الإعلام التفاعلي والعدالة المنشودة..
7 ربيع الأول 1432
منذر الأسعد

حتى سنوات قليلة مضتْ، كان الإعلام آلة دعائية فجة، يسلطها الظالم القوي على المظلوم الضعيف، يستوي في ذلك أن يكون مسألة جور داخلي من طبقة على طبقة أو طائفة على أخرى أو مستبد على  شعبه المقهور، وأن يكون تجبراً خارجياً تمارسه قوى عاتية وشعوب مستعلية مستكبرة على شعوب وأمم ليس لها ذَنْبٌ سوى ضعف قدراتها أو قلة حيلتها!!

 

أجل!! كان الإعلام ذا طابع احتكاري، يمتلك ناصيته من يملك القوة العسكرية والاقتصادية والتقدم العلمي، ولذلك كانت الأخبار انتقائية بحسب رؤية المسيطرين ومصالحهم وأهوائهم.

 

ففي الداخل يبث الحاكم ما يلائمه ويطمس كل ما لا يروقه، وكذلك كان الغرب الاستعماري يفعل مع ضحاياه الذين يزدريهم وينهب ثرواتهم ثم يزعم أنه يسعى إلى تقدمهم وتحضرهم!!

 

إن ثورة الاتصالات التي تنعم بها البشرية في الفترة الحالية، قلبت موازين القوى في دنيا السياسة والاجتماع الإنساني كما أحدثت ثورة أخرى في قواعد المهنة الإعلامية نفسها.

 

ولو عاد المرء بالذاكرة ربع قرن إلى الوراء، لتبين له أن تقنيات اليوم المنتشرة على نطاق واسع وشعبي، كانت نوعاً من الخيال العلمي.

 

أما الآن فقد تضافرت تقنيات الإنترنت والهاتف الجوال مع الفضائيات فتألف منها معاً نوع من الإعلام التفاعلي، الذي يتعذر التحكم به تحكماً ناجزاً فهو يؤلف منظومة متكاملة تمتلك بدائل تقع خارج نطاق سيطرة الحكومات المباشرة.

 

فالفضائيات يشاهدها الناس في مختلف القارات، والإنترنت تربط البشر من مختلف الحضارات والثقافات والمشارب الفكرية والسياسية المتنافرة، والجوال يقصّر المسافات  بين مليارات من بني آدم، يمكنهم من خلاله تتبع الأنباء وبثها وتداول الصور واللقطات الحية...

 

فالإعلام -محلياً وعالمياً- لم يعد ترفاً تحتكره النخبة، بل أصبح مهنة مفتوحة يسهم فيها كل مهتم.
لذلك تشتد الحرب الخاسرة من فريق الظالمين على وسائل الإعلام والاتصال الحديثة لتقييدها، تارة باسم الخصوصية المزعومة من غير أهلها، وتارة أخرى  بذريعة مواثيق شرف مضحكة مبكية، وتارة ثالثة تحت شعارات منع "الإرهابيين" من استخدامها......

 

فكم مرة –مثلاً-بطش الصهاينة بإعلاميين وناشطين حقوقيين غربيين لأنهم عملوا على توثيق ونقل بعض من فظائع العدو إلى مجتمعاتهم المغسولة أدمغتها منذ زمن الصوت الأوحد  والصورة المفصلة على مقاس المعتدي وجرائمه المتعمدة.

وكم مرة قمع الطغاة كل محاولة لتصوير ما يحظرون تصويره، أو إذاعة نبا يهمهم أن يبقى طي الكتمان!!

 

وجاءت ثورة تونس قبل نحو شهر واحد، ثم تلتها ثورة مصر المستمرة حتى تاريخه، فجعلتا من كل تلك الجهود الخبيثة عبثاً لا يجدي أصحابه فتيلاً.

 

فقطع النت عن البلد بات فضيحة مدوية تستفز الإنسانية، وتضع مقترفه تحت ضغوط عارمة تضطره إلى التراجع رغم أنفه.ومضايقة مراسلي الفضائيات لا يمكن حجبها غير دقائق أو ساعات ليأتي الاستنكار الكوكبي عنيفاً ومؤلماً. ووقف خدمة الهاتف الجوال أو الرسائل المتداولة من خلاله، أضحت ممارسة خاسرة وقصيرة العمر وعبئاً على من يرتكبها.

 

إن الإعلام سلاح ذو حدين، لكنه بعد أن دخل مرحلة الجماهيرية في صنعه وليس في استهلاكه فقط، غدا سلاحاً في أيدي الأحرار والشرفاء وأصحاب المبادئ، يؤلب الرأي العام العالمي  على الظلم والظالمين، بصرف النظر عن موازين القوة الأخرى: العسكرية والمالية.

 

ولعل النمو المتوقع لهذا الدور الإيجابي في السنوات القليلة المقبلة، سوف يصبح أكبر تأثيراً في نصرة قضايا الحق والعدالة، وفي مواجهة الطواغيت الصغار المسلطين على شعوبهم والكبار المتسلطين على الفقراء والضعفاء في الشعوب الأخرى.

 

المهم أن تفلح هذه الثورة في تعزيز الضمير الإنساني الذي فطره الله تعالى على التعاطف مع الضحية وبغض الجلاد، إلى أن تنجح الضغوط الجماهيرية في نسف قوانين التمييز والكيل بمكيالين السائدة حتى اليوم.فيومئذ لن يشعر طاغية أنه في مأمن من المحاكمة أينما فر وحيثما اختفى أو لجأ.