الثورات العربية.. مفاهيم ينبغي أن تصحح
2 رجب 1432
علا محمود سامي

منذ أواخر العام الميلادي السابق، والعالم العربي يشهد تحولا واسعا في بنيته السياسية، على نحو ما بدأته تونس بخلع الطاغية زين العابدين بن علي، وعلى نحو ما نجح فيه المصريون من إسقاط الطالح حسني مبارك، وما تلاهما من ثورات في ليبيا واليمن وسوريا.

 

ومنذ ذلك الحين، والدول العربية تعيش حالة من التحولات التي فوجئت بنجاح ثمارها ، كما هو الحال في تونس ومصر، وما كان لا يمكن تصور حدوثه في المرحلة الراهنة على الأقل في ليبيا وسوريا، نظرا لإحكام السيطرة الاستبدادية لأنظمة الدولتين، فضلا عما كان ينتظره اليمنيون من ثورة شعبية يمكن أن تودي سريعا بإسقاط نظام علي عبد الله صالح.

 

والناظر لمشهد الثورات العربية، الناجح منها، ومن ينتظر منها دوره تاليا ، يلاحظ العديد من المصطلحات التي ينبغي أن تصحح ، على نحو ما اقتبسه العنوان الرئيس للمقال من كتاب المفكر الإسلامي الشيخ محمد قطب "مفاهيم ينبغي أن تصحح".

 

من هذه المصطلحات التي أصبح يتم إطلاقها على الثورات العربية، أو ما صار يعرف باسم"الربيع العربي" من ينسبها إلى "الديمقراطيات الجديدة"، وكأن هذه الثورات نتاج تحول ديمقراطي بالمعنى المعروف ، الذي يتم خلالها تداول للسلطة ، وهو ما يتنافى مع الأنظمة المستبدة التي كانت تحكم البلاد العربية، واندلعت فيها الثورات، أو الأخر التي تنتظر، فهي ثورات وليست تحولا ديمقراطيا، استهدفت إزالة أنظمة بكل روافدها بالأساس، وإحلالها بأنظمة أخرى، أو هكذا ينتظر.

 

ولعل أبرز ما تم ترويجه في ظل الأنظمة الاستبدادية أن الشعوب العربية لم تعد تتوق إلى الحرية، وأن الاستبداد أعياها، وأنها كانت خانعة لحكم "الفراعنة"، وبالتالي لن تستطيع التحرك أو النزول إلى الشارع.

 

دعاة هذا المصطلح هم بالأساس قادة الدول الكبرى التي فاجأتها هذه الثورات ، بما جعل من لف لفيفهم في دولنا العربية ممن يمتطون أفكارهم إلى الترويج نفسه، غافلين أنها ثورة ، وليست ديمقراطيات أو هبات أو انتفاضات ، وأن دافعها بالأساس هو البحث عن الكرامة ، وإنهاء حكم "الفرعون" أينما كان ، ليس فقط في مصر، ولكن في أي أرض كان هذا "الفرعون".

 

كما أبرزت هذه الثورات الحقد الدفين لدعاة الفضائيات على جميع فصائل التيار الإسلامي، المسالم منه والمعادي لهم، وفق أدبيات أصحاب الأفكار البالية ، والتي عفى عليها الزمان، ولم يعد لها مكان ، سوى في برامج الفضائيات العشوائية، أو على صفحات جرائد، لا تنطق سوى بسم يقتل مخالفيهم، ضاربين بكل ما يعرف عن مهنة الصحافة من احترام للرأي والرأي الآخر.

 

ومن ثالثة الأثافي التي حملها دعاة تشويه الثورات العربية، وساهم في تعزيزها غلاة الاستبداد أن الشعوب العربية لا يمكن لها أن تثور، وأنها يوم أن تفكر في الثورة ، فإنها ستتحرك في شكل تجمعات صغيرة، ولذلك فان الرئيس المصري المخلوع لم يكن يتصور يوما أن شعبه يمكن أن يخلعه بثورة شعبية، ولذلك ركز كل وسائل تأمينه وحمايته عن طريق تطويق الجماعات الإسلامية المسلحة ، أو حمايته من انفجار ما يعرف بساكني المناطق العشوائية.

 

كما كان الحال في تونس وسوريا، فلم يكن يتخيل أحد من المراقبين أو المتابعين لشأن بلديهما أن نظام البائد زين العابدين بن علي يمكن خلعه بالدرجة التي تم إقصائه بها ، علاوة على سوريا، التي يمارس فيها نظام بشار الأسد أبشع أنواع الاستبداد ، لدرجة أن القتل أصبح هناك يوميا بالمئات، علاوة على الركل والسحل من جانب أجهزة الأمن للشهداء للتأكد من وفاتهم، في استخفاف لأبسط قوانين حماية حقوق الإنسان الدولية.

 

إلا أنه على الرغم من ذلك فقد أثبت الشعب التونسي وبعده السوري، وقبلهما المصري واليمني ، ومعهما الليبي أن المساس بكرامة الإنسان لا تفوقها أية خنوع أو ركون ، ومهما كانت جرائم الاستبداد، فان الكرامة، والعيش في حرية حق أصيل من حقوق الإنسان ، مهما كانت الدماء التي تسيل منهم، على نحو ما يجري من نهر دام في كل من اليمن وسوريا وليبيا.

 

لذلك من المفاهيم التي ينبغي تصحيحها في هذا السياق ، تلك التي كانت تتردد بأن الإنسان العربي لا يمكن له أن يثور ، أو أن ثورته تقف فقط عند حدود الحالة الاقتصادية، والخنق الحياتي الذي يعانيه بسببها، فضلا عما كان يتم تردديه من أوهام بأن الأنظمة العربية هي أنظمة قوية، استنادا إلى استبدادها ودمويتها، ومزجها بين الثروة والسلطة، إلى أن خرجت حناجر الشعوب من عقالها لتهتف "الشعب يريد إسقاط النظام"، حتى أصبح شعارا انطلق من محليته العربية ، إلى محيطه الإقليمي والدولي بأن "الشعب يريد..".

 

علاوة على ذلك ، فان الثورات العربية أسقطت شبهات مضللة حول حالة الاسترخاء العربي تجاه القضية الفلسطينية، حيث أكدت هذه الثورات أن العرب بإمكانهم تجديد دماء هذه القضية، وجعل قضية القدس الشريف متوهجة، حتى تستعيد حريتها من براثن الاحتلال الإسرائيلي، ومطامع غلاة الصهاينة، بدعوى بناء الهيكل المزعوم ، أو البحث عنه، أو التوسعة لكنيس الخراب.

 

هذا ما تجلى في ذكرى النكبة، عندما انتفض الشعب العربي، وخاصة في الحدود المتاخمة لفلسطين المحتلة، وأقلق يومها مضجع قوات الاحتلال، ما كان نذيرا معه بتحركات شعبية عربية ضد الاحتلال "الإسرائيلي"، يمكن أن تكون محصلة الثورات العربية ، والتي تحركت ضد حكامها.

 

كما كشفت الثورات العربية عن حجم الشعبية المتدنية لنخب التيار اليساري في كل من تونس ومصر، وأنه في الوقت الذي يمتلك فيه هذا التيار السيطرة على وسائل وأجهزة الإعلام، فانه يفتقر التواجد في داخل الشارع الميداني، عكس ما كان يصدعنا به رموز هؤلاء التيار صباح مساء عبر الفضائيات العشوائية بأنه تيار شعبوي، وليس فقط نخبوي.

 

وأفرزت الثورات العربية ضيق هذا التيار بالديمقراطية التي يتشدق بها ، ويزعم أنه يدعو إليها ، فحصاره للإسلاميين في تونس، ومنع إنشاء أحزاب إسلامية لا يزال قائما. كما أن التفافه الواضح على إرادة الناخبين المصريين بالموافقة على التعديلات الدستورية، واضحا في مطالبته بنسف هذه الموافقة، لكسر أي محاولة يمكن أن تأتي بالتيار الإسلامي إلى سدة الحكم، أو الاقتراب منه.

 

 

ومن الأوهام التي أسقطتها الثورات العربية أيضا، وتتطلب مفاهيما ينبغي أن يتم تصحيحها أن الشعب العربي ليس لديه وعي وأنه مغلوب على أمره، حتى أصبحت دولا كبرى، لا يهمنا بالطبع إشادتها بالثورات العربية، ولكنها ثمنت دور الشعب العربي في الحصول على حريته، ونيل استقلاله الوطني من ممارسات الاستبداد وجرائمه. للدرجة التي جعلت الرئيس الأمريكي باراك أوباما يشيد بالثورة المصرية، وأن "ميدان التحرير كان نموذجا يحتذى، فقد كانت ثورة مصر، ثورة سلمية".

 

وفي هذا السياق، فمن بين ما أسقطته الثورة المصرية على سبيل المثال من أوهام، تلك الفزاعة التي كان يستخدمها النظام المخلوع تجاه الإسلاميين بأنهم يناصبون نصارى البلاد العداء، في الوقت الذي عكست فيه الفتن التي حدثت بأرض الكنانة أخيرا عن وجود مكثف من إسلاميي مصر لحماية كنائس النصارى، بل والعمل على تأمينهم شخصيا ، في تشكيلات بشرية، فرضها عليهم دينهم، قبل أن يفرضها عليهم التعايش في الوطن الواحد.