التأمل والتعلم.. كما يراهما علي عزت بيجوفيتش
6 ذو الحجه 1431
عبد الباقي خليفة

العلم لم يمنع التلاعب بالشعوب"المتحضرة"!!*

*التعلم في الشعوب الظالمة أعانها على إذلال الآخرين وقهرهم..

ما زال زميلنا الأستاذ عبد الباقي خليفة يغوص في فكر وتراث وشخصية المجاهد علي عزت بيجوفيتش الرئيس البوسني الراحل ليتحف جمهورنا الكريم بأبرز أفكار الرجل ومحطاته الفكرية المتميزة.ويؤازر الزميل في مهمته خبرته في حاضر منطقة البلقان وماضيها وفي قصة نضال البوسنيين ضد الجور والهيمنة.

*******

 

تأتي الذكرى السابعة لرحيل المفكر والزعيم السياسي الإسلامي البوسني، علي عزت بيجوفيتش، رحمه الله ( 1925 / 2003 م ) والرجل لا يزال حاضرا في المشاهد كلها، سياسة وثقافة. وقد كان أجمل تعبير عن وفاء البوسنيين لبطل تحررهم من استعمار الصرب، انتخاب ابنه ( باكر ) لرئاسة البلاد في 3 أكتوبر 2010 م. كما شهدت البوسنة عدة فعاليات، كان منها هذا الجهد المتواضع الذي نقدمه للقراء حول " التأمل والتعلم " كما يراهما علي عزت بيجوفيتش"، من خلال أعماله الكاملة التي طبعت مؤخرا باللغتين البوسنية والانجليزية.

 

يؤكد بيجوفيتش أن " الحضارة تَعَلُّمٌ أما الثقافة فَتَنَوُّرٌ " وأن الأولى،" تحتاج إلى تعلم، أما الثانية فتحتاج إلى تأمل ". ويشرح علي عزت رحمه الله التأمل بأنه "جهد داخلي ( جواني ) للتعرف على الذات وعلى مكان الإنسان في العالم "، ويميز بينه وبين التعلم بأنه " نشاط جد مختلف عن التعلم وعن التعليم وجميع المعلومات عن الحقائق وعلاقاتها بعضها ببعض ". أما النتيجة فيحددها الراحل بمكوني الإنسان الروحي والمادي " يؤدي التأمل إلى الحكمة والكياسة والطمأنينة.

 

ويستلهم بيجوفيتش في شرحه للإنسان الموضوعي مبادئ الإسلام المثبتة في القرآن الكريم والسنة الشريفة كقوله تعالى: " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " وقوله سبحانه: " ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار " وقول الرسول صلى الله عليه وسلم " فكر ساعة خير من عبادة سنة " إلا إن مفكرنا الكبير اكتفى بالمعنى لأن الخطاب موجه للعقل الغربي ابتداء. ورغم الاحتفالية الزائدة بالعلمانية في الغرب، فإن علي عزت يشير في أحد هوامش أعماله إلى انتشار التنجيم في العصر الحديث بما لا يقارن مع العصور القديمة، رغم تقدم الحضارة، وهو ما يعني أن الجانب النفسي فرض نفسه وإن كان بطريقة خاطئة لتعويض الجوع الروحي عند الغربيين في العصر الحديث.

 

ويمضي علي عزت في تعريف التعلم، وما يتميز به عن التأمل، مظهرا قدرة هائلة على التحليل وتبسيط المعقد دون إخلال أو سقوط في التعميم، أو إمعان في الترميز أو تشفير الكلمات والعبارات " أما التعليم فيواجه الطبيعة لمعرفتها ولتغيير ظروف الوجود. يطبق العلم، الملاحظة والتحليل والتقسيم والتجريب والاختبار. بينما يعنى التأمل بالفهم الخالص، بل إن الأفلاطونية الجديدة تزعم أنها طريقة للفهم فوق عقلانية ف" الملاحظة التأملية، كما ينقل علي عزت عن، أرتور شوبنهور، " متحررة من الإرادة ومن الرغبة، إنها ملاحظة لا تتصل بوظيفة أو مصلحة ". فالتأمل " ليس موقف عالم، بل موقف مفكر، أو شاعر، أو فنان، أو ناسك ". ولا ينفي الكاتب أن يكون العالِم متأملاً ولكن ليس بصفته عالِماً " وقد تَعْرِضُ للعالِم بعضُ لحظات من التأمل لكنه يفعل هذا، لا بصفته عالما، ولكن باعتباره إنسانا أو فنانا، فجميع الناس فنانون بشكل أو بآخر ". ويقول " يمنح التأمل قوة على النفس، أما العلم، فإنه يعطي قوة على الطبيعة. وتعليمنا في المدارس يزكي فينا الحضارة فقط ولا يساهم بشيء في ثقافتنا ".

 

ويرى علي عزت أن التأمل أمر مهم في عصرنا، لكن الواقع لا ينبئ بذلك " في عصرنا هذا يتعلم الناس، لكنهم كانوا في الماضي معتادين على التأمل. لقد كان حكماء " لابوتا " يستغرقون في تأملاتهم حتى أنهم لم يكونوا يلتفتون أو ينصتون إلى أولئك الذين كانوا يزعجونهم بكثرة الأسئلة ". ويتطرق إلى عدة قصص عن المتأملين المشهورين في التاريخ.

 

وهو يسجّل الفرق من خلال شخصين غربيين مشهورين: " لقد أمضى، تولستوي، حياته يفكر في الإنسان ومصيره، بينما كان، نيوتن " نبي" الحضارة الغربية، قد استولت عليه طوال حياته مشكلة الجسم الساقط".

 

ويتساءل علي عزت مرة قائلا " ما هو موضوع التأمل " ؟ ثم يجيب " في الطبيعة نستطيع أن نكشف العالم والإنسان، في حقيقة الأمر كل شيء يمكن اكتشافه فيما عدا الذات الإنسانية أو الشخصية، وخلافاً لكل الكائنات الأخرى التي تحركها الغريزة فإن" الإنسان وحده فقط يستطيع أن يشهد بوجود عالم الأرواح والحرية. وبدون الذات يستحيل أن نشهد عالما وراء عالم الطبيعة.

 

ويعطي علي عزت وجها آخر للمقارنة بين التعليم والتأمل " التعليم وحده لا يرقى بالناس ولا يجعلهم أفضل مما هم عليه أو أكثر حرية أو أكثر إنسانية. إن العلم يجعل الناس أكثر قدرة، أكثر كفاءة، أكثر نفعاً للمجتمع ". ويؤكد " لقد برهن التاريخ على أن الرجال المتعلمين والشعوب المتعلمة يمكن التلاعب بهم بل يمكن أن يكونوا أيضا خداما للشر، ربما أكثر كفاءة من الشعوب المتخلفة".

 

 و" إن تاريخ الإمبريالية سلسلة من القصص الحقيقية لشعوب متحضرة شنت حروبا ظالمة استئصالية استعبادية ضد شعوب متخلفة أقل تعليماً، كان أكبر ذنبهم أنهم يدافعون عن أنفسهم وحرياتهم. إن المستوى التعليمي الراقي للغزاة لم يؤثر على الأهداف أو الأساليب، لقد ساعد فقط على كفاءة الغزاة وفرض الهزيمة على ضحاياهم ".