مذبحة المساجد القادمة بمصر الأزهر
8 رجب 1432
أمير سعيد

استهداف المساجد في مصر له لون آخر مغاير لما سمعنا عنه هذا الأسبوع في فلسطين، حيث ألقى مغتصبون صهاينة إطارات مشتعلة داخل مسجد بالقرب من رام الله، وكسر آخرون قنينة خمر في المسجد الأقصى، واعتدى ويعتدي الشبيحة السوريون على المساجد في درعا (التي أذاع المجرمون في بعض مساجدها أغاني لبنانيتين عبر مكبرات الصوت)، وضرب "المناضلون" مسجد الرئاسة في اليمن، وحرقت كتائب القذافي بعض المساجد في المدن "المحررة" من الثوار.

 

لدينا في مصر "إبداع" مقنن لفكرة إضعاف المساجد ومنع انتشارها على نحو لا يصادم الأكثرية الغالبة في مصر من مسلميها لأول وهلة, ولا يستفز عشرات الملايين من المصريين الذين خرجوا في الميادين يجأرون إلى الله أن يسقط النظام البربري السابق، والذين نحسب أن الله عز وجل قد استجاب لدعائهم عندما سجدوا له في ميدان التحرير يدعون إلى الله أن يزيح الطغمة المتصهينة التي حاولت أن تقتل روح المقاومة والكرامة في نفس الشعب المصري، ثم هتفوا من بعد في الميدان ذاته بعد دقائق من إعلان تنحية مبارك بأن "الله وحده أسقط النظام".. عبر قانون معيب يزمع مجلس الوزراء إقراره بعد إطلاق بالون اختبار حول ردة فعل الشعب المصري إزاءه من خلال تسريب بعض تفاصيله للصحف المصرية قبل أيام، حيث يتضمن القانون عدة شروط تعجيزية لبناء المساجد في مصر يصعب أحياناً ويستحيل غالباً تحقيقها.

 

وباسم القانون الموحد الذي يحاول نظامنا الحكومي إلزامنا به دون كثير من الديمقراطيات العريقة في العالم التي لا تذل نفسها للأقليات بهذه الطريقة المريرة التي تتبدى بها حكومتنا "الثورية"؛ فإن أي مسجد جديد لن يجاور آخر قديم أو جديد إلا إذا ابتعد عنه بمسافة لا تقل عن كيلو متر، بمعنى أنه قرار ضمني بوقف بناء المساجد في مصر أو السماح بإنشائها فقط في الصحراء!

 

كما أن مساحة المسجد لابد أن تجاوز ألف متر مربع، وإلا فلا يحق للمسلمين بناء مساجد أصغر من ذلك، (وعليه فالمسجد النبوي في بناءه الأول قد لا يناسب القانون الجديد! كان يقترب من الألف متر مربع وربما لم يتجاوزها)، وبالتالي، ونحن نعاني من تسلط وزارة الأوقاف على أوقاف المسلمين في مصر، وعدم وجود أي جهة رسمية مهمومة ببناء المساجد، ولدينا إرث مخجل في صعيد ندرة بناء المساجد الرسمية في مصر خلال الثلاثين عاماً الماضية على النحو الذي جعل المساجد الأهلية التي يقوم ببنائها أهل خير من الوجهاء والأثرياء من قطر والسعودية وغيرهما من دول الخليج هي الحالة السائدة في بناء المساجد الكبيرة التي تسلم إلى وزارة الأوقاف جاهزة أو شبه جاهزة؛ كل ذلك يجعلنا نتوقع أن تعاني مصر من شح شديد في المساجد وتوقف ضمني وفعلي لبناء المساجد بما لا يناسب زيادة سكانية مسلمة تفوق المليون نسمة سنوياً.

 

وإذ تعجز معظم المساجد عن استيعاب المصلين في صلاة الجمعة وليالي رمضان، ويجعل مئات الآلاف وربما الملايين يصلون في الشوارع؛ فإن استصدار قانون يحد أكثر من بناء المساجد يعد مذبحة استباقية نوعية للمساجد، ومنعها من أن تؤدي دورها الريادي في مصر على النحو المفترض في دولة عرفت بأنها حاضنة المساجد وبلد الأزهر، وحصن الإسلام المنيع.

 

وإثر ثورة ظُنَّ أنها قامت للمصالحة بين الشعب وهويته، ولوضع حد للفساد الذي يقتات على انسحاب منظومة القيم الحاكمة للمواطنين، واشتعلت من أجل إعلاء الهوية الحضارية لهذا البلد واستعادة دوره الريادي، جاء هذا المشروع للقانون المشين ليصب الزيت على النار ويستدعي فتناً لا قبل لهذا الوطن في هذا الوقت العصيب بتفجيرها، ليغدو مفردة من مفردات الثورة المضادة البينة التي تناهض الأسس التي أقام المصريون المتدينون ثورتهم الرائدة عليها.

 

وليست سيئة المشروع مقصورة على بنوده، بل أيضاً في الطريقة المهينة التي سارعت الحكومة إلى إبرامه بها، والتي لا يمكن أن تكون بريئة من تهمة الانبطاح أمام مئات من أقلية فرضوا حزمة من المطالبات اللامنطقية صارت من بعد أوامر ملزمة للحكومة، وَحَدَت بالدولة كلها لأن تدير ظهرها للإجراءات "التشريعية" المتبعة، والتي تفرض تأجيل إصدار مثل هذه القوانين لحين إنضاجها داخل مؤسسة البرلمان المنوط بها إقرار هذه القوانين ومن قبل رسم خارطتها العامة وصياغة بنودها الأساسية.

 

وقد قدمت الحكومة وعدها البلفورية للأقلية بالكشف عن هذا القانون المعيب، فكان الوعد ممن لا يملك حقيقة لمن لا يجوز له أن يملي على دولة كبيرة تفسيره الخاص لما ينبغي للحالة الدينية في بلد الأزهر أن تكون، وليته وافق على هذا المشروع بل ابتز الحكومة الضعيفة أكثر لتقديم المزيد والمزيد من التنازلات، ليس آخرها طلب استحداث وزارة الأديان بديلة عن الأوقاف، لاسيما أن القانون لا يضير الأقلية أبداً فيما يخص شرط الألف متر بين كل "دوري عبادة" لأنها مسافة كافية جداً لأقلية، بعيدة جداً لأكثرية ترتبط بمساجدها خمس مرات يومياً، وتستلزم مصلين رياضيين لعمارة بيوت الله كل صلاة، ثم لم يكتف القانون لفتح الطريق لابتزاز الحكومة أكثر فحسب، بل فتح شهية آخرين لبناء دورهم في مصر كالمعابد اليهودية أو الحسينيات الشيعية التي رحب بعض رموز طائفتها القليلة بهذا القانون الغريب.

 

نعم، ندرك أننا قد انزلقنا إلى مرحلة ما بعد تنازلات ماسبيرو، فحتى مبارك نفسه لم يفرض هذه الشروط التعجيزية لبناء المساجد، ونعلم أن أحداً لم يكن يتصور أننا بصدد قانون آخر لمنع "التمييز" سيؤسس في النهاية حالة أشبه بفزاعة "قانون معاداة السامية" في أوروبا الذي يمنع توجيه أي نقد موضوعي لممارسات بشرية لليهود، بما أفضى إلى اعتبار مجرد تقليب النظر في الروايات التاريخية حول الهولوكوست جريمة تمييزية، لكننا تصورنا لفترة وجيزة إبان الثورة أن السياسة العرجاء بحقنا ستزول، ولم نكن نتصور لبرهة أن الحالة الدينية في مصر ليست شأناً داخلياً بالمرة، وأن الاستراتيجية الحاكمة لها لم ولن تتغير، وستمضي بنا في طريق مجهول يشرعن عملياً للتمييز لكن ضد الأغلبية، ويحول بينها وبناء مساجدها مثلما ألفت وتعودت على مر التاريخ، وبينها وبين قراءة آيات القرآن دون احتراز من تلاوة بعض ما لا يعجب الآخرون!

 

ففي الحقيقة لا إرثنا الديني العريق، ولا كرامتنا الوطنية، ولا مبادئنا الدستورية، ولا مكتسباتنا الثورية تسمح بهذا العبث المستهتر بأبسط حقوقنا المشروعة تحت طائلة توحيد البناء، ولافتة تنظيم إنشاء "دور العبادة" لأنه نوع من الظلم الذي يطال الدين ذاته وبيوت الله خاصة، وهما ما لا يمكن السماح بأي حال بأن يغدو محلاً لترضية خانعة من حكومة مؤقتة ليست مؤهلة ولا معنية ولا مأذونة بالتحدث نيابة عن جموع المؤمنين من شعبها المصري الثائر.