأخْرَجه ابن خُزَيمة في صحيحه، في كتاب الصيام، باب ذكر البيان أنَّ الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم جميعًا، (3/231)، والدَّارقطني، في كتاب الصيام، باب القبلة للصائم (2/182)، رقم (9)، والبَيْهقي في "الكبرى"، واللفظ له، في كتاب الصيام، باب الصائم يحتجم لا يبطل صومه (4/264)، رقم (8057)،
[27] - انظر: "فتح الباري" (4/178).
[28] - سبق تخريجه.
[29] - "المحلى" (6/204).
[30] - أخرجه البخاري، في كتاب الصيام، باب الحجامة والقيء للصائم (2/685)، رقم (1838).
[31] - "فتح الباري" (4/178).
[32] - "فتح الباري" (4/178).
[33] - "المحلى" (6/204).