إعلام الفتنة في مصر.. وريث إعلام النظام المخلوع؟!
11 جمادى الأول 1432
علا محمود سامي

يُعَرّفُ الإعلام دائماً على أنه الإخبار عن الشيء، ولكن هذا المعنى لم يكن مفهوماً أو حاضراً في اجتماع مجلس الوزراء المصري عام 1973، عندما ناقش المجلس آنذاك مقترحاً من الدكتور محمد عبد القادر حاتم بإنشاء أول وزارة للإعلام في العالم العربي، لدرجة أن الوزراء من أعضاء المجلس أنفسهم اعتقدوا أنها وزارة للأعلام، أي استحضار الأسماء اللامعة في الفكر والثقافة، لولا تدخل د.حاتم لتصحيح اللفظ وتوضيح المعنى المراد.

 

ومن يومها تم تشكيل أول وزارة للإعلام في مصر، وهو ما انسحب بعد ذلك على جميع الدول العربية، حتى أن الدول التي ألغت هذه الوزارة في سنوات العقد الأخير، استحضرت بدلاً منها إما هيئات أو جهات أو أجهزة تقوم بالدور نفسه، ولكن بمسمى آخر، مما يعني أننا أصبحنا أمام تحايل على الحريات ذاتها، بما يعرف عن دور هذه الوزارات في إقصاء مخالفيها، وتعبئة الرأي العام لمصلحة ما تبثه، ومن ثم قمع وجهات النظر الأخرى.

 

ومع إطلاق القنوات التلفزيونية العربية إلى الفضاء، كانت الفضائية المصرية هي الأولى التي وضعت لنفسها موقعا في هذا الفضاء في عام 1990، ثم تبعها بث فضائيات خاصة، وبعدها بدأ التحول التدريجي للبث الفضائي لكل من القنوات الخاصة والعامة في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، جراء رفع قبضة الحكومات عن احتكار بث أجهزة ووسائل الإعلام لاعتبارات لا يتسع المجال لذكرها، إلى أن شعرت الأنظمة أن زمام الأمور قد ينفلت من سيطرتها، فأخذت تتعامل معها بطريقة الكر والفر.

 

بمعنى أنها (الحكومات) أصبحت تستهدف بعض الفضائيات  بالحجب أو الإيقاف عن البث أو إغلاق الاستوديوهات أو توقيف الإعلاميين، أو إصدار توجيهات، وهى غالباً ليست مكتوبة أو قانونية، للحد من حرية ما تتناوله من طرح تراه هذه الأنظمة مخالفاً لسياقها العام، إلى غيرها من الأساليب والممارسات القمعية.

 

على هذا النحو كانت أهمية استمرار وزارات الإعلام في العالم العربي في نظر الحكومات والأنظمة، حتى حدث تطور نوعي آخر بمزاحمة القطاع الخاص للحكومات في البث الفضائي بشكل أكبر، وبمهنية أكثر، بعدما تم حرمانه من البث الأرضي سنوات عديدة بفعل قوانين مغلظة.

 

وهنا نذكر أن هذه المزاحمة كانت في البداية بين طرفي نقيض، حتى وصلت إلى ندية، ثم مهنية من جانب القطاع الخاص، على الرغم من امتلاك الإعلام الرسمي للكثير من الأدوات والوسائل التي تجعله محتكراً ومهيمناً على أي وسيلة أخرى، ما جعله إعلاماً حكومياً وليس وطنياً بمفهومه العام، يستوعب الدولة، وجميع من يعيشون فيها، أو ما صار يطلق عليه الإعلام الوطني، أو إعلام الدولة، ولكنه بهذه النوعية يصنف بحسب الأكاديميين إعلاماً رسمياً معبراً عن الحكومات، أكثر منه معبراً عن الشعوب.

 

هذه المزاحمة وما صاحبها من تدخل حكومي في آليات عمل الإعلام الخاص، كثيراً ما تضجرت منها الفضائيات الخاصة، والتي راحت تدَّعي أنه لولا القبضة الاستبدادية عليها، والتعليمات المفروضة من جانب حكوماتها، لتغير حالها، ولأبرزت إعلاماً معبراً عن شرائح المجتمع بتياراته المتباينة.

 

وحتى تكون النظرية مصحوبة بالتطبيق، فإن الإعلام المصري بشقيه (العام والخاص)، يبدو النموذج والتطبيق الأكثر وضوحاً، إذ إنه بعد سقوط نظام حسني مبارك، وإنهاء السيطرة الأمنية والتوجيه الرسمي للإعلام، ظهرت الحقيقة ناصعة البياض في أن هذا الإعلام لا يعرف سوى رغبات مالكيه، والذين هم في الأساس أصحابه، وبالتالي لم يعرف الاستقلالية، وإن تذرع بها، حتى أصبح يخدم أهداف مُلّاكه، وزاد على ذلك بدعم أفكار"مؤدلجة"، يمكن أن تحقق وتدعم مصالحه.

 

هذه الحالة أصبح يراها كل من يتابع الإعلام المصري الخاص منه أكثر من العام، بعدما أخذت الفضائيات الخاصة توجه حملة مسمومة ضد كل من يقف في صف التيار الإسلامي على مختلف تنوعاته وتياراته منذ الإعلان عن التعديلات الدستورية، وما صاحبها من دعم الإسلاميين للموافقة عليها، وما استتبعها من إعلان دستوري أقر بأن الإسلام هو المصدر الرئيس للتشريع، وأن دين الدولة هو الإسلام، وأن لغتها هي العربية.

 

ومن وقتها، والفضائيات الخاصة تكشف عن وجهها الحقيقي، وقد حالفتها في ذلك صحف  تتبنى الشيء ذاته، وإن لم تكن بنفس جدارة الفضائيات، نظراً لتأثير الأخيرة القوي في نفوس الرأي العام، وإقبالهم عليها، بشكل يفوق غيرها من وسائل الإعلام.

 

هذه الحملة لم تقف عند العداء وفقط، ولكن تجاوزتها إلى أشبه ما يعرف بالحملة المضادة، التي أصبح يقف وراءها فلول النظام البائد ، وصار هذا الإعلام يصدر فزاعات جديدة للمجتمع، وهى خطورة مد التيار الإسلامي على المجتمع، وبالأخص الدعوة السلفية منه.

 

وليس أدل على ذلك مما تقدمه البرامج الإخبارية أو التحقيقات الصحافية، أو حتى الأخبار ذاتها، فيما تنسبه لمصادر لا تسميها بأن هناك من يستهدف غير المحجبات، أو من يعتدي على النصارى ودور عبادتهم، إلى غيرها من الفزاعات التي كان النظام الساقط يروجها للغرب زاعماً أن البديل الوحيد له يتمثل في "الأصوليين"!!

 

هكذا كان ينطق النظام البائد، وهكذا يقلده الإعلام القائم اليوم، وبالأخص من يدعي الاستقلالية منه فيتبنى نفس الفزاعات، مع إشارات للغرب بذلك، فضلاً عن تعبئة وتضليل الرأي العام، لنصبح أمام شكل جديد من الإقصاء، الذي عانى منه هذا الإعلام نفسه إبان نظام الحكم السابق.

 

ولم يقف الأمر عند حد الإقصاء فحسب، بل صاحبه حملة تشويه وتشهير، والأخطر كانت تعبئة الرأي العام ضد كل من يسعى إلى تبني فكر إسلامي، أو يسعى إلى أن تكون له مسحة إسلامية، حتى كاد يصبح هذا الإعلام هو الإعلام الذي يغذي الثورة المضادة، الذي تقلقه أي خطوة صحيحة يخطوها المصريون حالياً، حتى يكاد يصبح أشبه بإعلام الفتنة، والذي يثير أبناء الوطن الواحد، إن لم يكن كذلك.

 

من هنا كان إسهابنا بعض الشيء في مقدمة مقالنا هذا لإبراز أن هذا الإعلام الذي أصبح يمارس شكلا من أشكال الإقصاء وتعبئة الرأي العام، هو نفسه ذات الإعلام الذي سبق واشتكى من تسلط النظام عليه بتعطيله، واضطهاد عامليه، حتى أصبح يمارس الشيء نفسه مع التيارات المناوئة له، في ظل هيمنة تيار"مؤدلج" على وسائل وأجهزة الإعلام الخاص، ومن ثم يعمل في إطار كل ما يمكن أن يدعم الفتنة في داخل المجتمع الواحد، وبين أبناء الشعب الواحد.

 

هذا الإعلام يخون المهنية بالتعرض إلى الطرف الآخر الذي يعتبره يثير الفتنة في داخل المجتمع، ويتعامل معه على اعتبار أنه الحاضر، الذي يغيبه عن طريق الإقصاء غير المباشر، وقد يكون مباشراً في أحيان كثيرة.

فضلا عن ذلك فان هذا الإعلام أصبح ينساق وراء الشائعات، ولا يتثبت منها، وهو ما يخالف معايير العمل المهني، التي توجب التوثيق والتحقق من صحة المعلومات أو الوقائع، اعتماداً على شهود وبراهين وحقائق قائمة، وإلا أصبح هو ذاته إعلام شائعات، ومثيراً للفتنة، خاصة بعدما ظل يستحضر على مدى الشهرين الماضيين فزاعات عدة، يثير بها الرأي العام، وهو نفس الشيء الذي كان يفعله النظام البائد.

 

من هنا ينبغي لنا أن نتنبه إلى مخاطر هذا الإعلام  بما يهدد ثورة 25 يناير، ما لم نضطره إلى  أن يعمل على تحقيق التجانس بين المصريين، ليكون إعلاماً بنّاءً وليس هداماً، ينشر التنوير الحقيقي وليس الفتنة المزعومة، يعمل على توعية المشاهدين وليس إثارتهم، يسعى إلى نيل حرياتهم، ولا يعمل على تكميم أفواههم بوسائل وأساليب جديدة.