د. محمد مرسي: العبادات ينبغي أن تنعكس على تعزيز القيم (2-2)
28 رجب 1432
جلال الشايب

 دراسة القيم أمر فرضته التحولات التي تعيشها المنطقة العربية دولياً وإقليمياً مما يتطلب بناء نسق قيمي تربى عليه الناشئة تربية سليمة.
 علينا تقييم مناهجنا المستوردة وتصويب مسار الانحراف في البناء الأساسي للفكر الإسلامي
 سبب الأزمة التي نعانيها الآن هو عدم وجود إستراتيجية واضحة حول منظومة القيم المستقبلية التي تحفظ لنا هويتنا الإسلامية.
 المعلم هو النبراس الذي يضئ المنهج ويسلط الأضواء على القيم التي يريد غرسها أو تعزيزها أو حذفها إن كانت سالبة.

ـــــــــــــــــــــــــــ
للقيم أهمية بالغة في بناء الشخصية الإنسانية لأنها إذا ما رسخت في النفوس وتعمقت فيها فإنها تشكل التزاماً عميقاً من شأنه أن يؤثر على الشخصية الإنسانية ويرسم لها خط التزام لا تحيد عنه، وتسهم في بناء الشخصية وتوجه اهتمامها إلى نقطة الارتكاز التي تريد توجيه الاهتمام إليها، والقيم تمثل الإطار المرجعي الذي يحكم سلوك الفرد في تعامله مع مختلف جوانب الحياة لأنها تحتل جزءاً مهماً في بناء الشخصية الإنسانية فلا شئ يقوم به الإنسان إلا وهو متصل القيم اتصالاً وثيقاً، وإذا غابت القيم أو تضاربت فإن الإنسان يغترب عن ذاته وعن مجتمعه ويفقد دوافعه للعمل ويقل إنتاجه ويضطرب سلوكه.

 

ولمن أهم دواعي الاهتمام بالقيم ما يتعرض له المجتمع العربي من غزو وتذويب قيمي  وثقافي مقصود أو غير مقصود أفقدنا القدرة على المقاومة أو المسايرة الهادفة، فاهتز كياننا واضطرب سلوكنا واختلت معاييرنا التي كانت توجه سلوكنا وأفكارنا وأقوالنا في الاتجاه الصحيح الأمر الذي يفترض علينا عودة الاهتمام القيم والسعي إلى بناء نسق قيمي يجسد هويتنا الإسلامية ويحقق لنا وجوداً متميزاً فاعلاً في هذا العصر.
ودراسة القيم أمر فرضته التحولات التي تعيشها المنطقة دولياً وإقليمياً وتطلب منا بناء نسق قيمي تربى عليه الناشئة تربية سليمة.
ولهذا كان لموقع المسلم هذا الحوار حول (القيم وتحديات النظام العالمي الجديد) مع الأستاذ الدكتور محمد مرسي أستاذ الاجتماع – جامعة الأزهر الشريف.

 

أستاذنا العزيز يختلف الكثير من الناس حول ماهية القيم وتعريفها، فمنهم من يظن أنها الأخلاق ومنهم من يقول أنها عادات ترسخت عبر الزمن والتاريخ، فما هو التعريف العلمي للقيم؟.
تعددت تعريفات القيم وتنوعت؛ نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
 القيم: هي مجموعة من المبادئ والأهداف والمعايير المقبولة من الفرد ويتمسك بها المجتمع.
 القيم: هي كل ما يكون موضع اهتمام الإنسان أو مصدر نفع به.
 القيم: هي كل ما يعتبر جدير باهتمام الفرد وعنايته لاعتبارات اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية أو جمالية.
 القيم أحكام مكتسبة من الظروف الاجتماعية يتشربها الفرد ويحكم بها وتحدد مجالات تفكيره وسلوكه وتؤثر في تعلمه فالصدق والأمانة والشجاعة الأدبية والولاء وتحمل المسئولية كلها قيم يكتسبها الفرد من المجتمع الذي يعيش فيه.
 ويعرفها أحد علماء الاجتماع بأنها مجموعة المعايير التي يضعها المجتمع ويلتزم بها أفراده.
وفي العلوم الاجتماعية:
نظر مجموعة من علماء الاجتماع إلى القيم من جهة التفاضل الإنساني؛ فصارت تشمل القيم كل الموضوعات والظروف والمبادئ التي أصبحت ذات معنى خلال تجربة الإنسان الطويلة، وهي باختصار تمثل الإطار المرجعي للسلوك الفردي.

 

 

هل التحولات العالمية لها دور في التغيير القيمي في مجتمعاتنا الإسلامية بوجه عام والعربية بوجه خاص؟
أعلم أن التغير القيمي عادة ما يحدث عندما يتعرض المجتمع إلى تغييرات اجتماعية أو اقتصادية أو تكنولوجية أو حروب أو أحداث معينة تفرض على أفراد المجتمع اكتساب قيم جديدة ونبذ قيم قديمة أو عندما يعاد توزيع القيم حيث كانت القيمة في المنزلة الأولى ولكنها تتحول إلى منزلة أقل مما كانت عليه وذلك خضوعاً للظروف أو المواقف.
وقد تعرض المجتمع العربي إلى تغيرات اجتماعية واقتصادية وثقافية تمثل مرحلة الحداثة وقد فرضت عليه تناقضات في بناة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كان من الصعب على البنى التقليدية المحلية أن تستوعب متطلبات الحداثة.
وقد تأكدت هذه القيم في الثمانينات وفي التسعينات عندما ظهرت أحداث مهمة منها: انهيار الاتحاد السوفيتي وحروب الشرق الأوسط وحرب البلقان والنظام العالمي الجديد، كل ذلك ساعد على التحرك نحو قيم جديدة مشتركة إنسانية في الظاهر؛ أطلق عليها اسم قيم العولمة أو التأكيد على البعد العالمي الكوني للقيم، ومن تلك القيم الاهتمام بالتلوث البيئي، ونبذ العنف والحروب، وقيم السلام والمحبة، وحق تحرير المصير، واحترام حقوق الإنسان، وغيرها.

 

ولقد شهدت المجتمعات العربية تغيرات هائلة وما استتبع ذلك من تحولات اقتصادية الأمر الذي ساعد على الإسراع بعمليات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وقد نجم عن ذلك تغيرات ثقافية قيمية رصدتها عدد من الدراسات، ومن هذه التغيرات مثلاً:-
 لقد أدى ارتفاع الدخل القومي عند البعض إلى تغيير نمط الحياة وأساليبها، فتغيرت قيم الاستهلاك وبرزت ظاهرة المغالاة في شراء الحاجيات والكماليات في اقتناء أضخم أنواع السيارات باعتبارها مؤشرات لقيم التفاخر وظهرت قيم الإسراف والتبذير.
 كما برزت قيمة الثراء السريع، وقد أدى هذا إلى غياب الأب معظم ساعات النهار منهمكاً في أعماله كذلك أدى إلى اتساع مساحة السلوك المنحرف فكثرت حوادث المرور وارتفعت نسبة الجريمة وتفشت المخدرات.

 

 

ما علاقة التحولات الثقافية العالمية في تغيير القيم في المجتمعات الإسلامية؟
لقد تعرضت الثقافة الإسلامية إلى غزو فكرى غربي أثّر في أفكار الناس ومعتقداتهم وأحكامهم المعيارية وعاداتهم ونظم حياتهم، الأمر الذي أدى إلى اكتساب قيم جديدة ونبذ قيم قديمة، فالقيم من مشتقات الثقافة، والثقافة تتغير تغير الزمان والمكان، وكذلك القيم نسبية تتغير وفق المعطيات الثقافية والفكرية المستحدثة.
ولقد هدم الغرب البنى التحتية والفوقية للعالم الإسلامي واستخدم لتحقيق ذلك عدة وسائل منها:
1. الاستشراق وما اشتمل عليه من مناهج هدم الثقافة الإسلامية والافتراء على الإسلام.
2. الهيمنة على مناهج التعليم.
3. الهيمنة على وسائل الإعلام.

 

وقد تعمقت في الأمة مشاعر الدونية والتبعية للغرب ومشاعر تفوق العقل الأوروبي وقد تحققت هذه التبعية المنهجية بسب الانبهار الشديد بما يملكه الغرب من أفكار ونظم وقيم وأنماط سلوك، وبسب وجود المتحمسين من أبناء الأمة للفكر الغربي باعتباره الوسيلة المثلى لتنمية المجتمعات الإسلامية.
وترتب على هذا الغزو آثار خطيرة على منظومة القيم، فقد تم تكريس قيم المصلحة الذاتية على المصلحة العامة، والقيم الاستهلاكية، وإماتة النخوة والشرف وانتشرت الآفات الاجتماعية، فالرشوة هي استحقاق وجهد وإكرامية والكسب غير المشروع شطارة وبالتالي انهارت المعايير التي كنا نقيم بها سلوكنا وتصرفاتنا؛ وبدأت تشيع القيم البرجماتية بما فيها من نفعية مادية وتفاخر هرج زائف.
وبرز في انتقال المرأة إلى أماكن العمل خارج المنزل مما أضعف رابطة الأسرة وتماسكها، فأصبحت تتغيب عن بيتها لفترة طويلة وتلتقي زوجها وأبنائها لفترة قصيرة نسبياً، وعوضتها مسؤولياتها بالخدمات فأدخلت قيماً بديلة، وقد تكون هذه القيم التي حملتها الخادمة قريبة وبعيدة عن الواقع ولكنها ساهمت في التنشئة الاجتماعية لأطفال الأسرة.

 

ومن آثار التحولات الثقافية ارتفاع قيمة العلم باعتباره الوسيلة الأساسية لاستيعاب المنجزات الحضارية ومواكبة التغيرات المتسارعة.
واعلم أن الحروب والثورات والصراعات من أهم عوامل التغير القيمي  فالحروب مهما كانت نتائجها تمثل عملية مخاض يولد فيها المجتمع من  جديد، فإذا انتصر المجتمع في حربه فإنه يكتسب مفاهيم وخبرات وأساليب وقيماً جديدة تعزز من إيجابيته وفاعليته في بناء قوته ودعم حركته في التوسع. وفي حال الهزيمة فإن المجتمع يعيد النظر في كل أموره ويقيم سياسة جديدة تعدل من نظمه وأساليب حياته بما يمكنه من مواجهة الأزمات.

 

 

سيدي الكريم هل أزمة الأمة الإسلامية الآن هي أزمة قيم؟
القيم أنواع عديدة منها القيم الوجدانية، والقيم الخلقية، والقيم العقلية، والقيم الاجتماعية، والقيم الجسمانية، والقيم الجمالية، والقيم الخلقية، والقيم الذاتية..
وأشهر أنواع القيم وأهمها هي: القيم الدينية.
فهي ترتبط بما يترتب عليها من ثواب وعقاب فالقرآن الكريم هو الفيصل في الحكم على الحسن والقبح والخير والشر والحلال والحرام، فقيمة الأشياء والفعال محددة ومقومة في ضوء تحديد ما هو مباح، وما هو حلال وما هو حرام، ويتكلم "ماكس فيبر" عن القيم الدينية ويذكر أنها مجموعة من التصديقات السيكولوجية المتولدة عن الاعتقاد الديني والممارسة الدينية التي تعطى توجيهاً للسلوك العملي الذي يلتزم به الفرد.
ومما يعكس أزمة القيم في مجتمعاتنا المعاصر الانبهار الشديد بالحضارة الغربية التي تُولي الجانب المادي في الإنسان كل الاهتمام مع إهمال الجانب الروحي فيه، ولابد من تقييم مناهجنا المستوردة وتصويب مسار الانحراف في البناء الأساسي للفكر الإسلامي في العالم الإسلامي بالتحرر من فلسفة المناهج الغربية ومضامينها التي لا تلائم أوضاعنا ولا تحقق التمازج بين قيم التحديث المعاصر والقيم الدينية الأصلية حيث ندخل في حسابنا خصوصيات الأمة الثقافية مستفيدين من تجربة اليابانيين الذين اقتبسوا علم الغرب ثم تفوقوا عليه في بعض المجالات دون أن يغيروا من قيمهم الاجتماعية وتقاليدهم المنبثقة من عقيدتهم.
إن سبب الأزمة التي نعانيها عدم وجود إستراتيجية واضحة حول منظومة القيم المستقبلية التي تحفظ لنا هويتنا وتجعلنا قادرين على الانفتاح الواعي على غيرنا، وتبدو مظاهر الأزمة في عجزنا عن تحديد القضايا القيمية التالية: أي القيم يجب أن نعدل ونعير؟ وأي القيم يجب أن نعزز؟ وما القيم التي يجب تبنيها في المستقل؟ وما آليات تعليم القيم؟ وما دور التربية في تعليمها؟ فهذه الأسئلة وغيرها تفرض بناء إستراتيجية تربوية لغرس تلك القيم.

 

 

بما أنكم ذكرتم ضرورة بناء إستراتيجية تربوية لغرس القيم، فهل المدرسة لها دور في تلك الإستراتيجية؟
تتبوأ المدرسة منزلة هامة في غرس القيم من خلال الأساليب والنماذج المتعددة التي يمر بها الطالب.
وتعد المدرسة والجامعة امتداداً وظيفياً للأسرة في تنظيمها للخبرات وتزويد الأفراد فيها بالمهارات والقيم التي تهدف إلى غرسها، وإذا ما امتلكها الفرد تصبح جزءاً من بنائه المعرفي وتشكل مرجعاً لسلوكياته وخياراته وطموحاته، وقد يحدث عكس ذلك عندما تكون القيم سالبة فنحتاج إلى تعديلها وفق أساليب محددة تعنى بتعديل السلوك وتغيير القيم، فالمدرسة والمعهد والجامعة هي المزود الذي يزود بالقيم نفياً أو إثباتاً وهي المخبر الذي يحلل الخير فيه القيمة ويرسم لها الخطة ويعدل المنهج كلما اقتضى الحال ذلك.
وكذا يعتبر المعلم أحد رواد غرس القيم وقد يصل إلى مقاصده من خلال المناهج والأساليب المتنوعة التي تتاح له، فهو القدوة التي يتأثر بها الطفل في المدرسة، وهو النبراس الذي يضئ المنهج ويسلط الأضواء على القيم التي يريد غرسها أو تعزيزها أو حذفها إن كانت سالبة.

 

 

كيف يمكن تفعيل النسق القيمي في مجتمعاتنا الإسلامية في ظل تحديات النظام العالمي الجديد؟
إن عولمة الحياة الإنسانية المعاصرة تشكل في الواقع إحدى السمات الكبرى لعصرنا الحاضر، ولقد بدأت مظاهر العولمة تنعكس آثارها على المجتمعات والأفراد في البلدان النامية والصناعية على السواء بحيث أصبحت البشرية تحتاج إلى علم اجتماع العولمة كي تدرس مخلفات الظاهرة والإشكاليات الناتجة عنها مثل التأثير على الخصوصية الثقافية وتأثيرها على سوق العمل.
لذا تتطلب إعداد دراسة منهجية عن القيم التي يجب غرسها أو تعزيزها أو حذفها خاصة والتأثيرات المتسارعة كبيرة وتطور وسائل المعلومات والاتصال أكثر تأثيراً غيرت وجه العالم وأحدثت علامات فارقة على شتى المستويات الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية.

 

 

أخيرا د. محمد بما توصي لإمكانية تفعيل النسق القيمي الصحيح في مجتمعاتنا الإسلامية؟
أوصي بالتالي:
1. ضبط إستراتيجية لمختلف القيم.
2. رسم برنامج لغرس القيم أو تعزيزها أو العمل على حذف الفاسد منها.
3. ضرورة إعادة إعداد دليل المعلم ورسم المنهج الملائم لمعالجة النسق القيمي  في ظل الظروف الراهنة.
4. إعادة النظر في الكتب الدراسية والمناهج لتواكب المستجدات، والاستعداد لمواجهة التحديات الحضارية مع مراعاة برنامج القيم الذي يزداد التركيز عليه.
5. مراجعة طرق تكوين المعلم وتزويده بأحدث الأساليب ليساير الركب الحضاري مع الحفاظ على الأصالة والخصوصيات التي يمتاز بها هذا البلد.
6. ضرورة المراجعة والتطوير للأطر التربوية وتنظيم الدورات للتدارك في مختلف المجالات خاصة ما يحدث من مستجدات في عالم الكمبيوتر.
7. الاقتباس من النظم التربوية الناجحة خاصة التجربة اليابانية وما وصلت إليه من تطوير بلغ بالطالب مرحلة علمية متقدمة مع المحافظة على الأصالة والتأكيد على الخصوصية حتى نستلهم قيماً مناسبة لأصالتنا وواقعنا.