"أبيي" .. تشعل الحرب بين شمال وجنوب السودان وتضر مصر
19 جمادى الثانية 1432
جمال عرفة

"أبيى" لمن لا يعلم هي المنطقة الفاصلة بين شمال وجنوب السودان ، وهي منطقة متنازع عليها بين (دولة الشمال) و(دولة الجنوب) حاليا بعدما أنفصل الجنوب رسميا بموجب استفتاء يناير 2011 وإختيار غالبية السكان الانفصال ، وهي منطقة شهدت عشرات المرات مناوشات وقتال بين قوات حكومة الخرطوم ومتمردي حركة جنوب السودان (الحركة الشعبية لتحرير السودان) ، أخره نصب قوات الجنوب كمين لقوات الشمال ومعها قوات الامم المتحدة قتل فيه 20 جندي شمالي علي الأقل .

 

و"آبيي" هي مثلث غني بالنفط والغاز الطبيعي والمعادن والمياه، يتبع إدارياً لجنوب كردفان بالسودان ، ولكنه يمتد جغرافياً إلى داخل ولاية بحر الغزال في الجنوب ، وسمي "مثلث أبيي" لأن المنطقة أشبه بمثلث يلمس ثلاث ولايات حيث تحد هذه المنطقة من الناحية الشرقية "ولاية الوحدة" وجنوباً "ولاية شمال بحر الغزال"، وغرباً "ولاية جنوب دارفور".
ولكن ما هي علاقة أبيي بمصر ؟ وكيف يمكن أن تؤثر الحرب المتصاعدة هناك علي الثورة المصرية ؟

 

المسألة ببساطة شديدة تتعلق برغبات صهيونية وأمريكية في إشعال صراع في هذه المنطقة بين الشمال والجنوب ، والانتقال الي الخطة (ب) المتعلقة بتقسيم السودان وتفتيته بعدما نجحوا في تنفيذ الخطة (أ) بفصل الجنوب عن الشمال .. أما هذه الخطة الجديدة فتتعلق ليس فقط بالسعي لتفتيتما تبقي من السودان وتأجيج مشكلات أخري في دارفور وغيرها ، وإنما أيضا شغل المصريين بهذه الحرب المتوقعة بين الشمال والجنوب وبالتالي ضرب الثورة المصرية ومنعها من الاستقرار !.
ولكن ما هو الجديد في هذه البؤرة المتفجرة (ابيي) الذي يمكن أن يضر مصر وثورتها في وقت تحتاج فيه مصر للانكفاء علي مشكلاتها الداخلية ، بعدما نجت مصر من توريطها في خطة الزحف علي غزة ، وهي ليست جاهزة بعد للاشتباك مع العدو الصهيوني في معارك لا كلامية ولا فعلية ؟

 

الجديد هو تعمد قوات الحركة الشعبية في أبيي فرض امر واقع في المدينة بهدف ضمها لدولة الجنوب ، بعدما ظهرت خلافات حول تصويت قبائل المسيرية العربية في استفتاء تقرير المصير مع قبائل الدينكا بور ، خصوصا بعدما أكد على عثمان محمد طه نائب الرئيس السودانى تبعية منطقة "ابيى" لرئاسة الجمهورية في الشمال وليس لحكومة الجنوب ، وصدرت تصريحات سودانية اخري تؤكد أنها تابعة للشمال .

 

وجاء العدوان الأخير ليؤكد نوايا الحركة الشعبية تصعيد القتال للضغط علي الخرطوم والقاهرة معا أو علي الاقل زيادة الضغوط الدولية علي الخرطوم – في ظل انشغال الثورة المصرية في أوضاعها الداخلية – وللرد أيضا علي هزيمة مرشح الحركة الشعبية أمام مرشح الخرطوم فير أنتخابات جنوب كردفان ن بعدما اعلنت مفوضية الانتخابات السودانية انتخاب احمد محمد هارون المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية، واليا لمنطقة جنوب كردفان بعدما ان تقدم على مرشح الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كانت اعلنت رفضها للنتائج مشككة في مصداقيتها .

 

فعند الساعة الواحدة من صباح الجمعة 20 مايو 2011 وعلى بعد 7 كيلومترات شمال مدينة ابيي قام الجيش الشعبي بنصب كمين لقوات الامم المتحدة وقوات الخرطوم في القوات المشتركة في أبيي وقامها 200 جندي تقريبا ، مستخدما اسلحة ثقيلة ، فقل حوالي 25 جندي وأصيب 10 واعتبر 150 في عداد المفقودين بحسب إحصاءات أولية لخسائر الهجوم .

 

وتبع هذا إعلان الجيش السوداني منطق ابيي الحدودية المتنازع عليها بين الشمال والجنوب ابيي “منطقة حرب” بعد أن اتهم جيش الجنوب بنصب كمين لسريتين تضمان أفرادا من قواته وقوات تتبع للأمم المتحدة “يونميس” ، أسفر عن سقوط جميع أفرادها الـ200 بين قتيل وجريح ومفقود فيما نجا 3 جنود فقط من الهجوم.

 

وقال اللواء صديق عامر نائب رئيس هيئة الاستخبارات والأمن عضو مجلس الدفاع المشترك في مؤتمر صحفي في الخرطوم إن القوات المسلحة “تحتفظ بحق الرد على هذا العدوان في الزمان والمكان المناسبين”.

 

وبالمقابل نفي الجنوبيين تعمدهم الاعتداء علي قوات الجيش السوداني ولم يحددوا من اعتدي علي الجنود السودانيين أو جنود الأمم المتحدة ، وزعموا أن الجيش السوداني "يحضر لاحتلال ابيي ويجهزون قوات من الدفاع الشعبي وانهم نقلوا قواتهم شمالا بعد ان اكملوا تحضيراتهم لاحتلال ابيي"!.

 

وما يزيد الوضع توترا هناك ويدفع باتجاه حرب بين الشمال والجنوب برغم انفصال الجنوب هو أن مجلس الدفاع المشترك بين شمال السودان وجنوبه قرر في 12 مايو الجاري فك الارتباط بين الوحدات المشتركة من الجانبين في ابيي على ان تنسحب وحدات شمال السودان شمال ابيي والجيش الشعبي جنوبها بعدما أنفصل الجنوب وأصبح دولة مستقلة .

 

فالوحدات المشتركة هي قوات من الجانبين انشئت بموجب اتفاق السلام الشامل 2005 وقد انتهت مهمتها في مناطق جنوب السودان بعد ان اختار الجنوبيون الانفصال عن الشمال باغلبية كبيرة في استفتاء التاسع يناير 2009 وكان من المقرر ان يجري في ابيي استفتاء يتزامن مع استفتاء الجنوب يقرر فيه سكانها تبعيتهم للشمال او الجنوب ولكنه تأجل لخلاف بين طرفي اتفاق السلام الشامل حول من يحق له التصويت في الاستفتاء.

 

قنبلة تفجير الاستقرار
والحقيقة أن مشكلة أبيي أنها أشبه بقنبلة زمنية قابلة للتفجير يمسك بها أساسا الغرب ويستخدم الجنوبيين كفتيل إشعال لهذه القنبلة لتفجير وحدة السودان كله وتنفيذ المرحلة الثانية من تفتيته ، بخلاف الخسائر الأخري الجانبية المحتملة المتمثلة في ضرب استقرار مصر وشغلها في صراع علي حدودها الجنوبية وبالتالي إلهائها عن الصراع مع الصهاينة في الشمال .

 

ففي ظل حالة التسخين المتصاعد والتدخلات الغربية لإنفاذ مخطط فصل الجنوب وتنشيط خطة تفتيت السودان ، تصاعد الحديث عن قضية مماثلة في آبيي التي يوجد بها قرابة مليون من أهل السودان العرب من قبيلة المسيرية يمتلكون قرابة 10 ألاف راس بقر ، و9 "مشيخات" لقبائل الدينكا بور ذوي الأصول الأفريقية ، وجري النفخ في نيران العصبية القبلية والعنصرية بين الجنس العربي والأفريقي كما فعل الغرب في دارفور ، مستندين لاختلافات جوهرية بين العرب والأفارقة في آبيي تصلح لتكون وقودا للصراع حيث العرب مسلمون والدينكا وثنيون في اغلبهم أو مسيحيون ويسهل الوقيعة بينهم سياسيا رغم انهم يعيشون مع بعضهم البعض منذ مئات السنين هناك !.

 

بعبارة أخري نحا المخطط الغربي لاتخاذ مشكلة آبيي– كما يقول الصادق بابو نمر أحد قادة المسيرية – "خنجر مسموم مسلطة علي اتفاقية سلام الجنوب " ، وسعي في هذا الصدد – كما يوضحه الدكتور وليد سيد رئيس مكتب حزب المؤتمر الوطني في القاهرة – لتوسيع الدور الخارجي في المشكلة وتوسيع دائرة الخلاف بين الدينكا والمسيرية ما أدي لشد وجذب بين الطرفين ينتج عنه مستقبلا انضمام أطراف سودانية من أصول عربية لوجهة نظر المسيرية وأخري افريقية لوجهة نظر الدينكا بور بما يؤدي في النهاية لتوسيع الصراع وتحويله إلي صراع عربي – أفريقي يسهم في مزيد من تمزيق السودان عرقيا وطائفيا ويخدم مخطط التفتيت الغربي !؟.

 

وبرغم أن أبيي – بحسب الصادق بابو نمر أحد قادة المسيرية – لم تكن يوما من أرض جنوب السودان كما أن المسيرية هم الأبكر حضورا وتوطينا فيها منذ القرن الـ 18 ، في حين توطنها الدينكا في القرن التاسع عشر وهذا ثابت في وثائق انجليزية ، فقد أستمرت الدعوات الاعلامية الغربية في تصوير الأمر خلاف هذا .

 

وكان من تداعيات اتفاق خريطة طريق آبيي بين الخرطوم والحركة الشعبية أن الاتفاق ظلم عرب المسيرية الذين ينقسمون لقبلتين هناك ، وجاء لحساب مشيخيات (عشائر) الدينكا نقوك السبعة في المنطقة ، لأن عرب المسيرية يعود تاريخهم هناك لمنتصف القرن السابع عشر ، وهم الذين استضافوا مشيخات الدينكا الفارة من حروب القبائل ، ولكنهم أصبحوا – وفق الاتفاق - أقلية رغم أنهم أغلبية وأصبح رئيس إدارة آبيي الجديد جنوبي دينكاوي ونائبه من المسيرية ، ولم يعد لهم النصيب الأكبر من نفط المنطقة .

 

بل وقيل أن الاتفاق – الذي لم ينص على نسبة محددة تخصص لمنطقة ابيى من عائدات نفطها - واقتصر علي بند جاء فيه أن تسهم حكومة الوحدة الوطنية وحكومة الجنوب بنسبة 50% و25% على التوالي من نصيبها في عائدات النفط بالمنطقة لصندوق تؤسسه الرئاسة لتنمية المناطق على طول حدود الشمال والجنوب ، ميع ( من مائع) القضية واستهدف هذا البند الالتفاف علي أي مطالبة مستقبلية من المسيرية بنصيب لهم من عائدات النفط .

 

المشكلة بالتالي أن حكومة الخرطوم رضيت بالدنية في اتفاق سلام الجنوب فيما يخص ابيي أملا منها في أن هذه المشكلات لن يكون لها وجود اصلا عندما يصوت الجنوبيون للوحدة ، ولم يعملوا حسابا للتدخلات الغربية واجندة الحركة الشعبية الجنوبية المتمردة الخارجية ومشاركتها ضمن مخطط تفتيت السودان أو إبقاؤه موحدا بشرط واحد هو أن يلغي الشريعة ويتحول لسودان علماني .

 

ولهذا تحولت أبيي لقضة حساسة تعرقل تحديد حدود دولة الجنوب المزعومة وتنغص حياة الخرطوم وتهدد كل السودان بالتحول لحرب قبلية يسعي الغرب لاستغلالها حاليا في نشر مزاعم عن وجود صراع قبلي عربي – أفريقي في ابيي لجذب العرب للمسيرية والافارقة للدينكا وبالتالي عدم إحلال السلام في السودان أبدا وتفتيته بصورة بشعة !

 

أما الأخطر فهو أن هذه القنبلة (أبيي) لو أنفجرت فسوف تضرب بقوة استقرار الحدود الجنوبية لمصر وتحمل الثورة بمزيد من الأعباء الخارجية هي في غني عنها ، في وقت تحتاج فيه مصر لتركيز جهودها علي الاستقرار الداخلي ، وهو هدف لن ترضاه أمريكا أو اسرائيل للمصريين ، وربما يسعون بالتعاون مع أطراف جنوبية لتفجير حرب في السودان علي حدود مصر الجنوبية تعرقل استقرار مصر وأمنها .