التربية تحت قهر الاحتلال (2-3)
12 رجب 1432
خباب الحمد

* دور التربويين في زمن الاحتلال:

إنَّ على التربويين أن يربطوا الناس بمبدأ (الصد والرد) فالعدو الصائل عليهم لن تقنعه مفاوضات سلمية، ولن يكترث بتطبيع، فمقاومة الكافر المحتل أصل من أصول الشريعة الإسلامية، فهي أفضل سبيل لرد كيد المعتدي، والله للمظلوم خير مؤيد.

 

إنَّ العدو المحتل لن يحترم أمَّة لا يوجد عندها سبيل القوة، ومعدن الكرامة، وسبب الحياة والنجاة من بطش جنودهم، ولهذا فإنَّ المقاوم المسلم أو حتَّى المقاوم غير المسلم لن يرضى أن تُنتهك حريَّته، فالعدو لن تنفع معه إلاَّ لغة القوَّة والتصدي.

 

ولا زلت أتذكر قصَّة حكاها المناضل الجزائري عبد الحميد مهري وملخصها: أنّه في بلاد الجزائر (كانت ثمة قرية صغيرة وفقيرة لا تكاد تملك من أسباب الحياة إلا النزر اليسير، ورغم ذلك كانت كلما توفر لها قطعة سلاح أو بعض طلقات البارود هاجمت قوات الاستعمار الفرنسي الرابضة على مداخلها.. وفي كل مرة تفعل ذلك كانت تُعاقَب بحملة تأديب وحشية، تقتل فيها قوات الاستعمار من يقع في أيديها من المقاومين، وتخرب بيوت القرية، وتفسد زرعها، وتقتل ماشيتها نكاية وتنكيلا بها.. ورغم ذلك لم تتوقف القرية عن هذه العادة؛ مهاجمة القوات الاستعمارية كلما تيسر لها سلاح وبارود ولو كان قليلا وبدائيًّا.

 

استدعى قائد القوات الاستعمارية شيوخ ووجهاء القرية وأخذ يحاول إقناعهم بعدم جدوى ما يفعلون، وشرح لهم كيف أن موازين القوى ليست لصالحهم، ومن ثَم فلا فائدة من هجماتهم، وكيف أن قواته من القوة بمكان لا تفلح معه طلقات البارود البدائية، وذكّرهم بأن القرية طوال سنوات الهجوم البدائي هذه لم تتمكن ولو من قتل جندي واحد من قواته المستعمِرة، وأنّ العقاب الذي تناله القرية والتنكيل الذي يقع بأهلها يحتم عليهم التفكير في جدوى هذا العبث!

 

وأمام منطقية كلام القائد الفرنسي وقوة حجته لم يستطع وجهاء القرية إلا أن يطلبوا منه أن يمهلهم يومًا أو يومين للرد، وبعدها جاءوا إليه مسلّمين بحجته مقرّين بمنطقه؛ لكنهم رغم ذلك اعتذروا عن أنه ليس باستطاعتهم أن يوقفوا عادتهم في قتال الفرنسيين بكل بندقية قديمة يحصلون عليها أو بعض من طلقات البارود تتوفر لهم.. سألهم القائد الاستعماري عن السبب متعجبًا: فقالوا: "نخشى إن أوقفنا قتالكم أن تفسد تربية أبنائنا"!!).

 

وهو أمر حقيقي فإنَّ الله تعالى يجمع قلوب الأمَّة في وقت الجهاد والنضال وتكون قلوب الناس جميعاً متعلِّقة بالله، ومنصاعة للأعراف والتقاليد الاجتماعية التي لا تخالف شريعة رب العالمين، فنجد حينها التلاحم والتكافل موجود فيما بينهم زمن الأزمة والحروب والاجتياحات العسكرية التي تحتل مدن وقرى المسلمين أكثر من ذي قبل، وأمَّا إذا توقف الصراع والجهاد بين أهالي تلك المنطقة المحتلَّة والعدو المحتل؛ فإنَّنا سنجد كثيراً من الأمَّة المحتلَّة تركن إلى الراحة، وتخلد إلى النوم، ولربما تشتغل بالخلافات والصراعات الداخليَّة، مع إخلادها إلى الدعة والترف والرفاهية والتي هي من أبرز أسباب سقوط دول بأكملها، وهو قانون رباني لا يتخلف،قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) [سورة الإسراء:الآية16].

 

وفي الحديث الصحيح الذي رواه عمرو بن عوف المزني، وأخرجه البخاري في صحيحه برقم:(4015) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان الرسول الله صلى الله عليه وسلم قد صالح أهل البحرين وأمَّرعليهم العلاء بن الحضرمي، فَقَدِمَ أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: (أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء). قالوا: أجل يا رسول الله، قال: (فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبْسَطَ عليكم الدنيا، كما بُسِطَتْ على من كان من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم).

 

فإذا كانت الرفاهية والانشغال بالملذات ومتع الحياة والرفاهية سبباً لسقوط الدول وهلاكها، وفناء الأمم وزوالها، فما بالنا إذا كانت الدولة قد سقطت أصلاً حصونها أمام العدو، ودخلت جيوش العدو فيها وبقي كثير من أهلها في لهوهم ورفاهيتهم يرتعون، فأيَّة عزَّة وكرامة سيشعر بها ذلك الشعب الذي فقد هيبته، فاحتل بلده؟!...

 

ولا يزال العدو المحتل يريد لتلك الشعوب أن تبقى في رفاهيتها وترفها، وقد يُسَهِّلُ لها مزيداً من الأجواء الترفيهيَّة، ومتع الحياة من اللهو واللعب والمراقص وكل ما لا يرضي الله تعالى، لكي يبقى الشعب غارقاً في لهوه، بعيداً عن إعداد العدَّة لمواجهة عدوه المحتل، والعدو كذلك يهتبل ذلك (الموات الجماعي) للشعب الغارق في لهوه، ولربما يستغل السلام أو التطبيع ودعاوى (تخفيف الاحتقان بين الطرفين!)، إلاَّ أنَّ العدو المحتل في الوقت نفسه يقوم بشتَّى أنواع الإفساد لتلك الشعوب التي تقع تحت بنادق احتلالهم.

إن العدوَّ وإن أبدى مسالمةً *** إذا رأى منك يوماً غرةً وثبا

 

ومع ذلك كلِّه فلن يهدأ العدو في ملاحقته لأهالي تلك البلاد التي رمت بسلاح المقاومة، بل حتى لو مالوا للدعة والركون والسكون والكمون والانبطاح والارتياح للأحاديث الملاح ولن يجعلهم العدو يعيشون الحياة الهانئة بل لا بد أن يعكر صفوهم ومزاجهم، ويقوم يومياً بالاعتقال للكثير من الشباب.

 

إنَّ هذا الوضع ماثل أمامنا في فلسطين حيث ضعفت المقاومة بشكل كبير عن بداية اندلاع شرارة الانتفاضة الثانية، ولا يزال العدو الصهيوني يعتقل في كل يوم وليلة الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني خصوصاً إذا علمنا أنَّ أكثر الفئات الفلسطينية استهدافاً من العدو الصهيوني هي فئة الشباب الذين يمثلون ما نسبته 52.2% حسب إحصاءات عام 2007م، ولا يزال العدو الصهيوني ومع ضعف بل تردي حالة المقاومة له في فلسطين، وهو مع ذلك يقوم يومياً بجولات اعتقال وحملات حبس لشباب في ميعة الصبا وعمر الزهور تتراوح أعمارهم ما بين 16 و25سنة، ويقوم بمساومتهم مادياً وأخلاقياً حتى يتم إسقاطهم في أتون العمالة والارتباط مع المحتل لخدمة المصالح الصهيونية وتدمير المجتمع الفلسطيني، وقد بدأ تركيزهم على ذلك من عام 2008م ولا يزال إلى هذا اليوم يقوم بحملات الاعتقال، مع أنَّه ليست هنالك في داخل الضفة الغربية مقاومة عسكريَّة تذكر في هذا المجال.

 

إنَّ هذا يستدعي أن يكون للتربويين عملهم الدؤوب في تربية الناس وخصوصاً الشباب بما يعصمهم بإذن الله من ضعف التدين، أو أن يكونوا عملاء للمحتل، أو الاعتراض على قضاء الله وقدره والسخط على ما يختاره ويشاؤه في تعامل المحتل معهم واعتقالهم تعسفاً وظلماً، والتأكيد على أهمية زرع القيم الإيجابيَّة بين الناس عموماً وفئة الشباب خصوصاً.

 

لقد قيل في المثل الشعبي العربي: (إللي إيده في النار مش زي إللي إيده بالماء) ولن يتخيلَّ متخيل مدى ما تعانيه الشعوب التي قام العدو المحتل باحتلال أراضيها من حياة مزرية وهم يشاهدون جنود المحتل يمشون في أراضيهم، ويفعلون بأهل تلك البلاد ما يريدون ويتحكمون في جميع وسائل القطاع الحكومي أو الخاص، ويرونهم وهم يهدمون بيتاً، أو يقصفون عمارة، أو يغتصبون أرضاً، أو يعتقلون نساءهم وذراريهم، وقلَّة قليلة تقاومهم عسكرياً وهم مع ذلك مطاردون بعيدون عن أهلهم وديارهم، وحتَّى لو عاشوا معهم فلا يكادون يرونهم إلاَّ النزر اليسير، مع إحكام العدو المحتل في حصار المناطق التي لربما يجدون فيها نوعاً من حياة المقاومة وإغلاق المعابر، يستذكر المؤمن حينها قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْـخَوْفِ وَالْـجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُهْتَدُونَ) [سورة البقرة: الآيات 155 - 157].

 

إنَّ الشعوب التي ترزح تحت نير الاحتلال كالعراق وفلسطين تتخطَّى درجة الفقر والبطالة فيهما لأكثر من 60%، وتلك سياسة إجرامية أمريكية صهيونية بريطانية تحاول أن تزرع لدى الشعوب المحتلَّة جواً من الحياة الصعبة اقتصادياً لكي لا ينشغل الشعب إلا بلقمة عيشه، ولكي يكون هنالك تدمير إمكانات النهوض التنموي لتلك الشعوب التي تعاني من جرائم الاحتلال.

 

إنَّ من يعايش واقع الشعوب المحتلَّة ويشعر كذلك معهم بمعاناتها، سيدرك أنَّ قصَّة العيش فيها أصعب من قصَّة (البؤساء) لـ:(هوجو)، وفي هذه الصورة المؤلمة، واللوحة المحكيَّة في هذه الأوراق عن الوضع المأساوي الذي يعيشه الأهالي وعموم الناس، فإنَّها تشكل ولابدَّ حالة حزن لكل شخص يحمل هم القضية، ولكنَّ المرء التربوي يستشعر دوره في هذه الأحداث وينتدب نفسه للقيام بما يوجبه الله عليه، ولهذا فإنَّ من المستحسن أن تعقد ورش عمل، ودورات متلاحقة يكون عنوانها:

كيف نربي الأمَّة التي تعيش تحت حراب الاحتلال؟

ونحاول أن نستقطب الدعاة والمحللين السياسيين والخطباء والاجتماعيين والمختصين النفسيين والاقتصاديين، لكي يشاركوا في عقد ندوة ضروريَّة تعالج مسألة مهمة كهذه، ولقد قال يوماً ما أستاذ التاريخ الإنجليزي (أرنولد تويبني): (التحدي يولد الاستجابة) فكل من شعر بنوع من التحدي أمامه وخصوصاً حينما يكون هنالك احتلال غاشم لأرض إسلامية نُكبت بذلك الاحتلال، فحري بأهلها أن ينمي لديهم هذا الاحتلال الرغبة في مقاومته والهمَّة لإزالته، كيف والقاعدة الرياضية تفيد بأنَّ «لكل فعل ردّ فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه».