ويكيليكس: الحقيقة الأمريكية المطلقة!
20 محرم 1432
ياسمينة صالح

ما بدا غريبا جدا هو استسهال الحقائق التي يمكن أن تنفجر عبر الانترنت، والتي تحمل دائما الوجهين المتناقضين، واحد يوحي بالصدق والثاني يخفي الكثير من الغموض، إن لم نقل من الضبابية المثير للريبة وللشك.

 

 

قبل سنوات، عندما ظهرت عبر الانترنت وثائق عما عرف في أوروبا الشرقية بال"غلادياتير" وهي شبكة تجسسية تابعة للحلف الأطلسي حاولت إثارة القلائل في دول جنوب أوروبا لإحراج النظم الأوروبية أولا ولتصفية المهاجرين المسلمين المقيمين في دول مثل إيطاليا (التنظيم السري استقر حسب تلك الوثائق في إيطاليا) وفي أسبانيا والبرتغال وفرنسا، كان ثمة ما يوحي أن تلك الوثائق الكثيرة، ليست بريئة في مجملها، وأن الأمر لا يخرج عن إطاره المخابراتي، على شكل تصفية حسابات سياسية عبر الشبكة العنكبوتية، حتى وإن حملت بعض الوثائق المسربة بعض الحقائق عن وجود تنظيم يحمل ذات الاسم كان وراء تفجير إحدى محطات القطار في العاصمة الإيطالية في خريف 2002، حيث تم ربط ذلك الانفجار مباشرة ببعض المهاجرين المسلمين، بالخصوص وأن بعضهم كان في إيطاليا تحت صفة "لاجئ سياسي"! والحال أن الحقيقة الأخرى تكمن في التصفية السياسية بين دول غربية نفسها، كانت تريد النيل من دول الجوار (فرنسا من إيطاليا، وإيطاليا من إسبانيا)، وكان سهلا من الناحية العملية خلق عدو افتراضي هو الإسلام، بعد أحداث سبتمبر عام2001!

 

 

 

 واليوم يبدو شبيها بالأمس، وقد جاءت إلى الوجود ظاهرة أخرى، اسمها "ويكيليكس" بكل تناقضاتها، والتي شغلت الرأي العام الدولي، والعربي، والشعبي بشكل خاص، ربما لأن الوثائق التي نشرت إلى الآن كانت موجهة في الحقيقة ضد دول بعينها، وضد سياسات بعينها أيضا، بحيث أن الغريب، والغريب جدا أنه لم يتم نشر إلى الآن ولا وثيقة واحد عن الكيان الصهيوني، ولا من باب "العدل" في القسمة! وإن تحول موقع "ويكيليكس" إلى مرجعية العديد من الصحف والمواقع العربية بشكل خاص، فهذا ليس غريبا، لأن الهدف كما يبدو كان عربيا وإسلاميا، ولأنه بشكل غريب، ومدهش أيضا أنه لم يتساءل أحد من يمكن أن يقف وراء هذا البذخ الكبير في الوثائق (الأسرار)؟ وهل هي حقيقية على الأقل حتى وهي تحمل الختم الرسمي الأمريكي (البيت الأبيض/ البنتاجون/ والأف بي آي في بعض الوثائق القليلة)، حيث يبدو واضحا أن الأبواب التي تتسرب منها هذه الوثائق هي البيت الأبيض نفسه، والبنتاجون، والأف بي أي، من حيث تعاطيهم ثلاثتهم مع منطقة الشرق الأوسط (أغلب الوثائق عن هذه البقعة)، ولإبعاد الشكوك ظهرت وثائق بدت كأنها تسريبات مقصودة، عن أمريكا اللاتينية، وعن بعض الدول الآسيوية، وعن النظام التونسي (الذي لا يحتاج في الحقيقة إلى وثائق لترى فضائحه)، وعن بعض الدول الخليجية، بالخصوص المتعلق بالحياة العامة، وأحيانا الشخصية! ولم يستطع ويكيليكس (الشريف النظيف الذي تهمه حرية التعبير، والحق في المعرفة كما يقول)، لم يستطع أن يقدم وثيقة واحدة عن الكيان الصهيوني، وعن السياسة الداخلية داخل المؤسسات، وعن الوضع العسكري "الإسرائيلي" الراهن، وعن وعن وعن... كأن "إسرائيل" لا تقع على كوكب الأرض، وكأن ويكيليكس لا يهمه التركيز على كيان يشكل في النهاية نسبة 90% من مشاكل منطقة الشرق الأوسط برمتها، ويقف آليا وراء الحرب الأمريكية على أفغانستان وعلى العراق، مثلما يقف خلف التقسيم القادم للسودان ودول أخرى يرى فيها الكيان الإسرائيلي خطرا على أمنه حتى لو كانت في جنوب أفريقيا!

 

 

 نحن لا نريد أن نقول شيئا عن ويكيليكس كموقع يبدو جليا أنه مخابراتي، بحيث أنه استطاع أن يواصل نشاطه رغم اعتقال صاحبه في لندن، بل وحسب ما كتبته صحيفة اللموند أن نشاط ويكيليكس على الفيس بوك، أكبر من نشاطه على موقعه الحالي، فكيف ظلت صفحته على الفيس بوك مفتوحة إلى يومنا (وهو عدو الأمن الأمريكي كما وصفته الواشنطن بوست!)، في الوقت الذي أغلق موقع الفيس بوك صفحات كثيرة لنشطاء عرب ومسلمين، من بينهم الناشط الإسلامي المصري الشيخ محمد مسعد ياقوت فقط لأنه يدعو الشباب المسلم إلى الأخلاق ويدعوهم إلى برامجه الدينية التي يقدمها على ما يبدو تلفزيونيا.. لكن صفحة ويكيليكس ظلت محلها، لم يلمسها أحد على الرغم من أن الدفاع الأمريكي وصف "ويكيليكس" بأنه عدو للمصالح الأمريكية، وأنه "يخدم أعداء أمريكا"!

 

 

ما الذي قدمه ويكيليكس للعالم الإسلامي سوى السخرية؟
عندما تحولت وثائق "ويكيليكس" إلى ظاهرة الكترونية بعينها، تساءلنا بكثير من الصدق: هل يمكن أن يشرح لنا أحد من يقف وراء هذا البذخ في الوثائق عن وضعنا الإسلامي في الفكر الأمريكي، فكل الوثائق هي في النهاية رسائل تلخص ما يكتبه السفير الأميركي هنا وهناك، أو موظف بارز في الدفاع، أشبه ما يكون وجهات النظر تحمل طابع الجوسسة لا شك، كرسالة السفير الأميركي من ليبيا ! (الزعيم الليبي اعتبر (قبل أقل من أسبوع) السفير الأمريكي في طرابلس جاسوسا، وفتحت صفحة على الفيس بوك تطالب برحيله من طرابلس حسب صحيفة لوتون السويسرية) والحال أن السفير الأمريكي في طرابلس كان مستشارا أمنيا لبلده في تل أبيب (هو من أصول يهودية)، وعندما وافق الزعيم القذافي على تعيينه سفيرا أمريكيا في ليبيا كان يعرف ذلك جيدا، فـ"السي في" الخاص بالسفير حمل ختم "إسرائيل" في كل زواياه، بيد أن السلطات الليبية رحبت به أيما ترحيب، وها هي تطالب برحيله، لأنه أرسل رسالة تكلم فيها عن "شؤون خاصة لزعيم يعتقد نفسه أنه ملك أفريقيا بموجب الكتاب الأهبل (الكتاب الأخضر)"!

 

 

 مع ذلك، بدت تلك الوثيقة غير جديدة، فغالبية الشرفاء في ليبيا يعرفون من هو القذافي ويعرفون أنه جالس على قلوبهم بالكتاب الأخضر الذي لا يعرف أحد فك طلاسمه إلى الآن! ونفس الشيء يخص زميله الديكتاتور التونسي زين العابدين بن علي (الغريب أنه لم تظهر ولا وثيقة تحكي عما يفعله بن علي ضد الإسلاميين في سجونه، ولا حتى السجون السرية التي كشفت عنها بعض الصحف البلجيكية..) والحال أن ما يبدو مثيرا أن الوثائق تبدو وكأنها تنقل حكاية يعرفها في النهاية كل العالم، بحيث من غير المنطقي أن يكتب السفير الأمريكي (الجاسوس الرسمي لبلده في بلاد العالم) أنه وجد بن علي يصلي المغرب في وقته بجامع الزيتونة، لكنه سيكتب أن بن علي وعقيلته تدير مزرعة تونس، وكأن الشعب التونسي لا يعرف هذه الحقيقة وينتظر ويكيليكس ليخبره بها!

 

 

لقد بدت الوثائق بمثابة المادة الدسمة لوكالات الأخبار وللقنوات الإخبارية نعم، لتحكي فيها وتناقش مضامينها السخيفة في بعضها، ولتوهم الشعوب العربية أن ثمة نافذة للحقيقة، دون أن نسأل عن تلك النافذة تحديدا وأين تقع، وما مصلحتها من نشر تلك الوثائق سوى في إحراج نظم عربية السعودية على سبيل المثال، ومنهم النظام المصري المقبل على انتخابات رئاسية ـ بعد فضيحة الانتخابات البرلمانية الأخيرة ـ ونظم خليجية تعرف جيدا أن أمريكا لن تكون صديقتها على حساب الأمن الصهيوني الذي يشكل أهم أولويات البيت الأبيض، وهو الذي يعني أن التنازلات لن تغير من الواقع الحالك قيد أنملة، وأن الحوار الفضفاض المهلهل التي تقوم به نظم عربية تحت الطاولة مع الكيان الصهيوني (كتطبيع مؤقسط!) لن يؤدي سوى إلى اختلال أمني داخل الدول العربية نفسها، لهذا تمنينا لو توجد وثائق (طالما الوثائق مجانية!) عن المفاوضات الفلسطينية "الإسرائيلية" وما مدى صحة ما يقال عن استثمارات محمد دحلان في ليبيا بملايين الدولارات المسروقة من عرق الفلسطينيين، وكيف أن الأزمة المالية كانت انتعاشا في المؤسسات التجارية التي يديرها ابن الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الوقت الذي كانت غبنا وبؤسا على سكان الضفة الذين بالكاد يجدون لقمة يومهم المتعب والمليء بذل شرطة "الأمن القومي الفلسطيني" كما تتباهى بها الصحف المتملقة للسلطة الفلسطينية..

 

 

ويكيليكس لن ينشر وثيقة واحدة عن هذه الأمور، مثلما لن ينشر شيئا عن الاتصالات السرية الفلسطينية "الإسرائيلية" لأجل العودة إلى طاولة المفاوضات! ويكيليكس لن يفضح أحبابه الصهاينة ولا أحباب أحبابه في السلطة الفلسطينية! ولأجل هذا يبدو جليا أن الذين يسربون تلك الوثائق عن طريق ذلك الموقع يعرفون جيدا ما يفعلون، مثلما يعرفون جيدا أنهم سوف يساهمون في حماية الأمن الصهيوني عبر وضع آلية استخباراتية جديدة (بدعوى حماية أسرارهم من النشر!)، كما حدث في رد القيادة العسكرية الأمريكية على ما نشر حول أفغانستان بأن المراسلات سوف تكون عبر طريقة تكنولوجية جديدة! وكأن أمريكا في موقع البطل في أفغانستان، وكأنه ليس الجنود الأمريكيين الذين ينهزمون يوميا بأيدي المجاهدين الأشاوس في جبال أفغانستان، إلى درجة أن قوة الجندي الأمريكي صارت مسخرة في العالم!

 

الحقيقة المطلقة بين السلاح والنار!
نعتقد ذلك جازمين أن موقع ويكيليكس لم يكن موقعا لعيون الحقيقة، بل كان موقعا مخابراتيا بامتياز أريد من خلاله تصفية الحسابات مع دول بعينها، ومع أشخاص، حتى المالكي (الموظف الإيراني في الحكومة العراقية) الذي لم يترك شيء وفعله ضد شعبه، نشرت وثائق كثيرة تدينه، وهو المدان مسبقا من قبل  شعبه، ذلك المالكي المرتمي منذ سنوات في الحضن الإيراني، لم يكن سرا أنه أراد وضع العراق بين أيدي الإيرانيين كعكة كاملة، وعندما تصادمت مصالحه مع مصالح الأمريكيين تم فضحه لأجل إقصائه سياسيا، وهي الطريقة الأمريكية التاريخية تكررت في السنوات الماضية وعلى أكثر من طريقة! فمن يحكم العراق اليوم سوى الخونة والعملاء والمحتلين معا؟ وهل رأى العراق يوما جميلا منذ الاحتلال؟ من يقول أن أمريكا جلبت الخير للعراق يكمل جميله ويظهر لنا ذلك الخير كي نشتهيه!

 

لقد أثبت الحقائق التي يمكن قراءتها تحت السطور أن الحرب الأمريكية الصهيونية على العالمين العربي والإسلامي دخلت في مراحل تقنية تكنلوجية متطورة، وأن الحرب المباشرة لم تكن في الحقيقة ضرورة عاجلة قبل تفتيت الداخلين العربي والإسلامي وزرع الفتنة فيه، وحمل الشعب على التناحر في الداخل، وقد رأينا في الأيام الماضية كيف أن إيران طالبت من الشيعة في الخليج الخروج إلى الشوارع للطم في الشوارع، لا لشيء سوى كرسالة مباشرة للدول العربية الإسلامية بأن القوى الشيعية هي الحرب القادمة، بحيث أن الغرب قد لن يحتاج إلى آلياته لمحاربة المسلمين، تكفيه اليوم الفتنة المذهبية، ويكفيه الخطاب الإيراني المباشر في تهديداته لمنطقة الخليج والشرق الأوسط، وأحلامه الخاصة بمنطقة المغرب العربي التي تراهن إيران على تشييعها كرأس حربة متأخر! وما نيل الدنيا بالتمني، لكن تؤخذ الدنيا غلابا!

 

 وثائق ويكيليكس تصلح بخور له وهو في سجن افتراضي بلندن، لأن الواقع يؤكد أن الأحلام لا تتحقق والناس في بيوتها تعيش الذل والهوان، وأن ما صنعته تركيا سياسيا تقدر الدول الإسلامية على صناعته عبر فرض نفسها كخيار حقيقي، من باب حفظ ماء الوجه، ومنع حرب محتملة على غزة صارت وسائل الإعلام تتحدث عنها لأن الصهاينة يحتاجون إلى ضحية ليفرغوا حقدهم فيها تحت سقف "القوة العظمى الجديدة" كما قالت الجارديان مؤخراً!