قاعدة عموم نفي المساواة وأثرها في الفقه الإسلامي (3-4)
1 جمادى الثانية 1432
د. عبد الرحمن بن محمد القرني

المطلب الخامس:
الترجيح
الحق أن الخلاف في المسألة خلافٌ قوي يعسر معه الجزم بتصويب أحد القولين، غير أن الأقرب إلى الرجحان في نظري القاصر – والله أعلم – هو مذهب الجمهور؛ وذلك للأمور التالية:
أولاً: أنَّ (لا يستوي) نفيٌ دخل على الجملة المكونة من الفعل وفاعله، والجملة نكرة، والنكرة في سياق النفي تعمّ([1])، وهذا المقام كافٍ في المطلوب من غير حاجة لمدلول الاستواء في الإثبات.
وقد أقر النحاة بهذا حيث قال أبو الحسن الوَرَّاق([2]): «الأفعال مع فاعلها جُمَلٌ، والجمل نكرات»اهـ([3])، وحكى أبو القاسم الزَّجَّاجي([4]) الإجماع عليه، حيث قال تقي الدين الجُرَاعي([5]): «حكى الزجاجي إجماع النحاة على ذلك» اهـ([6]).
وإليك عبارة الزجاجي بحرفها من كتابه (الإيضاح) وذلك لأهميتها؛ حيث قال: «ما دليلكم على أن الأفعال كلها نكرات؟
الجواب أن يقولوا: الدليل على ذلك إجماع النحويين كلهم من البصريين والكوفيين على أن الأفعال نكرات، ولم يكونوا ليجتمعوا على الخطأ، ولا يُعِيْنَه واحدٌ منهم على ذلك مع كثرة علماء الفريقين وفحصهم عن دقائق النحو وغوامض المسائل» اهـ([7]).
وقال أيضاً: «قال النحويون كلهم: الدليل على أن الأفعال نكرات أنها لا تنفكُّ من الفاعلين، والفعلُ والفاعل جملة يستغنى بها وتقع بها الفائدة، والجمل نكرات كلها؛ لأنها لو كانت معارف لم تقع بها فائدة؛ لأنها قد كان يعرفها المخاطب فلا يقع له بها فائدة.
فلما كانت الجمل مستفادة عُلِمَ أنها نكرات، ولذلك لم تجز الكناية عن الجمل؛ لأن المكاني([8]) معارف والجمل نكرات فلذلك لم تضمر، وكذلك الأفعال لما كانت مع الفاعلين جملاً كانت نكرات ولم يَجُز إضمارها» اهـ([9]).
q   وعلى هذا المرجح عَوَّل ابن الحاجب وهو من كبار علماء العربية، بل جعله ابن الحاجب أهم مرجح في المسألة، حيث قال بعد فراغه من أدلة الفريقين ومناقشاتها: «والتحقيق أن العموم من النفي» اهـ([10]) يعني: لا أن عمومه حاصلٌ من كونه نقيض قضية جزئية.
q   وقد أورد قطب الدين الشيرازي([11]) على هذا تشكيكاً حيث قال: «ولا يخفى عليكَ أن التمثيل بـ (لا يستوي) ليس بحسن؛ لأن المراد من النكرة اسم الجنس، و(يستوي) ليس كذلك، ولكن المتخاصمينَ لا يفرقون بينهما، ويسلّمون أن النفي في (لا يستوي) دخل على نكرة أيضاً ولكن تقديراً لا صريحاً » اهـ([12]).
وقد أجاب التفتازاني([13]) عن هذا الإيراد بقوله: «المحققون من النحاة على أن المراد بتنكير الجملة أن المفرد الذي يُسْبَك منها نكرةٌ، وعموم الفعل المنفي ليس من جهة تنكيره بل من جهة أن ما تضمَّنه من المصدر نكرةٌ، فمعنى (لا يستوي زيدٌ وعمرو): لا يثبت استواءٌ بينهما» اهـ([14]).
ثانياً: أنه إن سلَّمنا أن دلائل الفريقين قد تعارضت وتكافأت، فإنه يترجح مذهب الجمهور من جهة أخرى وهو أنهم يطلبون بدليلهم إثبات العموم، والحنفية ومَنْ وافقهم يطلبون بها الإجمال، والعموم أولى من الإجمال.
q   وعلى هذا المرجح عَوَّل صفي الدين الهندي([15]) حيث قال: «لمَّا تعارضت الدلائل كان الترجيح معنا؛ لأن التعميم أولى من الإجمال» اهـ([16]).
ثالثاً: أن نفي المساواة بين الشيئين يدخله الاستثناء، وذلك نحو: (لا يستوي زيدٌ وعمرو إلا في كذا وكذا) وقد قال علماء الأصول: الاستثناء معيار العموم([17]).
وشاهده في مسألتنا من الكتاب العزيز قول الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ([18]) فقوله: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) استثناء([19]) من قوله: (لَا يَسْتَوِي) لا من قوله: (الْقَاعِدُونَ) فثبت أن نفي المساواة للعموم لقبوله الاستثناء من غير عدد.
q   وقد أوضح تقي الدين ابن تيمية([20]) ذلك، حيث قال بعد أن ساق الآية الكريمة: «فالله تعالى نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز، ولم ينفِ المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز، بل يقال: دليل الخطاب([21]) يقتضي مساواته إياه، ولفظ الآية صريحٌ اسْتُثْنِيَ أولو الضرر من نفي المساواة، فالاستثناء هنا هو من النفي، وذلك يقتضي أن أولي الضرر قد يساوون القاعدين وإن لم يساووهم في الجميع.
ويوافقه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك: «إنَّ بالمدينةِ رجالاً ما سِرتُم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، قالوا: وهم بالمدينة؟! قال: وهم بالمدينةِ، حَبَسَهم العذرُ»([22]) فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه إلا العذر هو مثل مَنْ معهم في هذه الغزوة، ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غازٍ على قدر نيته، فكذلك القاعدون الذين لم يحبسهم إلا العذر » اهـ([23]).
رابعاً: ودعوى الحنفية أن نفي المساواة من قبيل المجاز؛ لعدم صدق العموم لخروج التساوي بين الشيئين في الوجود والتعيّن وبين المسلم والذمي مثلاً في الجسمية والناطقية إلى آخر ما ذكروه في هذا المقام، دعوى ضعيفة؛ لأن هذه الوجوه لم تكن داخلة تحت اللفظ العام أصلاً؛ لأن النص الشرعي جاء لبيان الأحكام الشرعية، فهي المرادة بالإثبات أو النفي.
*   وعلى هذا المرجح عَوَّل بدر الدين التُّسْتَري حيث قال: «إن المقصود نفي الأحكام الشرعية، فالنفي داخل على هذه المساواة الخاصة.
وأيضاً يمتنع أن يراد سلب المساواة في الصفات الذاتية؛ لاشتراك الفريقين فيها، بل سلب المساواة مطلقاً إلا باعتبار أمرٍ يتميز به أحدهما عن الآخر، فإنه لا مدخل له في الأحكام الشرعية، فَسَلْبُه يستلزم المطلوب، وهو ظاهر.
ومنه عُلم أن ما ذكره الحنفية نصبٌ للدليل في غير محل النزاع» اهـ([24]).
وكذلك عَوَّل عليه ابن بَرْهان([25])، وكذا ابن قيم الجوزية([26]) بعبارة رشيقة، حيث قال ابن القيم بعد قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ)  ([27]) قال: «وهذا يقتضي نفي مطلق المساواة بين المسلم والكافر، لا نفي المساواة المطلقة؛ فإنها منتفية عن كل شيئين وإن تماثلا » اهـ([28]).

تنبيهـــات:
وههنا تنبيهات وفوائد تتعلق بهذا المبحث الثاني، فمنها:
أولاً: اختلف موضع هذه المسألة في كتب الأصول، فذكرها الجمهور في باب العموم، وذكرها أكثر الحنفية في باب الحقيقة والمجاز([29]).
فأما الجمهور فالمناسبة على مذهبهم ظاهرة؛ إذْ هم قائلون – كما سبق – بأن نفي المساواة يفيد العموم.
وأما الحنفية فمناسبة إيرادهم المسألة في باب الحقيقة والمجاز أنهم قالوا: إن الحقيقة تُتْرَك بخمسة أشياء، فمنها تَرْكُ الحقيقة بدلالة محل الكلام([30])، كأن يقول: «واللهِ لا آكلُ من هذه النخلة» فلا يحنث لو أكل من عين النخلة؛ لأن الحقيقة وهي أكل النخلة عينها قد تُركتْ؛ لأن المحل غير قابلٍ للأكل، فينصرف كلامه إلى المجاز وهو الأكل من ثمرها.
ومن هذا القبيل قول الله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) ([31]) فإنه بدلالة محل الكلام يُعْلَم أن نفي المساواة بينهما على العموم غير مراد؛ لتساويهما في الوجود والإنسانية والعقل وغير ذلك من الصفات، فيرجع النفي إلى البَصَر؛ لأن صيغة العموم إذا أُضيفت إلى محلٍ لا يقبل العموم فإنه لا يراد بها حقيقتها وهو التعميم، بل مجازها وهو أخصُّ الخصوص([32]).
ثانياً: سبق معنا أنَّ من أسباب الخلاف في المسألة هو اختلافهم في مدلول المساواة حال الإثبات، فإن كان عاماً كان في مسألتنا خاصاً، وإن كان في الإثبات خاصاً كان في مسألتنا عاماً؛ لأن النفي نقيض الإثبات، والكلي نقيضه جزئي([33]).
ومسألة المساواة بين الشيئين في الإثبات هي مسألة أصولية برأسها، يُعَبَّر عنها بقولهم: مساواة الشيء بالشيء (أو تشبيه الشيء بالشيء) هل يقتضي تساويهما من جميع الوجوه الممكنة أَوْ لا؟ ذكرها بعض الأصوليين([34])، ومن أمثلتها قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة([35]) رضي الله عنها: «كنتُ لكِ كأبي زَرْعٍ لأمِّ زَرْعٍ»([36]) لا يلزم منه وقوع الطلاق على عائشة([37])؛ لأن تشبيه الشيء بالشيء لا يقتضي تماثلهما من كل وجه([38]).
وقد ذكر هذه المسألة – أعني المساواة بين الشيئين في الإثبات – جمال الدين الإسنوي في كتابه (التمهيد) وفرَّع عليها، وذكر مسألتنا في أثنائها، فالذي ذكره الإسنوي من الفروع المخرَّجة بقوله كما هي عادته: «إذا علمتَ ذلك فمن فروع المسألة ... » الخ([39]) إنما هو تخريج على مساواة الشيء للشيء أو تشبيهه به، وليس تخريجاً على مسألتنا، فليتنبه لهذا.
وهذا على خلاف صنيع الزنجاني([40]) في كتابه (تخريج الفروع على الأصول) فإنه ذكر مسألتنا وفَرَّع على الخلاف فيها([41])، وسيأتي النقل عنه في المبحث الأخير إن شاء الله تعالى.
ولم تتعرض بقية المصنفات المطبوعة في علم تخريج الفروع على الأصول للمسألتين هاتين فيما رأيت.
*   هذا ومن الفروع التي خرجها الإسنوي على مسألة المساواة بين الشيئين:
1-         إذا قال: (أحرمتُ كإحرام زيدٍ) فإنه يصير محرماً بعين ما أحرم به زيدٌ من حجٍ أو عمرة، ومن قرانٍ أو تمتع أو إفراد.
ولو قال (أحرمتُ كإحرام زيدٍ وعمرو) وكان أحدهما محرماً بالحج، والآخر محرماً بالعمرة، صار قارناً.
2-         لو قال: (أوصيتُ لزيدٍ بمثل ما أوصيتُ لعمرو) فإنه يكون وصية بذلك المقدار وجنسه وصفته([42]).
ثالثاً: فرق بدر الدين الزركشي([43]) والناقلون عنه([44]) بين مذهب الحنفية وبين مذهب إِلْكِيَا الطبري وصفي الدين الهندي، فجعلوا الحنفية قائلينَ بعدم إفادة نفي المساواة للعموم، وجعلوا إِلْكِيا والهندي قائلينِ بأنه مجمل.
وهذا التفريق ليس بشيءٍ، فإن كتب الحنفية مصرِّحة بأنه من قبيل المجمل([45])، وحَمْلُ الحنفية إياه على أخص الخصوص وهو ما دل عليه السياق هو بسبب تيقنه، ويبقى فيما عداه كالمجمل يتوقف فيه إلى حين البيان على ما سبق إيضاحه.
والعجيب أن الزركشي – رحمه الله تعالى – ذكر مع الحنفية في المذهب الثاني جماعة منهم الغزالي وأبو الحسين البصري، ولم يجعلهما مع المذهب الثالث القائلين بالإجمال على ما ظَنَّه، مع أن الاثنين ذكرا أن نفي المساواة من قبيل المجمل([46])، كما أن إِلْكيا والهندي ذكراه من قبيل المجمل!!
*    هذا وقد عَبَّرَ نجم الدين الطوفي عن مذهب المانعين للعموم في مسألتنا بأن نفي المساواة من قبيل المطلق.
وذلك أن الطوفي ساق الآية الكريمة وهي قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) ([47]) ثم قال: «ذهب قوم إلى أن هذا يقتضي عموم نفي المساواة بين الفريقين من كل وجه، حتى أدرج تحته أن الذمي لا يكافيء المسلم ليقتل به، وذهب آخرون إلى أنه لا يقتضي العموم، وقد انتفت المساواة بينهما في أحكام كثيرة، ولا دليل على عدم التساوي بين المسلم والذمي في القصاص حتى تندرج تحت نفي التسوية المستفادة من الآية، فيقتل المسلم بالذمي...
وحاصل الأمر أن نفي التسوية في هذه الآية عامٌّ فيتناول نفي التسوية بينهما في القصاص؟ أو مطلقٌ فلا يتناول؟» اهـ([48]).
رابعاً: سبق معنا في أدلة الجمهور أن الفعل (يستوي) نكرة، ولذا عَمَّ في سيـاق النفي – وهي مسألتنا – ولم يعم في سياق الإثبات، وقد يقال: لماذا عَمَّتْ في النفي ولم تعم في الإثبات؟
والجواب عن هذا السؤال جاء في كلام أبي محمد الجويني([49])، حيث قال: «النفي في النكرة يعمُّ، والإثبات في النكرة يَخُصُّ ولا يعم.
والفرق بينهما فرقُ جمعٍ على الحقيقة، وبيان هذا: أن الرجل إذا قال: (رأيتُ رجلاً) فقد أخبر عن رؤيته رجلاً واحداً، فلو حملنا لفظهُ على أكثر من واحد كُنَّا قد استفدنا من لفظه ما لم يوضع اللفظ له، وإذا قال: (لم أَرَ رجلاً) فقد نفى رؤيته لا في رجلٍ بعينه، فاقتضى نفي الرؤية على العموم، وإذا حكمتَ بأنه رأى رجلاً ولم يَرَ غيره صار مُكَذَّباً في قوله: لم أَرَ رجلاً»اهـ([50]).
خامساً: قال العز بن عبدالسلام([51]): «نفي التسوية بين الفعلينِ، أو الفاعلَيْنِ، أو الجزائينِ إنْ رجع إلى تفاوتهما في الرتبة دلَّ على تفضيل أحد الفعلين على الآخر، وإن رجع إلى الثواب والعقاب دلَّ على الأمر والنهي، وإن رجع إلى مدح أحد الفعلين وذم الآخر رجع إلى أن أحدهما مأمورٌ والآخر منهيٌّ.
مثال نفي التساوي في رتبة الثواب قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ([52]) وقوله: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) ([53]).
ومثال نفي التسوية بين الجزائين قوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) ([54]) أي: في جزائيهما؛ ولذلك أردفه بقوله: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ) ([55]) وفي الكلام حذفٌ، تقديره: (أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمَنْ آمن بالله) إذْ لا تصلح المفاضلة بين فعل وفاعل.
وقوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) ([56]) أي: ثواباً وعقاباً؛ ولذلك أردفه بقوله: (أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ) ([57]).
وقوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) ([58]) ظاهرٌ في جزائيهما بدليل قوله: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) ([59]).
وقد نفى الله سبحانه وتعالى المساواة بين الفعلينِ والفاعلَيْنِ والجزائينِ في آية واحدة فقال: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) ([60]) فالأعمى: الكافر، والبصير: المؤمن، والظلمات: الكفر، والنور: الإيمان، والظل: الجنة، والحرور: النار، ثم بالغ في نفي تساوي الفاعلينِ بقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) فإن التفاوت بين الحي والميت أبلغ من التفاوت بين الأعمى والبصير.
ونفي التسوية بين الفاعلَيْنِ يرجع إلى نفي تساوي الفعلينِ أو الجزائين» اهـ([61]).
وهذه المقالة لابن عبدالسلام نقلها ابن قيم الجوزية باختصار([62]).

______________________

([1])   إنما  احتيج لهذا التقرير مع أن المسألة غير محصورة في دخول النفي على فعل المساواة بل تجري في دخوله على اسم المساواة؛ لأن معظم ما ذُكِرَ من أمثلة المسألة كان أفعالاً منفية.
([2])   هو محمد بن عبدالله بن العباس النحوي المعروف بابن الوراق، نحوي عالم بالقراءات، من كتبه (علل النحو) و(الهداية شرح مختصر الجَرْمي) توفي سنة 381هـ. (بغية الوعاة) 1/129.
([3])   (علل النحو) لأبي الحسن الوراق ص364.
([4])   هو عبدالرحمن بن إسحاق الزجاجيّ، من كبار علماء العربية، أخذ عن الزَّجَّاج وابن دُرَيد وأبي بكر ابن الأنباري وغيرهم، من كتبه (الجُمَل) و(الإيضاح) و(اللامات) و(المخترع في القوافي) و(شرح خطبة أدب الكاتب) توفي سنة 339هـ وقيل غير ذلك. (بغية الوعاة) 2/77.
([5])   هو أبو بكر بن زيد الجُرَاعي الصالحي، فقيه حنبلي أصولي، من كتبه (غاية المطلب) في الفقه، و(نفائس الدرر في موافقات عمر) و(تحفة الراكع والساجد في أحكام المساجد) و(شرح أصول ابن اللحَّام) و(حلية الطراز في مسائل الألغاز) توفي سنة 883هـ. (السحب الوابلة) لابن حميد 1/304.
([6])   (شرح مختصر ابن اللحام) ص229.
([7])   (الإيضاح في علل النحو) ص119.
([8])   المكاني: جمع مُكْنَى عنه.
([9])   (الإيضاح في علل النحو) ص119 – 120 ونقل بعضَه الزركشيُّ في (سلاسل الذهب) ص235 – 236.
([10])   (مختصر المنتهى) 2/114.
([11])   هو محمود بن مسعود بن مصلح الشيرازي، فقيه شافعي أصولي محقق، من كتبه (شرح مختصر ابن الحاجب) في الأصول، و(شرح الكليات) في الطب، و(شرح مفتاح السَّكَّاكي) توفي سنة 710هـ. (طبقات الشافعية) لابن قاضي شهبة 2/237.
([12])   (شرح مختصر ابن الحاجب) لقطب الدين الشيرازي ق207/أ وعنه الجراعي في (شرح مختصر ابن اللحام) ص229.
([13])   هو مسعود بن عمر التفتازاني سعد الدين، عالم بالعربية ومشارك في عدة فنون، من كتبه (شرح التلخيص) في البلاغة، و(حاشية على شرح العضد) و(الإرشاد في النحو) توفي سنة 791هـ. (بغية الوعاة) 2/285 والتفتازاني ممن اختلفوا في مذهبه الفقهي أكان شافعياً أو حنفياً؟ وقد صنف الفقيه الحنفي إبراهيم المختار بن أحمد بن عمر الجبرتي كتاباً في هذا الموضوع رجَّح فيه أنه من الحنفية، وعنوان كتابه هو: (القول الأصوب في أن سعد الدين التفتازاني حنفي المذهب) منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية، انظر (فهرست مخطوطاتها) 2/224.
([14])   (حاشية التفتازاني على شرح العضد) 2/114.
([15])  سبق أن صفي الدين الهندي اختار أن نفي المساواة مجملٌ وذلك في كتابه (نهاية الوصول) أمَّا في كتابه (الفائق في أصول الفقه) فقد رجح مذهب الجمهور.
([16])   (الفائق) 2/221.
([17])   (نهاية السول) 1/458 و(مختصر ابن اللحام) ص109 و(شرح المحلي على جمع الجوامع) 1/417 و(شرح الكوكب المنير) 3/153.
([18])   من الآية 95 سورة النساء.
([19])   على نصب (غير) وهي قراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر والكسائي وخلف. (النشر في القراءات العشر) 2/251 وراجع (معاني القراءات) ص132.
([20])   هو أحمد بن عبدالحليم الحراني المعروف بابن تيمية، فقيه حنبلي مشارك في فنون كثيرة، من كتبه (الإيمان) و(الاستقامة) و(منهاج السنة النبوية) توفي سنة 728هـ. (الذيل على طبقات الحنابلة) 4/491.
([21])   (دليل الخطاب) مصطلحٌ مرادف لمفهوم المخالفة، وهو: دلالة النص على ثبوت نقيض حكم المنطوق للمسكوت. راجع في تعريفه (الحدود في الأصول) لابن فُوْرَك ص141 و(الحدود في الأصول) للباجي ص50 و(البرهان) 1/298 و(المستصفى) 2/196 و(التقرير والتحبير) 1/115 و(شرح الكوكب المنير) 3/489.
([22])   الحديث أخرجه البخاري 2839، 4423 ومسلم 1911.
([23])   (الزهد والورع والعبادة) لابن تيمية ص160 – 161.
([24])   (مجمع الدرر) ق 129/ب باختصار.
([25])   انظر كتابه (الوصول إلى الأصول) 1/313.
([26])   هو محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرَعي الدمشقي، فقيه حنبلي مشارك في فنون عدة، من كتبه (زاد المعاد) و(إعلام الموقعين) و(بدائع الفوائد) توفي سنة 751هـ. (الذيل على طبقات الحنابلة) 5/170.
([27])   من الآية 20 سورة الحشر.
([28])   (أحكام أهل الذمة) لابن القيم 1/219.
([29])   وخالف من الحنفية الأُسمندي حيث ذكرها في باب العموم في كتابه (بذل النظر) ص187 وكذا ابن الهمام في (التحرير) ص88 وابن عبدالشكور في (مسلم الثبوت) 1/289 وإن كان هؤلاء الثلاثة كسائر الحنفية غير قائلين بعموم نفي المساواة، فأما أبو بكر الجصاص فذكرها في كتابه (الفصول في الأصول) 1/71 في باب المجمل، ومناسبة ذلك غير خافية.
([30])   محل الكلام: أي المخبَرُ عنه. (ضوء الأنوار) للأولوي ص158.
([31])   من الآية 19 سورة فاطر، ومن الآية 58 سورة غافر.
([32])   (الفصول في الأصول) 1/72 و(تقويم الأدلة) ص129 و(المغني) للخبازي ص140 و(بديع النظام) 1/70 – 71 و(كشف الأسرار شرح المصنف على المنار) 1/274 و(الوافي) 1/430 – 431 و(حاشية الإزميري) 1/462 – 463 وغيرها.
([33])   (الكلي): هو الذي لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه، مثل: «الإنسان ». و(الجزئي): هو الذي يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه، مثل «زيد» علماً على شخص. (تحرير القواعد المنطقية) ص45.
([34])   انظر مثلاً (أصول السرخسي) 1/190 و(الرسالة في أصول الفقه واللغة) ص363 و(الوافي في أصول الفقه) 1/306، 468 و(كشف الأسرار عن أصول البزدوي) 2/192.
([35])   هي عائشة بنت أبي بكر عبدالله بن عثمان التَّيْمية القرشية أم عبدالله، الصديقة بنت الصدّيق رضي الله عنهما، أم المؤمنين وأحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه، مناقبها كثيرة، توفيت سنة 58هـ. (الإصابة) 8/16.
([36])   الحديث أخرجه البخاري 5189 ومسلم 2448.
([37])   حيث إن أبا زرعٍ طلَّق أم زرع كما جاء في القصة.
([38])   ولأن كنايات الطلاق لا تقع إلا بالنية. (شرح صحيح مسلم) للنووي 15/216.
([39])   (التمهيد) للإسنوي ص340.
([40])   هو محمود بن أحمد بن محمود الزنجاني شهاب الدين، فقيه شافعي أصولي من القضاة، له كتب منها (تنقيح الصحاح للجوهري) و(تخريج الفروع على الأصول) و(تفسير القرآن) توفي سنة 656هـ.(طبقات الشافعية) لابن قاضي شهبة 2/126 و(الأعلام) 7/161.
([41])   (تخريج الفروع على الأصول) ص303.
([42])   (التمهيد في تخريج الفروع على الأصول) ص342 – 343.
([43])   (البحر المحيط) 3/121، 122.
([44])   (التحبير شرح التحرير) 5/2421، 2422 نقلاً عن (شرح النبذة الألفية) للبِرْماوي وهو ناقلٌ عن شيخه الزركشي، و(إرشاد الفحول) 1/541، 543.
([45])   (الفصول في الأصول) 1/72 و(أصول السرخسي) 1/194 و(التقرير لأصول البزدوي) 2/886 و(توضيح المباني) ص295 وغيرها.
([46])   (المعتمد) للبصري 1/250 و(المستصفى) للغزالي 2/147.
([47])   من الآية 20 سورة الحشر.
([48])   (الإشارات الإلهية) 3/336 – 337.
([49])   هو عبدالله بن يوسف بن عبدالله الجويني، فقيه أصولي من أكابر الشافعية وهو والد إمام الحرمين، له كتب منها (تفسير القرآن) و(التعليقة في الفقه) و(الفروق) و(التبصرة) في فقه العبادات، توفي سنة 438هـ. (طبقات الشافعية) لابن قاضي شهبة 1/209.
([50])   (الجمع والفرق) 1/46.
([51])   هوعبدالعزيز بن عبدالسلام بن أبي القاسم السلمي، فقيه شافعي أصولي يُعرف بسلطان العلماء، أخذ عن الآمدي وغيره، من كتبه (القواعد الكبرى) و(شرح أسماء الله الحسنى) و(اختصار النهاية) في الفقه، و(الفتاوى الموصلية) و(شرح مختصر ابن الحاجب) و(الإمام في أدلة الأحكام) توفي سنة 660هـ. (طبقات الشافعية) لابن قاضي شهبة 2/109 و(هدية العارفين) 1/580.
([52])   من الآية 95 سورة النساء.
([53])   من الآية 10 سورة الحديد.
([54])   من الآية 19 سورة التوبة.
([55])   من الآية 20 سورة التوبة.
([56])   الآية 18 سورة السجدة.
([57])   الآيتان 19 – 20 سورة السجدة.
([58])   من الآية 20 سورة الحشر.
([59])   من الآية 20 سورة الحشر.
([60])   الآيات 19 – 22 سورة فاطر.
([61])   (الإمام في بيان أدلة الأحكام) ص139 – 142.
([62])   (بدائع الفوائد) لابن القيم 4/8.