د. محمد مرسي: العبادات ينبغي أن تنعكس على تعزيز القيم (1-2)
14 ربيع الثاني 1432
جلال الشايب

    يعتبر الحوار منهج سليم لمخاطبة العقل والوجدان والتأثير فيه حتى تفهم القيمة وترسخ في السلوك وتصير جبلة وفطرة ثابتة
    الرحلة أسلوب من أساليب تعلم القيم إذا أخضعت لتخطيط مسبق وأعدت إعداداً حكيماً
    من الوسائل التربوية السليمة والسريعة لغرس القيم أسلوب القصة، فهي تشد انتباه السامع لما فيها من تشويق وإبداع وإثراء للخيال
    والقدوة في حقيقتها ترجمة واقعية لسلوك بشري، وهي من أهم العوامل في تربية النشء  بها يقتدي الطفل كما تؤثر فيه الصداقات التي يُكونها
    المؤسسة التربوية الناجحة هي التي تحسن توظيف العبادات لتركيز القيم وتعزيزها.

 

تمثل القيم دوراً أساسياً في حياة الأفراد والجماعات والمجتمعات إلى درجة أصبحت فيها القيم قضية التربية، ذلك لن التربية في حد ذاتها عملية قيمية، فالقيم هي  التي تحدد الفلسفات والأهداف والعمليات التعليمية، وتحكم مؤسسات التربية ومناهجها فهي موجودة في كل خطوة وكل مرحلة وكل عملية تربوية ودونها تتحول التربية إلى فوضى.
ويرى كثير من الباحثين أن مظاهر الاضطراب في المجتمعات المعاصرة يمكن أن يعزى إلى غياب الالتزام بنسق قيمي يحدد سلوك الأفراد وتوجهاتهم.
ولأن الموضوع جد خطير أرتئ موقع المسلم أن يحدد عنصرا هاما وهو الأساليب المستخدمة في غرس القيم الإسلامية الصحيحة في عقول وأذهان أطفالنا؛ ذاك النشء الجديد، ولذا فإنه علينا أن تبتكر طرقاً عديدة لغرس تلك القيم؛ فهي تغرس عن طريق القدوة وترسخها بالموعظة، وترمز إليها بالقصة، وتعود عليها بالعادة، وتعمل الأحداث والمناسبات على ترسيخها، وقد يعمد المدرس إلى الألعاب والتمثيليات تارة والمناقشة والحوار طوراً ثم القدوة والمحاكمة العقلية طوراً آخر.
لذا فلقد تحاورنا مع شخصية اجتماعية ذات خبرة وممارسة طويلة في المجال التربوي الاجتماعي، وهو الأستاذ الدكتور محمد مرسي أستاذ علم الاجتماع بجامعة الأزهر الشريف، فإلى الحوار:

 

أولا: د. محمد ما رأيكم بطريقة إقامة المشروعات للأولاد سواء عن طريق المدرسة، أو حتى عن طريق الأب والأم؟
تعد أسلوب إقامة المشروع من أساليب تنمية القيم لدى الأطفال؛ فهي طريقة يرسمها الطلاب ويتولون تنفيذها والعمل في هذا الأسلوب من خلال روح الفريق فلكل فرد في المشروع دوره في التخطيط والتنفيذ والتقويم.
ويخضع أسلوب المشروع إلى مراحل منها:
أ‌.    اختيار المشروع: الذي يضمن بدوره جملة من القيم التي تعمل المجموعة على ترسيخها وتعززيها وتعهدها بالعناية حتى تتمكن من النفوس.
ب‌.    رسم الخطة: ويتضمن وضع المقاصد والأهداف، وضبط النشاط عند التنفيذ، وتحديد الأدوار للأفراد والجماعات وإحضار ما يلزم من الأدوات ليتم في أحسن الظروف.
ت‌.    تنفيذ مراحل المشروع: وفي هذه المرحلة يتم الإنجاز وينبغي على الأستاذ المتابعة والنقد والتوجيه للعمل الطلابي والمشاركة في طرح الأسئلة وتشجيع روح المبادرة والتحريض على التعاون والعمل الجماعي.
ث‌.    تقويم العمل المنجز: وهي مرحلة تمام العمل وفيها  سيتم تقويم العمل بما له من إيجابيات وما عليه من سلبيات، ويشمل تقويم الأهداف ومدى تحققها، وسلوكيات أعضاء الفريق، وتقدير الزمن الذي استغرقه العمل.

 

بما أن الحوار هو أيسر الطرق لإيصال الحقائق إلى العقول وإكسابها الفهم المرتجى، مما يساعد على غرس القيم، فكيف يستفاد من الطريقة الحوارية في غرس مفاهيم تلك القيم في العقول والأذهان؟
بالفعل يعد أسلوب الحوار من أشهر الطرق وأنجحها لغرس القيم، فالحوار هو أيسر الطرق لإيصال الحقائق إلى العقول وإكسابها الفهم المرتجى كما قلتم، فإن المربي إذا أنبئ الحقائق والقيم مستخدمًا أسلوب الحوار والمناقشة الذي يديره بينه وبين طلابه.
وأوضح مثال على ذلك: لنفترض هذا المكتب، هل تستطيع رفعه وحدك؟ ولتحاول لعلك تفعل، وعند العجز فلابد من الاستعانة بزملائك، وهكذا كل شأن لا تستطيعه بمفردك يمكن بواسطة قيمة التعاون أن تتغلب عليه وتنجزه ولتدعم رأيك بأمر الله تعالى في قوله: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) والآية الكريمة قد أشارت إلى النهي عن التعاون على القيم السالبة مثل السرقة وغيرها.
وقد عمد رسول الله “صلى الله عليه وسلم” إلى الحوار لغرس الخلق الكريم ولتركيز القيم الإسلامية العليا هذا المنهج القرآني الحكيم الذي يبرز في قوله تعالى: ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فانظر أخي الكريم إلى هذا المنهج السامي الذي لا تدركه إلا بالعزم، ولا تستطيع ذلك إلا بالصبر والمثابرة.
فقد رأينا رسول الله “صلى الله عليه وسلم” وهو يعطى العطاء للإعرابي ويحسن إليه فيقول الإعرابي: "لا أحسنت ولا أجملت" فقابل إحسان الرسول بالنكران والجحود وقد حاول بعض الصحابة أن يناهضوا الرجل فمنعهم الرسول “صلى الله عليه وسلم” فإذا كان بعد ذلك أعطى الرجل عطاءً آخر وزاده زيادة أخرى ثم سأل الرسول “صلى الله عليه وسلم” الإعرابي وقال له: "هل أحسنت إليك أيها الإعرابي؟ فيقول الأعرابي: جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً" انظر كيف يعالج رسول الله “صلى الله عليه وسلم” نفوس عض الشر الذين استبد هم الجشع والطمع، زاده إحساناً على إحسان، ولما علم أنه رضي وقال جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، قال له عليه الصلاة والسلام: إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي منك شئ فإن شئت فقل بين أيديهم ما قلته الآن؛ فلما كان الغداة قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم” لأصحابه إن هذا الإعرابي أعطيناه بالأمس فغضب وزدناه اليوم فزعم أنه رضي أليس كذلك؟ قال الرجل: نعم جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال رسول الله “صلى الله عليه وسلم”: مثلى ومثل هذا الإعرابي كمثل رجل له ناقة، فشردت فجرى الناس خلفها ليلحقوا بها فكلما لاحقوها زادت نفوراً وجرياً أمامهم فقال: دعوني وناقتي فأنا أعلمها وأرفق، وأخذ لها من قمام الأرض ومن الحشائش ما استناخها واسترضاها، وقال: إني لو تركتكم حيث قال هذا الإعرابي ما قال فقتلتموه دخل النار.

 

فانظر حبيبي إلى أخلاقه “صلى الله عليه وسلم” كيف قابل نكران الرجل وجحوده وأسلوبه في العداوة؛ وهذا مثال من الواقع حكم بمضاعفة الإحسان ومزيد من الفضل، وكيف أراد محمد “صلى الله عليه وسلم” أن يستل من صدور أصحابه غضبهم على الرجل، وأراد أن يبين لهم أنه قد أصبح راضياً بالعطاء وأنه يقول أحسنت وأجملت وجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً حتى يطلع أصحابه على أنه قد صلح حاله وحتى لا تحمل قلوهم النسبة له كراهية وهذا من حبه “صلى الله عليه وسلم” للناس أجمعين.
فلقد عالج الضعف النفسي الذي في صدر الرجل واقتنع أصحابه بتلك المعاملة السامية، ولو تعاملنا جميعاً لهذا الأسلوب الحكيم لصلحت القلوب وصلحت الأحوال، فعلينا الأخذ هذا المنهج الدعوى الذي يتجلى فيه صبر المعلم الملهم.
واستخدم الرسول “صلى الله عليه وسلم” الحوار في كثير من المواقف لغرس القيم النبيلة في نفوس صحابته الكرام.
ويتضح ذلك عند الشاب الذي طلب من رسول الله “صلى الله عليه وسلم” السماح له بالزنا فأجابه أترضاه لأختك فقال: لا وهكذا إلى أن وصل الشاب إلى القناعة بشناعة ما طلب.
وهكذا يتضح أن الحوار منهج سليم لمخاطبة العقل والوجدان والتأثير فيه حتى تفهم القيمة وترسخ في السلوك وتصير جبلة وفطرة ثابتة، يفطر الإنسان عليها ويصير لا يتخلى عنها بسهولة ويسر لأنها امتزجت السلوك ودخلت في عادات الإنسان فصارت راسخة لا سبيل إلى اقتلاعها.
وفي القرآن الكريم وسائل وطرق مختلفة ومتنوعة يمكن أن تصاغ حسب ظروف كل مرب وموقع عمله وحسب أعمار المتعلمين، وحسب مناسباتها لتسهم إسهاماً فعالاً في غرس هذه القيم الإسلامية في نفوس النشء لتحقيق الغرض المطلوب منها.

 

قد يعتقد بعض أولياء الأمور أن إقامة الرحلات المدرسية تضيعا للوقت والجهد والمال، فهل هذا حقيقي، أم أننا من الممكن أن نستغل تلك الرحلات في غرس القيم التي نريدها؟
اعلم أن الرحلة نشاط خارج الصف فيها يُغير الطفل الجو وتشتاق نفسه إلى الاطلاع، كما أن الرحلة أسلوب من أساليب تعلم القيم إذا أخضعت لتخطيط مسبق وأعدت إعداداً حكيماً، فيها تزداد الحصيلة العملية وتغرس القيم الأصلية كالتعاون، وحسن القيادة، وروح المبادرة وحسن التنفيذ، وبراعة التقويم، وهي أسلوب مغاير لما اعتاد عليه الطالب في الدرس فهي   مشاهدات واستنتاجات ذات مغزى عميق وشكل جديد.
أما إذا كانت الرحلة مع أصدقاء سوء كما نرى في أيامنا هذه من إقامة رحلات طويلة المدى تصل إلى شهر أو نصفه، يخرج الشباب على شواطئ البحار فيعاكسوا ولا يغضوا أبصارهم كما أمرهم ربهم، ويستهلكوا المال والوقت والصحة فيما لا يفيد كشرب السجائر ومختلف أنواع المخدرات والخمور، فهذا كله يندرج تحت الضياع الذي تحدثت عنه في سؤالك، وعلى الآباء أن يفرقوا تماما بين الأصدقاء ومعرفة حسنهم من سيئهم؛ وكل ذلك لمصلحة أولادهم.

 

ما رأي سيادتكم في استغلال المناسبات والأحداث للمساعدة في غرس ما نريده من قيم ومبادئ وأخلاق في نفوس أبناءنا؟
إن الأعياد الدينية والوطنية والحوادث التاريخية فرص لتركيز قيم وطينة ودينية توجهها المناسبة وتكون سبيلاً يسيراً لرسوخ القيمة لأنها تقترن بالحدث فهي ذلك تكون أوقع في النفس خاصة إذا استثير الوجدان ووقع الاستلهام من الحدث التاريخي لمختلف الآيات والعبر.

 

استخدم القرآن الكريم أسلوب القصة في الحكي عن أنباء ما قبلنا ليقرب المعنى إلى الأذهان، فكيف نستخدم هذا الأسلوب في التعليم والغرس للقيم الإسلامية الصحيحة وخاصة مع الأطفال؟
من الوسائل التربوية السليمة والسريعة لغرس القيم أسلوب القصة، فهي تشد انتباه السامع لما فيها من تشويق وإبداع وإثراء للخيال، وتحدث أثرها في النفس لما تبعثه من إثارة ومن مشاركة وجدانية لأشخاص القصة وقد تنفعل النفس بالمواقف من خلال أبطالها وشخصياتها وأحداثها لذلك فإن القصة تمثل أروع الأمثلة لنماذج بشرية يمكن استلهام العبر منها وغرس القيم عن طريقها.
وكما ذكرتم فإن القرآن خير معلم لنا، فهو من عند الخبير بالعباد، العليم بحالهم ومآلهم، فالقرآن استخدم أسلوب القصة لجميع أنواع التربية التي يشملها منهجه التربوي: تربية الروح، وتربية العقل، وتربية الجسم، فهو سجل حافل لجميع التوجيهات.

 

تحفل المقررات المدرسية بالكثير من الكتب والمؤلفات، والمناهج التعليمية المتعددة في كل أصناف العلوم المختلفة، فكيف نغرس القيم عن طريق النص والكتب والمناهج الدراسية؟
يمكن استغلال النصوص للوصول إلى غرس القيم المستهدفة، فالنصوص عندما تعد بعناية وتخضع إلى فحص دقيق واختيار هادف يرمى إلى تحقيق أهداف يدوم ترسيخها تكون سبيلاً لغرس القيم الأخلاقية والجمالية والاجتماعية، فالنص حمال قيم يمكن أن تعلم به الصيغ اللغوية ويمكن أن ترسخ به ما شئت من القيم.
والشرط المعتبر اختيار النصوص التي تهدف إلى ترسيخ القيم اختياراً مدروساً بعناية وتخطيط هدفه تعزيز القيمة تارة وترسيخها طوراً وحذفها إن كانت سالبة تارة أخرى.

 

تختلف عادات البشر من شخص لشخص ومن مجتمع لمجتمع، كما أن العادة تحتل مساحة ممتازة في السلوك البشري، فكيف السبيل إلى استخدام العادات والتقاليد لغرس القيم الحسنة؟
تحتل العادة في السلوك البشرى مساحة ممتازة، فهي طبيعة ثابتة في السلوك البشرى تحكم فيه وتؤثر عليه وقد قيل في العادة: نعم العبد بئس السيد، أي إذا استحكمت العادة في الإنسان وتأصلت في سلوكه صارت سيداً يؤتمر بأمرها، وأما إذا روضتها وذللتها فهي   تكون خاصة كالعبد توفر له الراحة والهدوء والطمأنينة.
والعادة عن طريقها ترسخ القيم السالبة والموجبة، وهي لا تتم إلا عن طريق التخلية والتحلية، أي التخلية من القيم الفاسدة والتحلية بقيم بديلة سامية فتتصف بها النفوس وتتجمل، وسبيل ترسيخ العادة التكرار والإعادة إلى أن تتأصل في السلوك البشرى وتنطبع في النفس فتصير من الطباع الأصلية.

 

تعتبر القدوة الحسنة للمربين من أعظم ما ينجح وينضج التربية عامة، وإلا فكيف يُربي المربي من معه وهو لا يستشعر أهمية هذا الأمر وحساسيته في التربية الحقيقية، ومن هنا كيف نتخذ من القدوة سبيلا لغرس قيم الإسلام لإخراج جيل يصلح أن يكون قدوة فيما بعد؟.
القدوة هي أنجح الوسائل لغرس القيم، وتأثيرها يشبه فعل السحر ذلك لأن  تأثيرها هو الذي يفعل فعله، فالأب والأم والمعلم أقرب من يمثل القدوة بأعمالهم وادعى إلى التأثير  في الطفل بما هم عليه من القيم التي تتجلى في سلوكهم.
والقدوة في حقيقتها ترجمة واقعية لسلوك بشري، وهي من أهم العوامل في تربية النشء  بها يقتدي الطفل كما تؤثر فيه الصداقات التي يُكونها، وفي المثل "إن القرين بالمقارن يقتدي". وإن المتعلم مهما كان استعداده للخير عظيماً فإنه لا يستجيب لأصول التربية الفاضلة ما لم ير المربي متخلقاً بتلك القيم.
وقد علمنا نبينا “صلى الله عليه وسلم” أسمى القيم. ذلك لأنه النموذج الواقعي للأخلاق القرآنية وقد وصفته عائشة رضي الله عنها بأن خلقه “صلى الله عليه وسلم” القرآن، ووصفه رب العزة بقوله: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) إن شخصية الرسول ليست آية عصر ولا جيل ولا أمة ولا مذهب ولا بيئة إنه آية كونية للناس كافة، لقد جسم منهج القرآن فكان شخصية متعددة كالجوانب؛ كلٌ يغترف منه على قدر جهده. إنه نموذج واقعي ذو قيمة سامية تتمثل فيه أعلى الصفات الأخلاقية، وأكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل وكذا سائر الأنبياء فهم أجمل النماذج البشرية على وجه الأرض كما يظهر في قوله تعالى ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) وكذلك في مثل قوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ).
ولقد تجلت طريق القدوة في القصص القرآني فلقد ضربوا أروع الأمثلة في القيم السامية كالتضحية والفداء والعفاف والصبر والصدق والأمانة وكد الجبين على نحو ما نرى في مثل  قوله تعالى: ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) .

 

يقول الله تعالى في كتابه العزيز ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ .." فهل تدخل الموعظة في أساليب التربية وغرس القيم القرآنية، أم أنها مقتصرة على سبيل الدعوة إلى الله فقط؟
الموعظة: هي نصح وتوجيه لقيمة من القيم للعمل بها وهي تعتمد على أسلوب الوعظ. فقد يكون أسلوب الوعظ  بليغاً مفعماً بالعبر زاخراً بالأمثلة محلى بالقصص وضرب الأمثال والشروح المستفيضة فيحدث تأثير في النفس ويعمل على ترسيخ القيمة المستهدفة.
وقد يحدث العكس عندما تكون الموعظة ثقيلة على النفس وتعتمد على اللفظ المجرد والشرح الجاف الخالي من الإيحاء فعندئذ تحص النفرة من القيمة التي تهدف إلى تركيزها.
لذلك ينبغي الحذر كل الحذر من أسلوب الوعظ والإرشاد ورغم أن القرآن مدح الموعظة ولكن قرنها بالحكمة والحسن فقال تعالى: ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )، وقال تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ )
والموعظة لا ترسخ قيمها إلا إذا ارتبطت بالقدوة فلا بد لها من بيئة تشجيع على الأسوة الحسنة.
وكتاب الله العزيز مفعم بالمواعظ التي تحث على القيم السامية ولكنها مواعظ ليست جافة بالقدوة محلاة بالإيحاءات ذات التأثير النفسي الذي يبعث على الأخذ بالقيم النبيلة.
وهي قيم واقعية منطقية تنسجم مع التفكير الإنساني السليم ولم ستطيع أحد من الفلاسفة والمفكرين الغض من قيمة أي واحدة من القيم التي حفل بها  كلام الله ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )
وتتجلى قيم القرآن في موعظته المتميزة بالواقعية حيث تتلائم مع واقع الحياة، وتنسجم مع مقتضيات الفطرة، وليست نظرية مثالية ولا مجرد خيالات صوفية وإنما هي قيم خالدة  تقتبس خلودها من خلود الشريعة الإسلامية.

كيف نقوم بغرس القيم عن طريق أسلوب الثواب والعقاب؟
الإنسان لا يسير في هذه الحياة إلا عن رغبة أو رهبة وتعزيز القيم أو إضعافها يؤثر فيها أسلوب الثواب والعقاب، وإذا كانت القيم في تمكنها تتأثر بالترغيب كتحقيق وعد أو تقديم هدية رمزية فكذلك الترهيب قد يعدل سلوكاً خاطئاً أو يزهد في ممارسة قيمة سالبة.
ولكن الثواب والعقاب محفوف بمحاذير ينبغي الحذر منها وعدم الإفراط في استخدامها، ومما يؤيد استخدام هذا الأسلوب ما اشتمل عليه القرآن من وعد ووعيد وتحذير وتبشير، قال تعالى: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)، ومن أوضح الأمثلة قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)
وقصص الأنبياء تزخر بالعبر التي تحمل قيماً خالدة فيها الكثير من الترغيب والقليل
من الترهيب.

 

تعد العبادات الإسلامية وسيلة مثلى لغرس القيم في المؤسسة التربوية، فكيف ذلك؟
ذلك لأن العبادات تهذيب للخلق، وتربية للنفس لتواجه مصاعب الحياة وأبواب الآخرة وهي في أحد جوانبها أمانة حملها الإنسان وعليه أن يؤديها على الوجه الأكمل.
وليس العبادات من طرق التربية الوجدانية أو التربية الخلقية فحسب، ولكنها من طرق تربية الإنسان بصفة شاملة، ففي العبادات تربية جسمية، وتربية اجتماعية، وتربية جمالية، وتربية عقلية.
ففي الصلاة تربية شاملة على القيم الخلقية وذات أثر عظيم في تهذيب النفس وهي في جوهرها تنهي عن الفحشاء والمنكر.
وفي الصوم تربية على ضبط النفس وتعلم الصبر وقوة الإرادة، فضلاً عما فيه من قيم التكافل الاجتماعي.  
وفي الزكاة تطهير للنفس من القيم السالبة كالبخل وتعويد على قيم الكرم والعطف على الفقراء.
والحج وسيلة لغرس القيم التروية كما في قوله تعالى: ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).
وهكذا فإن العبادات ذات أثر فعال في ترسيخ القيم الأخلاقية والوجدانية والاجتماعية والعقلية، والمؤسسة التربوية الناجحة هي  التي تحسن توظيف هذه العبادات لتركيز القيم وتعزيزها أو حذفا والتنفير منها إن كانت سالبة.