عندما تتساقط الدعاية الإعلامية أمام حقوق المشاهدين
12 ربيع الأول 1432
علا محمود سامي

على مدى سنوات عدة تعرضت الفضائيات الإسلامية في مصر للعديد من الانتقادات غير الموضوعية، حتى توجت هذه الانتقادات بإغلاقها في منتصف شهر نوفمبر الماضي في حملة تترية، قادها الإعلام الرسمي ومؤيدوه، دون أن يبدي النظام المخلوع مبررا لإقفالها، باستثناء ما ادعاه من تجاوزها لميثاق الشرف الإعلامي.

 

ولكن لم تمض ثلاثة شهور على الأكثر على هذا الإغلاق، حتى سقط هذا النظام، وانهارت معه منظومة الإعلام الدعائي، لتعود بعده الفضائيات المقفلة إلى مشاهديها، ولتصبح الإنذارات التي كانت موجهه إلى غيرها من القنوات في طي التاريخ، الذي سيظل شاهدا على مؤامرات حيكت ضد الإعلام الهادف، مقابل حفنة مصالح فئوية، ونظام أصبح محل انتقاد ممن كانوا بالأمس يطبلون له ويهللون ليل نهار.

 

خلع النظام المصري ترافق معه - وبعد ثلاثة أيام بالتمام- إعادة الفضائيات الإسلامية إلى مشاهديها، وهى العودة التي كان قد تم تغييبها، وهو الإغلاق الذي جاء ضد أحقية المتلقين في مشاهدة قنواتهم الجادة، على خلفية ما كانت تحظى به مثل هذه الفضائيات من نسب مشاهدة عالية، رصدتها جهات رسمية مثل مركز المعلومات واتخاذ القرار في مجلس الوزراء المصري بنحو 75% من جملة مشاهدة الفضائيات، وبالشكل الذي يفوق أي قناة أخرى في مصر، في الوقت الذي كانت تحظى فيه قنوات الخلاعة والمجون بتأييد ودعم كبير من جانب المسؤولين في الإعلام الرسمي، سواء كانوا في مناصب رسمية أو غيرها.

 

ومع القرار الذي أصدرته المنطقة الحرة الإعلامية في مصر بإعادة الفضائيات المغلقة إلى البث، ومن ثم الموافقة على القمر الصناعي المصري"نايل سات" للسماح لها بالبث عبر تردداته، كانت الدهشة الايجابية التي أصابت جموع المشاهدين بأن الجهة التي أوقفت مثل هذه القنوات، هى نفسها الجهة التي سمحت لها باستئناف البث!

 

إلا أنه التناقض الواضح، الذي يبدو بين عشية وضحاها، بين جهات حرصت على منع الجمهور من مشاهدة ما كان يود ومحبب إليه مشاهدته، وبين سطوة القرار السياسي، الذي كان يسعى إلى إفساد كل شئ، بما فيه المجال الإعلامي.

 

لقد ظن النظام المصري السابق أنه يمكنه بقرار أن يهزم فضائيات جادة، كثيرا ما حلم مشاهدون بأن تكون هى وسيلتهم العصرية للدعوة إلى الله عزوجل بالحكمة والموعظة الحسنة، وتوعية جموع المسلمين بأمور دينهم، حتى كان واجب النصرة في أقل من ثلاثة أشهر على إقفالها، بإعادة هذه القنوات مرة أخرى، بل وإقالة المسؤول الأول عن إغلاقها، وهو وزير الإعلام أنس الفقي، وتقييد إقامته في منزله، ومنعه من السفر وتجميد أرصدته.

 

المنع الذي ظل يطارد هذه القنوات منذ إطلاقها حتى إغلاقها، كثيرا ما كان يحظى معه توسيع دائرة النقد اللاذع إليها من جانب المسؤولين من ناحية، ومن جانب ليبراليين وعلمانيين من ناحية أخرى، وهو ما كان نتيجته إغلاق مثل هذه القنوات الجادة، كشكل من أشكال إرغام المشاهدين على مشاهدة قنوات الخلاعة والمجون، وادعاء أصحاب المنع بأن الهدف هو حماية المشاهد، والحفاظ على مواثيق الشرف الإعلامية. 

 

أمثال هؤلاء وقفوا ضد حقوق البشر في المشاهدة، وساروا في اتجاه يخالف طبيعة ما هو قائم، ولم يكن هذا بغريب عليهم، وهم ينفثون سمومهم الهابطة لتشويه كل ما هو جاد من أجل مطمع زائل، حتى أصبحوا هم قيد الإقامة الجبرية.

 

فلم يكن أحد في مصر يتصور سرعة وضع وزير الإعلام المصري المقال أنس الفقي قيد هذه الإقامة، بعد سقوط النظام وخلع الرئيس حسني مبارك، وهو الوزير الذي ظل سيفا مسلطا على حرية الإعلام، متبنيا لجميع قرارات القمع، حتى شهدت أجواء ما قبل إجراء انتخابات مجلس الشعب (الغرفة الأولى للبرلمان) العديد من الانتهاكات الإعلامية، بمنع خدمة الرسائل الإخبارية النصية، ومنع أجهزة البث المباشر لأجهزة الإرسال، فضلا عن التوجه بمنع مثل هذه الفضائيات الجادة من البث، حتى شعر هذا الوزير أنه فوق الجميع وأنه الحاكم بأمره، وأنه حامي حمى المشاهدين، وراعي حرياتهم العامة، ومن ثم الإعلامية، في الوقت الذي كان يوجه ويوافق فيه على بث سموم القنوات الهابطة إلى مخادع الأسر العربية التي تستقبل إرسال القمر المصري"نايل سات".

 

ولم يكن غريبا على الوزير المقال فعل هذا كله، فقد سبق له أن تبنى وأشرف على إصدار وثيقة البث الفضائي الشهيرة، ومحاولة تمريرها عبر جامعة الدول العربية بدعم وتأييد من جانب وزراء الإعلام العرب، فضلا عن الدور الذي حاول القيام به في تمرير قانون البث الفضائي والمسموع في مصر، وهما المشروعان اللذان وجدا اعتراضا واسعا، ليس من جانب الإعلاميين فقط، ولكن من عموم الحقوقيين والسياسيين المخلصين.

 

وأمام هذا العنت كله، كانت هناك بوادر تلوح في الأفق بغضبة الشباب على مدى 18 يوما، وهو ما فجر براكين الغضب في الشعب المصري حتى ثارت ثورته، إلى أن تحقق له ما أراد بإسقاط النظام، ومعه سقط أذنابه من دعاة تكميم الأفواه، بفضل الله أولا ثم هدير الحناجر التي ظلت تصدح ضد كل من يدعي الحرية ويجور عليه، وضد كل من يسعى إلى تقييد الأفواه ويدوس بقراراته عليها.

 

والملاحظ أن من يأكلون على فتات كل الموائد في كل عصر، سرعان ما انقلبوا على عقبهم مذعورين من هذا الهدير الشبابي، وتلك الحناجر القوية، بإدارة دفة الأمور، وربما في هذا السياق يكون من العسير القول بأن أمثال هؤلاء انقلبوا بمقدار 180 درجة، فبعدما كان في عرفهم أن النظام هو النموذج للطهر والعفاف، باتوا اليوم وبكل وضوح يؤكدون أنه كان نظاما فاسدا وبائدا، وأن رموزه كانوا أضاعوا على مصر الكثير.

 

أمثال هؤلاء كثيرا ما تحدثوا عن أن النظام هو الساعي إلى تحقيق الحريات، ومنها الإعلامية، حتى صار يطلق عليه حاليا بأنه نظام فشل في تحقيق طموحات الشعب، وأنه مارس ضدهم أشكالا عدة من القمع والاستبداد.

 

وأمام هذه العودة الصحيحة لموضوعية الإعلام ودوره في تنمية احتياجات المشاهدين، كانت في المقابل قرارات أخرى جاءت تماشيا مع ثورة الشباب، حتى لاتصيب حناجرهم كراسي مكاتب المسؤولين، ولذلك كان القرار بإلغاء منع الفضائيات الإسلامية، ليستفيد الرأي العام من كل ذلك، لتعود إليه قنوات مشاهدته، وليتخذ الجميع العبرة بأن الظلم مرتعة وخيم، وأن الحق حتما لابد له أن يعود، مهما كانت أراجيف الفاسدين، ودعاة تكميم الأفواه.