الصومال: حرب تغيير التوازنات
21 رمضان 1431
طلعت رميح

تبدو الاشتباكات السياسية العسكرية الجارية بين سلطة الشيخ شريف المدعوم اثيوبيا وامريكا وقوات المعارضة الصومالية، حالة من حالات اثبات الوجود، واستمرارا لحالة من حالات التضاغط المنطلق من المواقع الثابتة، او نمط من محاولات تحسين الاوضاع علي الأرض بالحصول علي امتار هنا وهناك، غير أن كل تلك الاشتباكات التي تجري منذ تشكل سلطة شريف بشكل متقطع ليست الا تكتيكات ، يحاول كل طرف من ورائها تعديل توازنات الصراع علي نحو استراتيجي شامل ، استعدادا لمواجهات حاسمة ،يبدو أي الطرفين لم يصل أي منهم إلى مجيء وقتها بعد، اذ الطرفان لا يزالان فى وضع التوازن على الصعد السياسية والعسكرية وفق عوامل داخلية وخارجية ،لا يمكن لاى من الطرفين حسم المعركة في ظلها.

 

وواقع الحال، أن المشهد الصومالي بات مروعا، إذ مجرد استمرار حالة التقاتل والاحتراب الداخلي، لوقت قارب الثلاثين عاما، قد أصاب "المجتمع" في هذا البلد بحالة حادة من الإنهاك، كما أن اتجاهات الصراع شهدت تبدلات وتغييرات متعددة، لكنها كانت تقود في الأغلب إلى ذات النقطة أو الحالة من انفراط عقد هذا البلد، بما قد يوحي بأن كل ما يجري الآن، لن يأتي بجديد للصومال شعبا وأرضا ودولة، إذ إن أوضاع الصومال صارت تشي بأن ثمة توافقا دوليا- أو اتفاق مصالح بين الدول الكبري وبعض الدول الاقليمية – على ألا يعود هذا البلد الي حالة الاستقرار وإعادة بناء دولة مركزية موحدة، وهو ما يعني هنا أن قوى دولية وإقليمية عملت وستعمل بصفة دائمة على إعادة إنتاج حالة الصراع في داخل المجتمع الصومالي، مستفيدة من حالة الإنهاك التي يعيشها المجتمع والفرد بسبب طول مدة أمد الصراع ، وافتقاد وجود دولة مركزية.غير ان المتابع لسنن تطور المجتمعتات و تقلبها بين التفكك وإعادة النهوض، يدرك جيدا ويقينا أن كل ما يجري وإن طال، لن يهزم إرادة الصوماليين، في إعادة بناء دولتهم الموحدة، بل يمكن القول بأن كل تلك العوامل المتكاثرة حول الصومال وبشأنه، قد تمثل في ذاتها الضاغط والمحفز لأهل الصومال، لإعادة صياغة مشروع النهضة.
وفي ذلك يمكن القول، بأن المعارك التكتيكية الحارية حاليا، هي نمط من أشكال إعادة صياغة التوازنات، وإن مرحلة حاسمة تلوح في الأفق، يمكن لها، أن تكون البداية لإعادة صياغة الصومال الجديد، بغض النظر عن من يكون القائد لتلك المسيرة.

 

الدورة المتكررة في الصومال
لقد انتقل الصراع في الصومال نقلة موضوعية جديدة كليا في الوضع الراهن، إذ هو يجري على أرضية وطنية قادرة على الفرز داخل القوى السياسية التى تحاول صياغة الصومال القادم. على خلاف مراحل سابقة كان الصراع يجرى فيها على خلفيات ضيقة (أغلبها عدمي تناحري) وغير واضحة المعالم الوطنية في فكرة بناء الصومال، أو ربما كانت تجارة الموت للأفراد والوطن.
في بداية الصراع كان صوماليا – صوماليا في المظهر والأدوات. كان ذلك في الفترة التالية لسقوط نظام الرئيس محمد سياد بري،الذي راح ضحية الصراع الدولي بين الولايات المتحدة والمرتبطين بها في الشأن الإفريقي من جهة والاتحاد السوفيتي من جهة أخرى، ومن بعد، وعقب الانهيار الذي حدث لكل مؤسسات الدولة الصومالية، تقاتلت الميلشيات أو العصابات الصومالية –أمراء الحرب-علي خلفية تفكيك المجتمع ، بالارتباط مع أطراف خارجية أهمها إثيوبيا – والولايات المتحدة بالطبع - إذ وضع البلدان خطة لاستمرار التطاحن بين الصوماليين، لتتمكن اثيوبيا من الحصول علي منفذ بحري بديلا لمنفذها البحري المفقود بعد استقلال إريتريا، ولتحصل الولايات المتحدة على مساحة فراغ عند مداخل البحر الاحمر ،تمكنها من السيطرة علي الشئون الافريقية ،والخليج العربي و البحر الاحمر دفعة واحدة.

 

وحين تصورت الولايات المتحدة ،ان الاقتتال الدائم انهك المجتمع الصومالي الي درجة تسمح لها باحتلال الصومال ،هي فعلت ذلك تحت غطاء الامم المتحدة ،فارسلت قواتها العسكرية لغزو واحتلال الصومال ،لكنها تعرضت لهزيمة مدوية ،فعادت بالتحالف مع اثيوبيا الي خططها السابقة في استمرار انهاك المجتمع الصومالي عبر التقاتل بين المليشيات ،و هو ما يجري حتي انتفض المجتمع الصومالي ،في مواجهة ما يتعرض له،وكانت الانتفاضة لاعادة بناء الصومال ممثلة فى المحاكم الاسلامية..
"انتج " المجتمع الصومالى ،بالغ الحيوية في القدرة علي مواجهة اشد الجرائم دموية و اتقانا فى لعبة تفكيك الدول،تنظيم المحاكم الاسلامية ،الذي تشكل من عناصر صومالية اسلامية و عشائرية و قبلية،كانت ضياءا في بحر الظلمات،فالتف حولها اهل الصومال ،وصارت توحد الارض و المجتمع و تبني اسس الدولة الصومالية.هنا تحولت القوى الدولية والاقليمية الى مسالة الاحتلال المباشر .لقد ووجهت تجربة المحاكم الاسلامية ،بالغزو الاحتلال الاثيوبي المباشر ،و بالقصف الدموى للطائرات الامريكية من ذات الطراز القادر علي القصف النووي الاستراتيجي – ب52-التي استخدمت ذاتها في العدوان علي العراق وأفغانستان. أعاد المجتمع الصومالي دورة الحيوية في داخلة ،ليقاتل المحتل الاثيوبي علي الارض،مشكلا واحدة من المقاومات التاريخية في تاريخ الامة الاسلامية. كانت مقاومة مبهرة القوة والقدرة ، لم تستطع معها القوات الإثيوبية الغازية المحتلة إلا ترك الصومال والعودة إلى ما وراء الحدود، حاملة هزيمتها، وهي من ساندها الغرب خاصة الولايات المتحدة.

 

غير أن مثل تلك المعارك – مثل كل حروب التحرير - لا تخاض بالسلاح أساسا، بل بالوحدة الوطنية وعمق التوافق بين القادة على أسس استراتيجية، وذلك ما لم يكن متوفرا لدى حركة المحاكم الإسلامية، لأسباب كثيرة منها عدم الاستقرار في العالم الإسلامي الحاضر على نمط مستقر في إدارة الدول والأزمات والعلاقات الإقليمية والدولية …الخ، ومنها أن المحاكم ولدت في مجتمع طال تمزقه وتقاتله وتعدد أعدائه الطامعين فيه، ومنها قصر مدة تشكل المحاكم، وإسراع الدول الطامعة بمهاجمة تجربتها وإجهاضها.
قبل أن تنسحب قوات الاحتلال الإثيوبية، كانت هي و(حلفاؤها الغربيين) قد أحدثوا شرخا في العلاقات بين قيادات المحاكم الاسلامية إذ رضي الشيخ شريف ومن معه، بالاتفاق مع من كانوا ارتضوا تشكيل الحكم تحت سيطرة القوات الإثيوبية المحتلة، فشكل تحالف أسسوا على قواعده السلطة الجديدة، بينما رفض الشيخ أويس ومن معه مثل هذا الاتفاق، وأبوا إلا أن يكون التحرير ناجزا ونهائيا، وأن يجري بناء الدولة الصومالية الجديدة، على أساس من هوية البلاد الاسلامية، وأن تعمل تلك الدولة على استعادة وحدة البلاد، باستعادة ما كانت احتلته اثيوبيا تاريخيا (إقليم الأوجادين)- أو ما تفتت من الصومال، مثلا ما يسمي جمهورية أرض الصومال.. إلخ.
أصبحنا مرة أخرى أمام اقتتال أهلي، بين طرف الشيخ شريف وسلطته ورؤيته، التي سرعان ما حصلت على اعتراف من إثيوبيا ودول إفريقية أخرى ومن الولايات المتحدة - بما أدى لوصول قوات إفريقيا تنفق عليها الولايات المتحدة لحماية تلك السلطة - وطرف شباب المجاهدين الإسلاميين والحزب الإسلامي، الذين انحازوا لرؤية الشيخ أويس، الذي أصبح في مواجهة مع سلطة شريف وقوات إفريقيا والدعم الأمريكي، وصارت تجري المعارك السياسية الحالية.
لكن ما تأسس هنا، هو أننا أمام صراع بين رؤيتين لبناء الصومال وتحديد هويته ومستقبله. لم نعد أمام تقاتل عدمي كما كان الحال أيام صراع المليشيات.

 

تعديل التوازنات 
كان نمط الصراع بين الحاكم الإسلامية والسلطة الهشة المرتبطة بإثيوبيا والغرب - في تلك المرحلة - صراع واضح المعالم، بما سمح لقوات المحاكم بتحقيق الانتصار على نحو أسرع، نتيجة جمعها وتوحيدها الحركة الوطنية الصومالية.
وكان الصراع بين المحاكم، وغيرها من الحركات الاسلامية من جهة، وقوات الاحتلال الإثيوبية من جهة أخرى، أشد وضوحا وتحديدا في أهدافه، فجرى حشد كل القوى لإنجاز هدف تحرير البلاد من الاحتلال.
لكن الصراع الراهن، يحمل معه بعض عوامل الالتباس، بما أحدث الحالة التي تجري الآن في الصراع، إذ تجري حالة من إزالة الالتباس، وترتيب التحالفات وتعديل التوازنات السياسية والعسكرية من كلا الطرفين.
لقد أصبح قائد المحاكم الإسلامية والناطق الرسمي والإعلامي باسمها، هو رئيس السلطة التي تقاتلها جماعات أساسية شكلت بنية وعوامل قوة المحاكم الإسلامية سابقا، فحدث الالتباس داخل المجتمع وحركة المقاومة.
وعلى ذات الطريقة؛ فإن انسحاب قوات الاحتلال الإثيوبية قد جعل البعض يرى أن شرط المقاومة الأساسي قد تحقق، إذ يلتبس على البعض أن القوات الإفريقية حليفة لإثيوبيا والولايات المتحدة، وأنها تقوم بذات دورها، وأنها هي من يحمى سلطة الشيخ شريف المتعاونة مع الاحتلال الإثيوبي الأمريكي.
حدث الالتباس داخل المجتمع وحركة المقاومة وتداخلت خطوط الصراع الداخلي، مع خطوط صراعات إقليمية ودولية لعل أهمها خط الصراع الإثيوبي الإرتيري. والشعب الصومالي يعادي إثيوبيا (وهي تقف مع سلطة شريف)، وينظر بحذر للدور الاريتري (وهى من تدعم الشيخ أويس)، إذ تلك الدولة هي من قاتلت اليمن لحساب الكيان الصهيوني واحتلت أرضه لبعض الوقت (جزر حنيش)، فحدث الالتباس داخل المجتمع وحركة المقاومة.
لم تعد الأمور في شدة الوضوح السابق، ولم تكن خطة انسلاخ الشيخ شريف عن المقاومة أمر يتعلق بشخصه فقط، إذ ذهب معه بعض القيادات الوسطى، فاحتاجت المرحلة إلى وقت لتشكيل الرؤية الجديدة وتعميم الوضوح وفهم الصورة المعقدة الجديدة لخارطة الصراع ، واحتاجت المرحلة إلى قدر من التكتيكات السياسية والعسكرية، لتعديل التوازنات.

 

القوة والضعف
في المواجهات الجارية الآن، يحاول شيخ شريف تطوير وضع السلطة إلى حالة الدولة المسيطرة، بتطوير قدرات الأجهزة العسكرية والأمنية والإعلامية علي نحو خاص، كما يحاول تشكيل شبكة من التحالفات السياسية والقبلية داخل المجتمع، وكان نجاحه الأبرز في ذلك قد تمثل في عقد تحالف مع إحدى الجماعات الإسلامية (أنصار السنة).
وعلي الصعيد الإقليمي والدولي يستهدف شريف تطوير علاقاته والحصول على دعم سياسي وديبلوماسي وعسكري أقوى، وهو في ذلك يسعى لتصوير نفسه بالمحارب ضد الإرهاب ويسعى لحجز مقعد له فى نادى ما يسمى بالحرب على الإرهاب، وقد نجح في هذا المجال فى الحصول على بعض من المال والسلاح، وفي ذلك هو يتخذ الكثير من التكتيكات، لمواجهة متطلبات المرحلة القادمة.
وفي المقابل يحاول شباب المجاهدين والحزب الإسلامي إفقاد سلطة شريف مصدر تأييدها في الشارع الصومالي عبر إظهار مدي الارتباط بين السلطة والمحتل الإثيوبي والولايات المتحدة والضغط علي سلطة شريف المحاصرة داخل ما يسمي في الصومال بالمنطقة الخضراء علي غرار ما هو حادث في العراق، لإضعاف خيوط تواصلها مع المجتمع من جهة، ولإظهار الأهداف الحقيقية للقوات الإفريقية المنتدبة من قبل إثيوبيا والولايات المتحدة لحماية سلطة شريف.
كما تحاول تلك الحركة توسيع مساحة سيطرتها علي الأرض والسكان، تقليصاً للمساحة التي تسيطر عليها سلطة وقوات شريف.

 

ذلك ما يجري الآن، إذ نحن نشهد مرحلة إعادة ترتيب التوازنات ومحاولة كل طرف تعديلها على حساب الطرف الآخر، وكل ذلك استعدادا لمعارك فاصلة، يبدو أن كلا الطرفين يرى أن ملامح حسمها لم تتحقق بعد.
لكن البادي من متابعة المشهد الصومالي أن قوات شباب المجاهدين هي من تملك الفرصة الأوسع لتعديل التوازنات لصالحها، خاصة أن سلطة شريف التي اعتمدت علي ذات العناصر التي تعاونت مع قوات الاحتلال الاثيوبي، تعاني من انشقاقات وتقلبات حادة في علاقتها الداخلية، وفق المشهد الذي تابعه العالم، خلال عملية تغيير رئيس البرلمان والحكومة، إذ جرت تفلتات وانشقاقات حادة، وحدثت تراجعات عن قرارات وظهرت المصالح الشخصية والإقليمية على نحو متنافر بين عناصر ومكونات تلك السلطة.
وهنا يبقى أن لدى المقاومة (ممثلة فى شباب المجاهدين والحزب الإسلامي ومن معهم) مشكلة حقيقية فى التعاطي مع الوضع الإقليمي والدولي، خاصة وقد جرى الإعلان عن تنفيذ بعض العمليات العسكرية فى داخل الدول التى تتواجد لها قوات على أرض الصومال لحماية سلطة شريف.