الطريق الصحيح إلى أديس أبابا يا د.شرف
16 جمادى الثانية 1432
أمير سعيد

مع تقديري الشخصي لمحاولة حكومة د.عصام شرف إيجاد مخرج لمشكلة مياه النيل خلال زيارته لدول منابعه، ومع تعاطفي ـ وغيري ـ مع ما لاقاه من معاملة لا تليق برئيس وزراء مصر حين استبقت زيارته بتصريح لوزير الدولة للاتصالات الحكومية شيميلز كمال يفيد بأن "إثيوبيا ماضية في تنفيذ سد الألفية سواء رحب به المصريون أم لا"، كما حشر وزير الدولة الإثيوبي مصر في زاوية المشاركة في بناء السد أو عدمها من دون أن يستخدم لغة دبلوماسية مناسبة للتأكيد على الإصرار الإثيوبي خلال زيارة رئيس الوزراء المصري، هذا علاوة على منع طاقم التليفزيون المصري من التصوير حسب الأهرام المصرية، إلا أن هذه الطريقة التي انتهجتها حكومة مصر لحل الأزمة العميقة والخطيرة لم يرق بعد إلى مستوى المشكلة، ولم يتعاطَ معها بالقدر الملائم والمتسق مع القدرة الطبيعية التي تملكها مصر حقيقة للتأثير والضغط على هذه الدول لاسيما إثيوبيا التي باتت تتحدث مع مصر بلغة استعلائية شجعها النظام السابق عليها ولم تفلح الحكومة الحالية في تغييرها إلا في الصعيد الشكلي فقط.

 

ماذا لدينا إذن؟ لدينا في الحقيقة الكثير لنجعل الوفود الإثيوبية تتقاطر على القاهرة ولا نعاني مشقة تسيير الوفود الشعبية والرسمية دون طائل إلى إثيوبيا..

 

والعالمون بتاريخنا، وباستراتيجيتنا الحاكمة في المنطقة وهم بحمد الله كثيرون في مصر، يعلمون أن سياستنا إزاء القرن الإفريقي تجافي سياسة الأجداد والحكام السابقين الذين كانوا يعتبرون أن أمننا القومي يبدأ من هناك، حيث كانت وفودنا في إثيوبيا غير بعيد عن مقر الحاكم المصري إبان حكم أسرة محمد علي في "الحبشة" في مدينة هرر، فتلك كانت حدودنا السياسية حينها، وبعدها صارت حدود نفوذنا الاستراتيجي.

 

وبدلاً من البكاء على الماضي، ثمة أوراق لم تستخدم لحد الآن في الضغط على النظام الإثيوبي، لا تشمل شن حملة عسكرية على إثيوبيا، وإنما تقف عند حدود الضغط التكتيكي الشديد، وتتمثل في مد النفوذ المصري حول وداخل إثيوبيا ذاتها.

 

لدينا مثلاً، الصومال، العدو التقليدي لإثيوبيا، وهي الدولة التي تعتبر إثيوبيا استقرارها إيذاناً بإحياء قضية الأوجادين، وهو الإقليم الصومالي الكبير الذي تحتله إثيوبيا، ويضم أهم ثرواتها النفطية والحيوانية والزراعية، هذا البلد العربي تعني عودة الأمل إليه تراجعاً استراتيجياً كبيراً في الدور الوظيفي لإثيوبيا في القرن الإفريقي، وانحساراً "إسرائيلياً" على البحر الأحمر وأعالي النيل.

 

إثيوبيا بكل تأكيد ستقع تحت ضغط هائل إذا ما نجحت مصر في جلب الاستقرار للصومال، وستندفع باتجاه ترضية القاهرة في حال زادت تطلعات الصوماليين في عودة هذا الإقليم العربي المحتل/الأوجادين إلى السيادة الصومالية، وسيتسلل إليها الخوف سريعاً إذا ما استشعرت أن استقرارها الداخلي الهش، والمبني على تسلط قبيلة التيجراي (نحو 2 مليون نسمة) على حكم الشعب الإثيوبي (الحالي) غير المتجانس والمتنوع دينياً (60% مسلمون، والباقي ما بين مسيحيين ووثنيين) وقومياً، والبالغ تعدادها نحو 80 مليون نسمة.

 

هذه الفسيفساء القومية في إثيوبيا، التي يقر دستور بلادها المقر في العام 1994 على حق تقرير المصير وكانت تنتظر استفتاءً في الأوجادين (من المتوقع تزويره)، جلب لها استفتاء الجنوب السوداني سابقة خطيرة في الإقليم، نظرت إليها أديس أبابا بقلق بالغ، نحن للأسف لم نستغل هذا القلق ولم نستثمر مناخه، وقد أقر بعض الباحثين الاستراتيجيين المهتمين بالمنطقة بأن قوميتي الصومال (الأوجادينيين) والأرومو قد انتعشت آمالهما بعد تدويل استفتاء الجنوب السوداني بما أفضى إلى تقسيم السودان، وأضيف بأن الثورات العربية التي بدأ البعض يسمع صداها في إرتريا المجاورة ذاتها، قد تكون ملهمة للأكثرية المقهورة في إثيوبيا لطلب الحرية والمساواة بقبيلة التيجراي التي تتركز في يديها السلطة والمال حالياً.

 

إرتريا/المناوئة دوماً لإثيوبيا، والتي رحبت بالتعاون العسكري مع إيران و"إسرائيل" معاً، يمكنها أن تتعامل بالمنطق نفسه مع المصريين، كما يلفت السفير المخضرم إبراهيم يسري..

 

بوسعنا أيضاً أن نتدخل لدى الأشقاء في الخليج الذين ضخوا في السابق استثمارات كبيرة في إثيوبيا، والذين يهيئون للإثيوبيين سوقاً رائجاً للحوم الإثيوبية (ولهم أيضاً استثماراتهم في أوغندة/الوطن البديل المقترح لليهود قبل فلسطين، والتي تقيم علاقات دافئة مع "إسرائيل") أن يمارسوا ضغطاً اقتصادياً عليها لدعم الموقف المصري المصيري في مياه النيل (بدلاً من استعدائهم الإعلامي الحالي من بعض الصحف المصرية الصفراء).

 

إن التحرك المصري في الصومال لابد أن يأخذ باعتباره ضرورة تفعيل دور الشخصيات القادرة على إقناع الفرقاء في الصومال، ومعظمهم من ذوي الخلفيات الدينية، من خلال مبادرة شعبية، ووفود مدعومة بقرار مصري واضح يضع أمنها القومي فوق كل اعتبار ضيق داخلي، ثم رفد ذلك بجهد سياسي محنك لا تعجز الشخصيات الوطنية البارعة في الخارجية وغيرها على اتخاذه، مدعوماً بحوافز تشجيعية على المصالحة هناك.

 

وحالما تصبح حاجتنا إلى مياه الشرب على المحك ونكون بحاجة إلى 86.2 مليار متر مكعب من المياه في عام 2017م، ولا نملك منها سوى مصادر تكفي لتأمين 71.4 مليار متر مكعب فقط، هذا إذا استمر وضعنا هكذا دون نقصان من هذا النصيب؛ فإن الأمر يستدعي أكثر من جولات بروتوكولية جوفاء نلقى خلالها تصلباً ونستمع فيها إلى لغة استعلائية تستصغر مصر التاريخ والجغرافيا..

 

أعود مؤكداً على أن أياً من هذه الأوراق لا تعني تسعير حرب ضد إثيوبيا ولا غيرها، وإنما تعني الاستخدام الجاد والحاسم لقدراتنا على تحقيق قدر من الحضور الإقليمي الذي أذابه مبارك وأعوانه من قبل، والحفاظ على شريان حياتنا الذي هو جزء لا يتجزأ من أمننا القومي الذي لا يمكن التعاطي معه بهذه البشاشة والهشاشة.

 

يذكر الصوماليون جيداً أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر عندما تباطأت إيطاليا (المستعمر القديم لبلادهم) عن استيراد الموز الصومالي للضغط على مقديشو، سرعان ما أعلن أن مصر ستستورد المحصول كله؛ فتراجعت إيطاليا، أما الإثيوبيون فيتذكرون جيداً يوم دعا الرئيس الراحل السادات خبراءه العسكريين لوضع خطة طوارئ عام 1979م عندما أعلنت إثيوبيا عن نواياها بإقامة سد لري 90 ألف فدان في حوض النيل الأزرق، وهدد بتدمير هذا السد، وعقد بالفعل اجتماعا طارئا لقيادة هيئة أركان جيشه لبحث هذه المسألة، ونحن معهم نذكر أن السادات لم يكن حينها مناوئاً للأمريكيين بل كان قد خرج للتو من معمعة "كامب ديفيد"، أي أنه لم يكن وقتها متهماً بالتهور أو الاندفاع ولا حتى استفزاز الأمريكيين.. مبارك بالطبع لم يفعل ذلك، فهل تكون مصر الثورة أقل من نظامين سابقين لم يأت زعيماهما من ميدان التحرير؟!

[email protected]

 

المصدر/ المصريون