الانتقائية المتعسفة.. وثائق الجزيرة وغضبة مصر مثالين
8 ربيع الأول 1432
د. أسامة عثمان

وكأننا نفترض مسافة نائية بين السياسة والجمال؛ فهي قبيحة؛ أو الرأي السياسي قبيح، هو كذلك، عندما يكون انتقائيا، يضخِّم الجانب الأقل خطرا، ويسفِّه، بطريقة لا تخلو من استغباء، القيمة الحقيقية للمسألة المنظورة.

 

والرأي السياسي شديدُ القبح، حين يَغفل معطيه عن التناقض التعسفي الذي يتردى فيه؛ فيصوِّب وضعا؛ لأنه ينتمي إليه، بنوع من الانتماء, هذا الانتماء، في الحق، ليس فكريا، ولا مبدئيا، وإلا لكان لم يجرم مثيله؛ إذ كيف تتحرر الآراء، وتتوق النفوس للحرية، في بلد عربي، ولا تتوق تلك النفوس إليها في بلادها، وأوطانها التي يشرف رموزها، على تآكلها، ويحاربون من حاول ردهم، بكل إخلاص!

 

وحتى نخرج من التجريد, إلى التعيين, والمشاهد، نضرب, على الحالة القبيحة الأولى, مثلا, وثائق الجزيرة،  فقد تناولها الكثيرون من زاوية التوقيت، وجرى تضخيم هذه الزاوية، وقرروا المرور مرا خاطفا، على موثوقية هذه الوثائق، وكأنه أمر ثانوي، لا أهمية لتمحيصه، وتحديد الموقف؛ بناء عليه.

 

فما كشفت عنه الوثائق من مواقف خطرة تداولها المفاوض الفلسطيني، مع المحتل الإسرائيلي، لا يستحق حتى التمحيص، والغريب أن أطرافا معنية في السلطة، وفي الجهات المفاوضة اعترفت بصحة الوثائق، ومع ذلك, ظلت أضواء هؤلاء المحللين، مسلطة على التوقيت، ودلالاته، وانعكاساته على السلطة، ومسارها الدبلوماسي. وكأنها على وشك فتح عظيم بددته تلك الوثائق! 

 

لسنا هنا في معرض الدفاع عن الجزيرة، ولا مهمتنا الكشف عن نواياها؛ فلا إعلام محايدٌ تماما، ولكن ما يهمنا, إعلاميا الصحة والثبوت، أما طريقة التناول والتعاطي الإعلامي, فهذا يدخل فيه العنصر الشخصي، وبعد عرض الجزيرة لتلك الوثائق للجميع؛ أصبح بمقدور كل الجهات تناولها بالطريقة التي تراها الأنسب. وفي الأخير, ولنفترض أن النوايا ليست بريئة؛ فهذا لا يبرِّىء الذين تورطوا في تلك التنازلات؛ فهل لو كشفت هذه المعلومات السرية إسرائيل, وهي من هي, هل يعفي هذا السلطة من التفسير؟!

 

والسؤال الذي يسأل: من يحدد زاوية النظر؟ هل هو صاحب الرأي؟ أم هو الموضوع ذاته، بحسب أهمية مكوناته، وعناصره؟
ندرك, طبعا، أن لا مجال للنظر الموضوعي الصرف، في مثل هذا النوع من التفكير الإنساني، حتى لو أراد, أو حاول المفكر ذلك؛ فثمة ما يتسرب من الميول الشخصية لهذا المفكر الإنسان, ولكننا مع ذلك يتعذر علينا التسليم بقدر أكبر من الشخصنة في النظرة والتحليل، وتقديم عناصر, وتأخير أخرى؛ لمجرد التحيزات والتحزبات الضيقة، حينها يغدو البحث السياسي أسيرا لمواقف مسبقة, ومحكومة بمعطيات غير موضوعية. ووقتها لا قيمة لكل هذا المجهود التحليلي، سوى التضليل.

 

فهذه الوثائق مهمة المضمون تستحق الكشف في وقت، دون مساءلة تخفف من أهمية هذا الكشف؛ لأهميتها لشعب كامل، وحتى لغيره من العرب والمسلمين الذين لم يصدر عنهم، على تقصيرهم، في هذه الحرب القائمة على أرض فلسطين، لم يصدر عنهم تفويض، للسلطة، بالتخلي عن حقهم, في هذه الأرض المقدسة، كما لم يصدر عن أهل فلسطين من قبل, وهذا أخطر ما في الأمر، وأشد ما فيه من تجرؤ, واعتداء.

 

ومعروف عن المحتل الإسرائيلي أنه يقبل كل تنازل، ويطالب بالمزيد، وعلى ذلك، لا نستطيع الاستهانة بهذه العروض التفاوضية, لأنها يمكن أن تمثل سابقة يستند إليها المفاوض الصهيوني، للقول إنه كان بإمكانكم أن تقبلوا بهذه المواقف التي تتنازل عن أحياء في القدس الشرقية, بالتبادل مع مناطق لا تفضلها إسرائيل، وتقبل بصيغ (خلاقة) لحل معضلة الحرم القدسي الشريف، وتتنازل إلى أبعد الحدود عن حق اللاجئين بالعودة الكاملة إلى ديارهم.

 

أما اللجوء إلى الاستدلال المنطقي الاستنتاجي، بالقول: إذا كان المفاوض الفلسطيني فعلا قد عرض كل هذه العروض (السخية) فلمَ لمْ تقبل دولة الاحتلال تلك العروض؛ فلا يعدو أن يكون استنتاجا, لا ينهض لإبطالها، وما المشكلة في ذلك؟ وما الغرابة؟ فهم يطمحون إلى المزيد، كجهنم، كلما ألقي إليهم فوج من التنازلات, طمعوا، في الأكثر، وهل من مزيد؟!

 

والمثال الثاني على التناقض التعسفي في الرأي السياسي يظهر في المظاهرات التي تغطي مصر؛ فقد انحاز جل المثقفين، إن لم يكن كلهم، إلى الشعب المصري، ضد الفرعون، والطاغية المستبد، هكذا هو إذن! وهكذا تبدَّى زين العابدين بن علي في أعينهم, من قبل! حسنا، ماذا عن أصدقائهما؟! من قادتنا؟! والداعمين لهما، بكل ما ملكت أيديهم, وقلوبهم، حتى آخر رمق, وحتى بعد الإطاحة بهما، كيف يسيغ لنا رأي يجرم مبارك, ويُفْرِعُنه، ثم نصطف اصطفافا مريعا، خلف من يستلهم رؤاه، ولا تقطع صغيرا، أو كبيرا دونه؟!

 

نعلم أن للسياسيين خياراتهم، أو لنقل اضطراراتهم التي كانت يوما خيارات، ولهم اصطفافاتهم التي ارتهنوا إليها، لكن المثقف يُفترض فيه أن يكون أبعد, عن هذه الاصطفافات الضيقة, وأن يحافظ على مسافة من حكام بلده، لأنه، كما الشاعر والفنان، ملك لأمته، وصوت لوطنه؛ وهو قبل ذلك فاعلية للرقابة والمساءلة والتوجيه الأعلى؛ بما هو عليه من انشغال بالشأن العام، ثقافيا، بعيد الأثر، لا سياسيا متقلبا، أو صدى للسياسي المتقلب.
[email protected].