أطفالنا وحرية التعبير
25 ربيع الثاني 1432
معتز شاهين

يحكى أن أحد الحكام .. أصدر فرمانا , يمنع فيه عن رعيته الكلام , وفي يوم جمع الناس .. ونادي فيهم , أنا الملك الهمام ,اهتفوا بحياتي ... ونادوا يحيا ملك الزمان , فوجد أن شفاههم .. قد التصقت ,وعجزت عن البيان والكلام !

 

الحرية فريضة إنسانية قبل أن تكون فريضة إسلامية، أوجدها الله في نفوس عبيده وجبلهم عليها، وهي فريضة على الحاكم والمحكوم، فالحاكم مطالب بتنفيذها عن طريق الشورى، والمحكوم مطالب بها فرداً وجماعات في كل المجالات تجاه الحاكم وتجاه الآخرين، لقوله – صلى الله عليه وسلم – ( الدين النصيحة قلنا : لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) صحيح مسلم.

 

 

- ماذا تعني حرية التعبير

 

هي الوسيلة والطريقة التي يمكن للفرد من خلالها التواصل مع الآخرين، والتفاعل معهم، وأي إعاقة لهذا التواصل، يجعل الفرد وكأنه يعيش في جزيرة منعزلة عن باقي العالم الذي يحيط به، ويجعل من الصعوبة التواصل مع الحياة بشكل عام.

 

 

- أسس حرية التعبير

 

من مقتضيات التكليف الحرية؛ قال تعالى [ ...  إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ] الإسراء :36، فمن البديهي ألا يحاسب الإنسان إلا على الأعمال التي فعلها تحت مجال حريته، فهو الذي اختار بحرية، وعليه أن يتحمل تبعات تلك الاختيارات، فقد قرن الإسلام كمال الدين بكمال الحرية، قال تعالى [ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ... ] البقرة :256.

 

وقد أكد القرآن في أكثر من موضع على التعددية ، والتي يستتبعها منطقيًا حرية التعبير، فقال تعالى [ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ] هود : 118، بل وأرشد العباد إلى الاتجاه الذي ينتهجونه في حالة الخلاف؛ قال تعالى [ ... فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ... ] النساء :59، فالشيء المؤكد وجود آراء متعددة في المجتمع الإسلامي تعكس تنوعه وتياراته الفكرية.

 

وأقر الإسلام بأحقية التعبير عن الرأي للرجل والمرأة سواء بسواء، قال تعالى [ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ] التوبة : 71، والمعروف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يخص الأمور الدينية التعبدية فقط، ولكن يشمل كافة الأمور والنواحي الإنسانية.

 

بل وحث الإسلام أتباعه على احترام رأي الصغير منهم، ودعاهم – أي الإسلام - إلى أن يتركوهم ليعبروا عن أرائهم بحرية كاملة، رغم حداثة سنهم وقلة خبرتهم، وشعارهم " كيف يتعلم من لم يخطئ "، وما حدث مع الصحابي الجليل عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -  حيث قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ولا تحت ورقها . فوقع في نفسي أنها النخلة ، فكرهت أن أتكلم ، وثم أبو بكر وعمر ، فلما لم يتكلما ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : هي النخلة . فلما خرجت مع أبي قلت : يا أبتاه ، وقع في نفسي أنها النخلة ، قال : ما منعك أن تقولها ، لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا ، قال : ما منعني إلا أني لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما فكرهت). صحيح مسلم

وكذا ما روي عن سهل بن سعد الساعدي:( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بشراب فشرب منه ، وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ فقال للغلام : ( أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟ ) فقال الغلام : لا والله ، لا أؤثر بنصيبي منك أحدا ، قال : فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده ). الصحيحين

 

 

- مشكلات فقدان حرية التعبير

 

حرية التعبير هي طوق نجاة أي مجتمع من العديد من المشكلات التي قد تؤدي لانهياره، فهي صمام أمان يتيح للفرد والمجتمع التواصل بنجاح، وقد تظهر تلك المشكلات بشكل فردي على الطفل؛ ولكن تأثيرها يكون بشكل عام على المجتمع ككل .. ومن أهم تلك المشكلات

 

1- فقدان الطفل الثقة في نفسه:

 

لدى الفرد قدرة على الاحتفاظ بنظرة إيجابية نحو نفسه، لكن كثرة المواقف التي يتم فيها النفخ على جذوة الثقة تؤدي إلى خفوتها في نفس الفرد، ذكرت إحصائية مشهورة أن الأبناء يتلقون خلال الثمانية عشر عاما الأولى حوالي (149400) رسالة سلبية؛ مقابل (600) رسالة إيجابية فقط. لذا فكثرة التوبيخ و التقريع تكسر عصا الثقة في يده، فالطفل قد تعود على عدم الاستماع له، وتسفيه والديه لأرائه، وكأنه كم مهمل أو شيء ضبابي لا وجود له في الأسرة، فالتربية الصارمة جعلت منه مجرد آلة لتنفيذ الأوامر وإطاعتها بدون أي مناقشة تذكر.

ويروى أن صبي وفتاة أدخلوا مدرسة لتعليم المعوقين بدبي على أنهم بكم؛ وللوهلة الأولى اعتبرا في عداد الصم؛ وتم التعامل معهم على هذا الأساس، وبعد فترة من الزمن تبين أنهم ليسوا بصم، بل بإمكانهم الكلام !! وجل مشكلاتهم تتعلق بالتربية التي تعرضوا لها من قبل الوالدين، فالأب لا يسمح لهم بأدنى حركة في حضوره، وأم مستسلمة، فأصبح لا داعي للكلام والحوار في البيت الذي لم يخرجوا منه هو أيضًا على الإطلاق.

 

2- ضعف الانتماء للأسرة:

 

وهي ظاهرة نفسية تعبر عن حالات الحياد العاطفي السلبي التي تنتاب الطفل، وهو الشعور الطبيعي لما يحدث من تربية صارمة خاطئة، يشعر فيها الفرد بدونيته داخل أسرته وبيته، مما يولد لديه نفور من أفراد أسرته، وعدم قدرة على التعامل معهم أو تقبلهم؛ نتيجة لرفضهم لأرائه، أو كبتهم المبالغ فيه لميوله وتصرفاته، مما يضعف شعوره العام بانتمائه لأسرته ، ويفقد والديه المكانة التربوية التي يجب أن يكونا عليها لكي يؤثروا فيه ويصبحا قدوة له، مما يجعله خارج سيطرة الأسرة، ويجعل الطفل حانقا على هذا الوضع ، مما قد  يؤدى لانفجار هذا الغضب ناحية المجتمع كبديل عن الأسرة، مما يجر على الأسرة الكثير من المشكلات.

 

3- الانطوائية والعزلة:

 

وهذه هي النهاية الحتمية لكل تلك التصرفات، فالأنا لدى الطفل محجور عليها لا تفصح عن مشكلاتها ورغباتها، والطفل يشعر أنه غريب داخل أسرته، الكل يعنفه ويمنعه من التكلم بحرية، فيؤدي ذلك إلى إمكانية حدوث مشكلات في النطق لديه من تلعثم أو ثأثأة وخلافه، مما يشعره بالحرج أثناء الحديث والتفاعل مع الناس، فيجنح للعزلة والبعد عن الناس.

 

4- ضعف التحصيل الدراسي:

 

إن تفهم المعلم والوالدين لأسئلة الطفل واحترامها ومناقشتها، وتقدير ابتكاره وعدم اعتباره خطأ فنيًا في مجالات استمرارها وتقويمها، يساعد كثيرا ً في تنمية مدارك الطفل. والعكس صحيح ، فالمنع والكبت والتضييق على الرأي يؤدون لعكس ذلك، يؤثر ذلك كله على مستوى الطفل الدراسي بشكل عام. ولا ننسى بالطبع حال مناهجنا التعليمية التقليدية الجافة والتي تخلو من أي فرصة للتعبير عن الرأي أو الحوار، فتجعل تلك المناهج المعلم هو المتحدث الرسمي داخل الفصل، نضيف إلى ذلك قواعد الحوار التي يضفيها المدرس للموقف، من ضرورة استئذان رسمي، وعصا غليظة للعقاب؛ كل ذلك يجعل الطفل يحجم عن المشاركة وإبداء رأيه. ‏

 

 

- موانع حرية التعبير

 

1-موانع داخلية ( جسدية / نفسية ):

 

وهي ترتبط بالطفل نفسه، فقد يكون أصم، أو يعاني عيوب في النطق؛  مما يجعل تواصله مع الآخرين صعب، فلا يستطيع إيصال ما يريده لمن حوله بسهولة. وكذلك الحال بالنسبة للضعف الجسماني ونقص التغذية بشكل عام، فيؤثر ذلك على الحصيلة اللغوية للطفل، نتيجة لعدم قدرته التفاعل بشكل سليم وكامل مع من حوله.

وقد يرجع السبب المانع للحرية لأسباب نفسية، فقد يتعرض الطفل لمشكلات نفسية تؤثر على سلوكه ، وتجعله أكثر عنفاً أو انعزالية عمن حوله، مما ينعكس سلبا على قدراته الذهنية واللغوية والتعبيرية، ومثال على ذلك مشكلة إبعاد الطفل عن أمه منذ الصغر. 

 

1-موانع خارجية ( اجتماعية / تربوية ):

 

فقد تشكل العادات والتقاليد حاجزا يحد من حرية التعبير ، مثل الفتاة التي تصمت عند قدوم زوج لها ، مما قد يؤدي لفشل الحياة الزوجية برمتها.

وقد تكون التربية داخل الأسرة كما ذكرنا من قبل معوق لحرية التعبير، فالأسرة هي مركز التدريب الأول للطفل على حرية التعبير، فإذا كانت العلاقة السائدة داخل الأسرة هي علاقة القائد بالجنود ( نظام عسكري ) .. فماذا نتوقع؟

 

 

- طرق غرس تلك المشاعر في نفوس أبنائنا

 

1- طفلي مشروع حياتي:

 

وتلك أهم عقبة تواجه أي والدين في تربيتهما لأطفالهما، فكثير من أطفالنا يولد ولديه جذوة العبقرية تتقد في ذهنه، ولكننا نطفئها بتعاملنا بازدراء وسوء معاملة لأفكاره وأطروحاته، فالوالدين يعتبران أن طفلهما مازال صغيرًا، مما يعطيهما حق الوصاية عليه، ونسوا أو تناسوا أن هذا المخلوق قد  خلقه الله له عقل وروح يحتاجان إلى أن ينشطا ويعملا حتى يصل إلى الاستقلالية الحق التي ينشدها أي مربي لمن يعمل على تربيتهم. فتعامل مع ابنك على أنه ( مخترع صغير )، أو ( عبقرينو في بيتك )، تعامل معه على أنه ( مشروع حياتك )؛ الذي يحتاج إلى مثابرة ومجهود حتى ينجح ويؤتي ثماره.

 

2- الاستماع والإنصات:

 

وهذا يبدأ منذ اللحظات الأولى في حياة الطفل، فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن إبداء الأم اهتمامها بوليدها في الأسابيع الأولى من ولدته، تجعله يسرع في عملية المناغاة والتآلف مع أمه. فالطفل يحتاج إلى أذن تسمع، ولسان يحاور، لا تعليمات وأوامر. وليحرص كل أب وأم على الإجابة على كافة أسئلة أطفالهم – بما يتناسب وقدرة عقولهم ومرحلتهم السنية -، فأسئلتهم تلك هي فاتحة التعلم وعنوان لذكائهم وتزكية له، وكذلك يجب على الوالدين تشجيع التحدث وطلاقة الأفكار بين أفراد الأسرة الواحدة، فكل ذلك يؤدي لذكاء أطفالنا وجدانيًا وعقليًا.

 

3- اترك العنان لخيال طفلك:

 

فحاول ألا تكون سلبي في طريقة تعاملك مع خيال طفلك، فإذا فجاءك طفلك بتعامله مع علبة اللبن على أنها سيارة، لا تصدمه وتبدي رأيك الواقعي بأنها مجرد علبة لبن وعليه أن يضعها في سلة المهملات، بل حاول أن تشجعه على التصور والخيال، فهذه مشكلتنا حين نريد أن نلعب مع أطفالنا لابد لنا أن نوجه ونقرر!

 

4- تغافل عن أخطائه:

 

إذا كان الكبار يتعلمون بعض الأشياء بالقراءة فقط، فالأطفال يتعلمون كل شيء بالعمل والممارسة، لذلك إذا كنا دائماً نعاتبه على أخطائه فكأننا نعاتبه على التعلم.

 

5- بنك الأفكار:

 

أحرص على المناقشة والحوار بين أبنائك دائمًا، وعلمهم طرق متعددة لحل المشكلات، وإذا واجهت الأسرة مشكلة، فليجلس الجميع لمناقشتها ومحاولة حلها، وحاول تخصيص يوم في الشهر ( يوم التفكير والحوار )، وضع أمامهم بعد المشكلات واترك لهم حرية إيجاد الحلول من خلال التحاور فيما بينهم، وحاول أن تخصص مكان لافت في البيت وضع عليه تلك الأفكار الخاصة بأطفالك، وسمه ( بنك الأفكار ).

 

6- تعزيز الإيجابية لدى الأبناء:

                                               

وهذا هو الهدف من تربيتنا لأبنائنا وهو زرع الايجابية وروح المبادرة في نفوسهم منذ الصغر ، وسيبدأ هذا منكما – أي الوالدين –

- حاولا المناقشة حول أمور تخص البيت بهدوء وتبادلا المناقشات أمامهم منذ الصغر ليتعودا على المناقشة والحوار.

- أشركا أطفالك في إدارة أمور البيت، واجعلا كل واحد منهم - كل فترة - وزير مالية البيت لمدة أسبوع.

- دربا أطفالك على الشورى، وعودوهم على المشاركة في صنع القرار، وشجعوهم وحاولا أن تخففا من بسط سلطاتكما ونفوذكما عليهم.

- حاولا أن تشركوهم في أعمال تطوعية وخدمية لمجتمعهم منذ الصغر.

- علما بقلم أحمر على أخبار معينة في الجريدة، ثم اتركاها لفضولهم، ستجدونهم يقرءونها ويناقشونكما فيها.

 

7- تنمية التواصل الاجتماعي للأبناء:

 

فتواصل طفلك مع من حوله وفي سنه له فوائد نفسية وعقلية وجسمية وروحية، تنعكس على توازن نمو شخصياتهم وهم في طور النمو، لذا حاول أن تشجع أطفالك على عقد صداقات مع من حولكم من الأقارب والمعارف حتى تكون مطمئن على نوعية وطبيعة تلك الصداقات، مع ترك الحرية للطفل لكي يختار صديقه، مع ضرورة الاطمئنان علي حسن اختيار الطفل للصديق.

 

 

من المهم أن يُغرس في الطفل منذ صغره أن للحرية ضوابط وحدود ( حرية بلا حدود = فوضى )، وأن الحرية دائمًا ما تقترن بالمسئولية،  فحرية الفرد تنتهي عندما تتعارض مع مبادئ الإسلام وثوابته وأخلاقه، وعندما تبدأ حرية الآخرين.