بنك خبرات الكبار
21 محرم 1432
الهيثم زعفان

كلما تأملت أحوال المجتمعات خاصة العربية مع المتقاعدين وكبار السن والمسنين، وجدتها تسعى في معظمها إلى الاهتمام بتوفير دور ونواد للمسنين يتم من خلالها رعايتهم، أو تهيئة المناخ لتقضية وقت مسل للمتقاعد وكبير السن. مع التحفظ الشديد على فكرة إيواء كبار السن في دور المسنين، وتقاعس الأبناء والأرحام عن دورهم الشرعي تجاه الآباء والأمهات، وباقي الأرحام من كبار السن.
كما نجد أن المجتمعات سعت لإنشاء النقابات المهنية، وجمعيات رعاية المتقاعدين، وكلا الجهتين سواء النقابات أو الجمعيات فلسفتها جلب الامتيازات وإشباع بعض الاحتياجات للمتقاعدين وكبار السن من أبناء المهنة الواحدة، مع محاولات خجولة لإعادة تشغيل بعض المتقاعدين في أماكن عمل أخرى.

 

وبتأمل أحوال كبار السن مع تاريخهم المهني نجد أن قليل من كبار السن من يحاول الاستمرار في العطاء المهني، إما من منطلق زيادة الدخل، أو القضاء على وقت الفراغ، ومنهم من يريد ألا يحرم مجتمعه من خبراته التي اكتسبها على مدار حياته. 
وفي أحوال كثيرة نجد كبير السن عندما يحال إلى التقاعد فإنه يحاول أن ينسى تاريخه المهني، ويتعامل مع الحياة من منظور آخر وذلك بإعطاء مزيد من الاهتمام للتدين والاجتماعيات، والممتلكات والأعمال التجارية الخاصة.
ومع أهمية كل ما سبق سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، فإن هناك ملاحظة اعتبرها غاية في الأهمية، وهي ندرة الأصوات التي تنادي في عالمنا العربي والإسلامي بالاستفادة من الخبرات العملية التي أفنى فيها كبار السن حياتهم العلمية والمهنية، أصوات تسعى إلى توثيق هذه الخبرات بطريقة منهجية كي تستفيد منها الأجيال القادمة، والمؤسسات القائمة.

 

فلو قمنا بزيارة إحدى دور المسنين لوجدنا بينهم المهندس، المعلم، الطبيب، الضابط، وكافة المهن الحيوية، وسنجد من بينهم من ترك بصمات مهنية، نقلت المؤسسات والمجتمعات نقلات فنية ومهنية عظيمة.
من هنا كانت الفكرة والمبادرة التي أتقدم بها والتي تدور حول إنشاء "بنك لخبرات الكبار"؛ يتم فيه توثيق الخبرات المهنية والفنية لكبار السن، لتكون هذه الخبرات نبراساً للمؤسسات والمجتمعات، والسائرين على درب الكبار في النجاح والتفوق والازدهار.
وهذا البنك- إن أمكننا استعارة الاصطلاح- يمكنه أن يفيد كافة القطاعات المهنية بما سيحويه من خبرات ومواقف ومسائل مهنية معقدة، بالاطلاع عليها يمكن تجنب تكرار المواقف المهنية السلبية، أو التعامل مع المستجدات بعد الاطلاع على الخبرات السابقة بما يحقق الأهداف بكفاءة وفاعلية، ويتم البناء من حيث انتهى أصحاب الخبرات من الكبار. كما أن هذه الخبرات الموثقة يمكنها أن تفيد الشباب المتخصص في قطاعات فنية نوعية، بحيث يمكنه قراءة تراث الخبرات المهنية الذي تم توثيقه، فتثقل بذلك معارفه ومداركه المهنية، ويتميز في مهنته، وتكون له بصمة تطويرية مثمرة داخل ميدانه المهني. فضلاً عن كم الفوائد التي يمكن أن يحققها بنك الخبرات هذا للمراكز والمؤسسات العلمية والجامعات المتقاطعة مع ميدان أصحاب الخبرات الموثقة.  

 

وفكرة " بنك خبرات الكبار" التي نطرحها تقوم على ثلاثة ركائز أساسية وهي:
1-    جمع وتوثيق الخبرات المهنية بوسائل علمية، وعملية ميسورة.
2-    تصنيف الخبرات المهنية والعملية، وفق تصنيفات نوعية ومنهجية تراعى معها التخصصات ومجالات الأعمال من ناحية، والفنيات والمواقف الإدارية والعلاقات الإنسانية داخل محيط العمل من ناحية أخرى، وذلك بالاستعانة بالخبراء النوعيين الذين يمكنهم تحديد أهمية المعلومة المجمعة، وتسكينها في موضعها المناسب.
3-    تحديد آليات الاستفادة من الخبرات المجمعة والمصنفة سواء بالنشر، أو بإنشاء مكتبات متخصصة تضم الخبرات الموثقة، أو مواقع إلكترونية توثق خبرات الكبار، أو بفتح قنوات اتصال مع الهيئات والمؤسسات المعنية، سواء العلمية أو المهنية. 

 

وفي ضوء هذه الركائز الأساسية يمكننا أن نضع بعض المؤشرات لآليات تطبيق هذه الفكرة في المجتمعات العربية؛ وذلك بالصورة التالية:

 

1)   الدول العربية تعتمد في خططها وفي موازناتها العامة إنشاء دور ونواد للمسنين، وتعتمد أيضاً ميزانيات سنوية لهذه الدور والنوادي للإنفاق على أنشطتها ومستلزماتها، فيمكنها وفي ذات السياق التخطيطي الراهن، إضافة كيان هيكلي متمم لهذه الدور والنوادي، يكون مهمته جمع وتوثيق خبرات المتقاعدين وكبار السن، ومن ثم تصنيفها، وتقديمها للمجتمع بالآلية المناسبة، والمزية في ذلك أن هناك عدد ضخم قائم الآن من دور ونوادي المسنين في العالم العربي، ويرتادهما عدد كبير من كبار السن، وعليه فإن المستهدفين من بنك الخبرات لهم بعض المظلات التي يمكن الوصول إليهم من خلالها. كما أن كل دار أو ناد يمكنه أن يكون له موقع الكتروني توثق عليه خبرات مرتاديه، وكذلك مكتبة ملحقة توضع بها نسخ من الشهادات والخبرات المهنية الموثقة، ويمكن بعد ذلك تجميع هذه الخبرات الموثقة من خلال مواقع أو مؤسسات أكبر سنتحدث عنها بعد قليل.
2)    النقطة السابقة يمكنها أن تنسحب على النقابات المهنية، والجمعيات الأهلية المعنية برعاية المتقاعدين وكبار السن، بحيث يستحدث بتلك النقابات والجمعيات لجان توثيقية يتم من خلالها توثيق خبرات كبار السن، ويكون بها أيضاً مكتبات، ومواقع الكترونية بها ذات الخبرات الموثقة.
3)   يمكن للدول التي تقتنع بهذه الفكرة وأهميتها أن تعمد إلى إنشاء هيئات مستقلة، تكون مهمتها فقط جمع وتوثيق الخبرات المهنية كبار السن، على غرار دور المسنين ونواديهم.
4)   يمكن للأفراد الذين تروق لهم هذه الفكرة أن يعمدوا إلى إنشاء جمعيات أهلية هدفها الأساسي والوحيد هو جمع وتوثيق الخبرات المهنية لكبار السن.
5)   يمكن لرفقاء الدرب في المهن المتشابهة أن يدونوا مذكرات خبراتهم المهنية بصورة جماعية، ويوثقونها بصورة فردية أو جماعية، ويعطون نسخ منها للجهات التوثيقية المهتمة بهذا الشأن، أو على أقل تقدير نشرها على موقع على الإنترنت.
6)   على غرار الشبكات الاجتماعية على الانترنت يمكن إنشاء موقع إلكتروني ضخم ومفتوح، بحيث يمكن للراغبين من كبار السن أن يدونوا مذكراتهم المهنية على هذا الموقع، كنوع من أنواع التوثيق عسى أن ينتفع به.
7)    يتم جمع الخبرات من خلال المتقاعد وكبير السن نفسه، وذلك بحثه وتشجيعه بالوسائل المعنوية والتحفيزية على تدوين خبراته المهنية، سواء بالكتابة الورقية أو الإلكترونية، أو بالتسجيل الصوتي، ويمكن في هذا الصدد الاستعانة بشباب الباحثين وبطلاب الجامعات، للقيام بمهمة التوثيق الإلكتروني، تسجيل الحوارات، وتفريغ الشهادات المهنية الموثقة، وكذلك إعادة صياغة الشهادات الموثقة بطريقة علمية وغير معقدة.
8)   يتم الاستعانة بالخبراء المتخصصين في المجالات المتعددة، ويمكنهم أن يكونوا من المتقاعدين وكبار السن أنفسهم، وذلك كي يقوموا بتصنيف الخبرات المهنية، وتنقيحها، وإبراز الهام منها.
9)   إنشاء مكتبات ومواقع الكترونية لتوثيق الخبرات المهنية للكبار، بحيث تضم ما تم الاتفاق على أهمية أرشفته، وتتحقق معه الفائدة المرجوة إذا تم الاطلاع عليه.
10)    من الأهمية بمكان التأكيد على التحفيز والدعم المعنوي للمتقاعد وكبير السن، كي يدون خبراته المهنية، فنسخ وتجليد المذكرات المهنية، والهدايا التذكارية وشهادات التقدير، وإشعار المتقاعد وكبير السن بأهميته وأهمية تاريخه المهني للأمة، كل ذلك من شأنه رفع روحه المعنوية، وإقباله على توثيق خبراته المهنية بمزيد من الحب والإقبال.    

 

وختاماً يمكننا أن نقترح في هذا الصدد وفي كل دولة عربية إنشاء مركز توثيقي يمكن أن يطلق عليه " المركز القومي لتوثيق خبرات الكبار"، بحيث يتولى بطريقة مركزية جمع وتوثيق وتصنيف وتنقيح الخبرات المهنية للكبار، ومن ثم تقديمها للمجتمع بصورة علمية ومنهجية، تسهم مساهمة بناءة في تقدم المجتمع، وإكساب شبابه خبرات الكبار، وتوصياتهم المهنية.
ومثل هذا المركز المقترح، يمكنه أن يضم شباب الباحثين من أجل جمع المعلومات، وتوثيق الخبرات، من كبار السن سواء من خلال إجراء الحوارات، أو تيسير كتابة المذكرات، أو تفريغ شهاداتهم المسجلة صوتياً، أو معاونة كبار السن على كتابة المذكرات المهنية إلكترونياً من خلال شبكة الكترونية داخلية تربط المركز بالمتقاعدين وكبار السن في منازلهم ونواديهم.
وكذلك صياغة وتحرير هذه الشهادات الموثقة لجعلها قابلة للنشر والاطلاع العام.

 

 كما يمكن لهذا المركز المقترح أن يضم لجان نوعية متعددة، تضم ثلة من الخبراء في التخصصات المهنية، تقوم على فحص الخبرات الموثقة وتصنيفها وتنقيحها وإبراز الهام منها، تمهيداً لأرشفته، أو مد المحافل العلمية والمهنية بما يفيدها ويطور أدائها.
على أن يكون بهذا المركز مكتبة كبرى تضم كافة الشهادات والخبرات المهنية لكبار السن، ويكون لها موقع على الإنترنت يضم ما أمكن من محتويات المكتبة، بحيث يقصدها ويقصد موقعها كل متخصص يتزود منها بما ينفعه، ويثقل خبراته ومهاراته. ويقصد المركز أيضاً كل صاحب عمل يريد تطوير مؤسسته ويستشعر أنه باطلاعه على خبرات الكبار سيحصد جملة من الفوائد، ويكون "المركز القومي لتوثيق خبرات الكبار" بذلك بمثابة بيت خبرة لكافة القطاعات المهنية والعلمية في المجتمعات العربية والإسلامية.     
  مقترح ومبادرة وعاؤها مفتوح، يستوعب مزيد من البلورة والتطوير، من القراء والخبراء والمعنيين، والهدف العام النهائي أن ترى الفكرة النور بإذن الله في يوم من الأيام، ويصير لدى المسلمين "بنك لخبرات الكبار"، يستفيد منه الصغار قبل رحيل الكبار.