النظام السوريّ واللّعب بالنار
4 ذو القعدة 1431
د. محمد بسام يوسف

بعد أحداث السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، حاول النظام السوريّ اتخاذ بعض الإجراءات، لاستيعاب التيار الدينيّ الإسلاميّ، لإبقائه تحت سمعه وبصره، وكان من آثار ذلك: اتساع هذا التيار بقاعدته الشعبية الجماهيرية العريضة، ولاسيما: التيار الصوفيّ المنتشر في جميع المحافظات السورية تقريباً، والجماعات الإسلامية التي تُعنى بالأنشطة المسجدية والتربية الشرعية بعيداً عن التدخّل في السياسة، كجماعة الرفاعي (زيد بن ثابت)، وجماعة (كفتارو) في دمشق، وجماعة الدعوة والتبليغ.. وجماعة (القبيسيات)، وهي جماعة نسائية دمشقية في الأصل، تقودها الداعية (منيرة القبيسي)، ولها نشاطات واسعة في دمشق وما حولها، امتدّت إلى بعض المحافظات السورية. وقد نشطت هذه الجماعات وامتدّت وانتشرت، بفضل حكمة القائمين عليها، وعدم احتكاكها سلبياً مع السلطة وأجهزتها، بل تحت رقابتها، وكان لها دور بارز في الحياة العامة والاجتماعية، وبين طلاب المدارس والجامعات وطالباتها. واستمرّ الأمر على هذه الحال، إلى ما بعد وفاة (حافظ أسد)، وخلال السنوات الأولى من حُكم الوريث غير الشرعيّ (بشار أسد).

 

الأوضاع في عهد الوريث

 

1- لقد عمل النظام في عهد (حافظ أسد)، بعد تعمّق انطلاقة الصحوة الإسلامية في أوائل التسعينيات، شعبياً.. عمل على ركوب موجة هذه الصحوة، بالانفتاح على الحركات الإسلامية (غير السورية) التي تمثّل الشعوب العربية والإسلامية، محاولاً استقطابها، لتحقيق ثلاثة أهدافٍ رئيسيةٍ معاً:
أ- استخدام هذه الحركات الإسلامية أوراقاً ضاغطةً على حكومات بلدانها، ابتزازاً وتهديداً.
ب- استثمار علاقاته بهذه الحركات، لتوسيع مَدَيَات نفوذه واختراقاته الإقليمية.
ج- إقناع الشعب السوريّ -بأكثريّته السنيّة وطبيعته المحافِظة- بأنه لا يتناقض مع الإسلام والمسلمين.

 

2- خلال فترة حكم الوريث بشار، وقعت جملة تطوراتٍ إقليميةٍ ودولية، اشتدّت فيها الضغوط على سورية، لحمل النظام على تقديم سلسلةٍ من التنازلات تجاه أميركة و(الكيان الصهيونيّ) والغرب، لاسيما بما يتعلّق باغتيال الرئيس (رفيق الحريري) رحمه الله، وتشكيل المحكمة الدولية التي شكّلت كابوساً للنظام.. فاستمرّت عملية غَضّ الطَرْف من قِبَله عن التيار الدينيّ الإسلاميّ في المجتمع السوريّ.
3- خلال هذه الفترة، كان التغلغل الإيرانيّ الشيعيّ قد حقّق (بتغطيةٍ كاملةٍ من النظام) بعضَ النجاحات المهمة في سورية، وذلك على المستوى الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ والعسكريّ والأمنيّ والدينيّ أو المذهبيّ.

 

4- بعد تحرّر النظام من الضغوط الغربية في السنتين الأخيرتَيْن، ودخوله في بعض الصفقات مع أميركة والغرب فيما يتعلّق بلبنان والعراق والمفاوضات مع (الكيان الصهيونيّ).. عاد ليلعبَ بعضَ أوراقه القديمة، لتحقيق خطواتٍ مصلحيةٍ تدعم بقاءه:
أ- فهو يقدّم نفسه -حالياً- إلى الغرب، على أنه يحكم دولةً عَلمانية يقودها حزب البعث العَلمانيّ، وذلك لاستمرار تلقّي دعم الغرب العَلمانيّ.
ب- ويقدِّم نفسه إلى (إيران الشيعية الجعفرية)، على أنه حليف إستراتيجيّ لها، بما يفرز ذلك من علاقةٍ طائفيةٍ بين النظامَيْن، وبما ينسجم مع تغطية المشروع الإيرانيّ الشيعيّ داخل سورية.

 

5- لذلك، قام النظام –ويقوم- ببعض الإجراءات القمعية تجاه بعض مؤسّسات المجتمع المدنيّ السوريّ والجمعيات الخيرية السنيّة (إقصاء رؤسائها ومجالس إداراتها بقرارٍ من وزارة الشؤون الاجتماعية بحججٍ تلفيقيةٍ واهية) والمدارس الشرعية السنية، وتجاه المئات من أهل السنة في سلك التربية والتعليم الجامعيّ. كما بدأ يمارس سياسة الضغط والتحجيم تجاه النشاطات الدينية لمختلف الجماعات الإسلامية التي كان يتعايش معها، وذلك دون إبداء أيّ سبب، ودون سابق إنذار.. ومن جملة إجراءاته القمعية الأخيرة:
أ- صدور قراراتٍ رسميةٍ من وزارة التربية بإبعاد (1200) معلّمة محجّبة، بحجّة النقاب، وذلك إلى مؤسّسات وزارة الإدارة المحلية (البلديات)، التي لا علاقة لها بالتعليم.
ب- صدور قرارٍ من وزير التعليم العالي، يقضي بمنع تسجيل الطالبات المنقّبات في الجامعات الرسمية، وبمنع دخول المنقّبات حرم الجامعات.
ج- صدور قرارٍ بإبعاد عددٍ كبيرٍ من المدرِّسين والموجِّهين الاختصاصيّين، من سلك التعليم إلى إدارات وزاراتٍ لا علاقة لها بهذا السلك، كوزارات الصحة والسياحة والإدارة المحلية (البلديات).
د- اشتداد حملات الاعتقال والملاحقة والاغتيال للإسلاميين والأكراد وبعض المعارضين من تجمّع (إعلان دمشق).. وغيرهم: هيثم المالح، ياسر العيتي، علي العبد الله، رياض سيف، فداء الحوراني، طلّ الملوحي (19 عاماً)، آيات أحمد (18 عاماً).. وغيرهم.

 

النتائج

 

أولاً: إن النظام يلعب حالياً الورقة الداخلية القمعيّة بهذه الصورة، ليحقِّق أكثر من هدفٍ في آنٍ واحد:
1- فهو يتقرَّب إلى أميركة والغرب، بتأكيده على علمانيّته، وبذلك يكسب تأييد الغرب ودعمه، أملاً في عَزله عن إيران.
2- ويزداد تقرّباً من حليفه الاستراتيجيّ: إيران الشيعية الطائفية، وذلك بتأكيده على ضَرب أهل السنّة وقمعهم وتحجيم نشاطاتهم، وذلك لصالح تمدّد النشاط الإيرانيّ الشيعيّ في سورية، على مختلف الأصعدة.
3- ويحقِّق مبتغاه الطائفيّ المصلحيّ من ضَرب التيار الدينيّ الإسلاميّ، من منطلقاتٍ تاريخيةٍ طائفيةٍ خالصة، لتعزيز سيطرة الأقلية الطائفية على الدولة السورية والمجتمع السوريّ.
في اقتناعنا: إنّ الغرب لن يستطيع عزل النظام السوريّ عن إيران، وذلك لأنّ هذا الغرب لم يُقَدِّر حتى الآن، عمق العلاقة الطائفية والأمنية بين النظامَيْن السوريّ والإيرانيّ، التي وصلت إلى درجة إحاطة بشار أسد: بحماية الحرس الثوريّ الإيرانيّ، وبالنفوذ العميق لأخطبوط السفارة الإيرانية في قلب العاصمة دمشق.

 

ثانياً: هناك بعض المعلومات التي تفيد، بأنّ مستشارة بشار أسد (بثينة شعبان) للشؤون السياسية والإعلامية.. هي أحد أهم المحرِّضين على شنّ هذه الحملات القمعية ضد التيار الدينيّ الإسلاميّ، فضلاً عن رؤساء بعض الأجهزة الأمنية، لاسيما المخابرات العسكرية.. وهذا يعني أنّ هذه الحملات تنطلق من القصر الجمهوريّ، كما تنطلق من المؤسّسات الأمنية المخابراتية المختلفة، فهي سياسة جديدة تنفَّذ من قِبَلِ أعلى المستويات الحاكمة.. لذلك فهو لعب بالنار -كما نعتقد- غير محسوب النتائج، وإنّ ما يقوم به النظام من حملاتٍ قمعيةٍ واستفزازٍ متعمَّد للمجتمع السوريّ المحافظ والتيار الدينيّ الإسلاميّ.. يذكّرنا بالمرحلة التي سبقت الانفجار العام في سورية أواخر السبعينيات، فقد نجح النظام فعلاً في تفجير المجتمع السوريّ في ذلك الوقت، نتيجة سياساته وإجراءاته التي تشبه إلى حدٍ كبيرٍ ما يقوم به اليوم، وقد كان وقود ذلك التفجير الاجتماعيّ شرائحَ مختلفةً من أبناء الشعب، الذين اتّبع هذا النظام معهم سياسة الأرض المحروقة، فوجد المجتمع نفسه أمام حرب إبادةٍ طاحنة، تدور رحاها تحت سَمْع القوى الدولية الفاعلة وبصرها، وبغطاء الصمت الذي مارسه المجتمع الدوليّ، وقد أدّت سياسة القمع والإرهاب والحقد التي كانت تتم في أقبية السجون، وتصفية آلاف المعتقلين من علماء ومثقّفين، إلى أن يرى المواطن السوريّ نفسه بين خيارين اثنين: إما أن يموت تحت سياط الجلّادين فيما لو وقع في قبضة أجهزة الأمن القمعية.. أو أن يدافع عن نفسه بما يصل إلى يديه من وسائل الدفاع!.. وبذلك اختار الشعب –في تلك الحقبة- خيار الدفاع عن النفس -بمختلف الوسائل- ومواجهة سياسات البطش.

 

ثالثاً: لذلك، فإنّ الأوضاع الداخلية السورية –بتقديرنا- تسير إلى مزيدٍ من الاحتقان، لأسبابٍ استفزازيةٍ كثيرةٍ يقترفها النظام باستهتار، منها:
1- الحملات القمعية المذكورة التي يمارسها هذا النظام، فضلاً عن التمييز الطائفيّ المتجذِّر في مؤسّسات الجيش والأمن والدولة.
2- تمدّد إيران الشيعية بمشروعها المشبوه، في الداخل السوريّ، وعلى جميع المستويات، وفي المفاصل المهمة المختلفة للدولة.
3- الفساد الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وسيطرة حيتان النظام والأسرة الحاكمة على الاقتصاد السوريّ، واستشراء النهب والرشوة، وازدياد نسبة الفقر، وازدياد نسبة العاطلين عن العمل: [تقرير غربيّ يذكر مؤخراً، بأنّ نسبة العاطلين عن العمل في صفوف خرّيجي الجامعات السوريين دون الثلاثين من العمر.. قد بلغت هذا العام (2010م) نسبة 48%]!..
*     *     *

 

إنّ ما يقوم به النظام من حملات القمع، ومن استفزاز الشعب السوريّ، بتغطيته الكاملة لتغلغل المشروع الشعوبيّ الشيعيّ الإيرانيّ في سورية.. لن تكون عواقبه محصورةً –كما نعتقد- في الداخل السوريّ، بل ستصل شرارة الانفجارات الاجتماعية التي يحرِّض عليها هذا النظام إلى أبعد من سورية (لا سمح الله)، لاسيما دول الجوار، لذلك فإننا نرى، أنّ هذا الواقع يتطلّب تعاوناً من قِبَلِ جميع الأطراف المـَعنيّة، لدرء هذا الشرّ المستطير، الذي لا يتورّع النظام السوريّ عن أن يكونَ صانعاً لصاعقه الرئيسيّ المتفجّر.. مع العلم، بأنّ شرارة الانفجار فيما لو انطلقت –لا سمح الله- ستكون أشدّ من شرارة السبعينيات وأوائل الثمانينيات، بكل ما تحمله من زعزعةٍ للاستقرار، ومجازر، وسيول دماء، وبطش، وصراعاتٍ طائفيةٍ لا تُبقي ولا تَذَر.. لأنّ شرارة اليوم لن تكون كشرارة الأمس، إذ ستكون محمَّلَةً –فضلاً عن أعباء الوضع الجديد- بكلّ المخزون المتفجِّر الذي أفرزته آثار أحداث العقود الأربعة الماضية ومآسيها الكامنة تحت الرماد، بكل ما فيها من ملفاتٍ إنسانيةٍ ومجازر وكوارث واضطراباتٍ وزعزعةٍ للاستقرار في المنطقة.. واحتقاناتٍ لم تجد لها أي سبيلٍ للحلّ، بسبب تعنّت النظام، واستهتاره بالمستقبل وما يحمله من مفاجآتٍ غير سارّة، لسورية والمنطقة.