أنت هنا

حكم الذبائح التي سمي فيها بغير الله
2 شعبان 1432
اللجنة العلمية

ما سموا عليه غير الله كالمسيح مثلاً فهل يلحق بما تقدم أم لا؟
اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
الأول: التحريم، وهو قول الحنفية، والشافعية، وأصح الروايتين عن أحمد(38).
الثاني: الإباحة، وهو رواية عن أحمد وقول جماعة من السلف(39).
الثالث: التفصيل، فإن كانوا ذبحوه تقرباً لآلهتهم وتركوه فلم ينتفعوا به فلا يحل لنا أكله؛ لأنه ليس من طعامهم وما ذبحوه لأنفسهم بقصد الأكل منه ولو في أعيادهم لكن سموا عليه اسم آلهتهم تبركاً فيكره أكله ولا يحرم، وهذا قول المالكية(40).

 

الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول:
بقوله سبحانه: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) (الأنعام: من الآية121)، وبقوله سبحانه: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية173) وهذا صريح عام في تحريم كل ما ذبح لغير الله ومنه هذا لأنهم أخلصوا الكفر عند تلك الذبيحة(41).
ونوقش بأنه مقيد بقوله: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (المائدة: من الآية5).
واستدل أصحاب القول الثاني:
بأن هذا من طعامهم وقد أباحه الله لنا مع علمه أنهم يسمون غير اسمه، فلو كان محرماً لبُيِّن إذا لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة المسمومة التي قدمها له اليهود ولم يسأل أَذُكِر اسم الله عليها أم لا؟(42)
واستدل أصحاب القول الثالث:
بعموم قوله: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (المائدة: من الآية5) فإنه يصرفه عن التحريم إلى الكراهة لذكر اسم الآلهة(43).

 

 

المناقشة والترجيح:
الراجح القول الأول لعموم الآية وإباحة ذبائح أهل الكتاب وإن كانت مطلقة لكنها مقيدة بما لم يهلوا به لغير الله فيحمل المطلق على المقيد جمعاً بين النصوص، ولا يصح العكس لوجوه(44):
أحدها: النص على تحريم ما لم يذكر السم الله عليه في قوله سبحانه: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (الأنعام: من الآية121)، فنص على تحريم أكله، وأخبر بأنه فسق وفي هذا تنبيه على أن ما ذكر اسم الله عليه أشد وأولى في التحريم والفسق فلا يحل.
الثاني: أن إباحة طعامهم خص منه مما يستحلونه مما هو محرم علينا كالميتة ولحم الخنزير فلأن يخص منه ما يستحلونه مما أهل به لغير الله من باب أولى.
الثالث: أنه تعارض دليل الحظر والإباحة فيرجح الحظر؛ لأنه أحوط.

 

قال شيخ الإسلام: "( وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) عموم محفوظ لم تخص منه صورة بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب فإنه يشترط له الذكاة المبيحة فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم يبح ذكاته لأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم والمسلم لو ذبح لغير الله أو ذبح باسم غير الله لم يبح وإن كان يكفر بذلك فكذلك الذمي لأن قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) (المائدة: من الآية5) سواء، وهم وإن كانوا يستحلون هذا ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه يحل لنا؛ ولأنه تعارض حاظر ومبيح فالحاظر أولا أن يقدم؛ ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقيناً أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام فهو من الشرك الذي أحدثوه فالمعنى الذي لأجله حلَّت ذبائحهم منتف في هذا"(45).
الرابع: أن ما أهل به لغير الله لا يجوز أن تأتي الشريعة بإباحته أصلاً فإنه بمنزلة عبادة غير الله.

 

وما استدل به أصحاب القول الثاني مردود بأن الله سبحانه كان يعلم أيضاً أن النصارى من أهل الكتاب يأكلون الخنزير ويشربون الخمر وهو الذي أباح لنا ذبائحهم وحرم علينا ما أهل لغير الله به، فيجب أن يكون حكم الحل مراعى فيه حكم الآية الأخرى بمعنى أن ذبيحتهم تحل بشرط عدم الإهلال عليها بغير الله وإلا فلماذا لا نستخرج من قوله: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) إباحة ذلك أيضاً.

 

وأما استدلالهم بشاة اليهود المسمومة فإنما يصح لو ثبت أن اليهود في ذلك الزمان ما كانوا يذكرون اسم الله على ذبائحهم وأنه صلى الله عليه وسلم رغم علمه بهذا أكل من ذبيحتهم، وأما مجرد أنه أكل من ذبيحتهم ولم يسأل فلا دليل فيه على استثنائهم من وجوب التسمية(46).
وقال ابن كثير: "إن أهل الكتاب – في ذلك الوقت – كانوا يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم وكانوا متعبدين بذلك ولهذا فإن الله تعالى لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم لأنهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم"(47).
وسبب الخلاف في هذه المسألة والتي قبلها التعارض بين عمومين(48).
ففي الأولى تعارض قوله: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) مع قوله: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ).
وفي الثانية تعارض مع قوله: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) والقاعدة الأصولية تقول: إذا تعارض عمومان يرجح العموم المحفوظ – الباقي على عمومه – على العموم الذي خص منه صور وهذا يؤيد ما تقدم ترجيحه في المسألتين.
وتفريق المالكية لا دليل عليه؛ لأن علة التحريم الذبح لغير الله وهي متحققة في كل حال وما ذبحوه وتقربوا به لغير الله فهو شرك ويدخل فيما أهل به لغير الله ولو ذكروا عليه اسم الله ومنه ما يذبحونه في أعيادهم وكنائسهم إذا نوى بها التقرب إلى غير الله، ونقلت الرخصة فيها عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم وهذا فيما إذا لم يسموا غير الله(49).

 

ومن الخطأ ما علل به بعض المعاصرين في إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً لعموم الابتلاء بمخالطتهم للمسلمين واحتياجهم إلى ما يذبحونه في كل زمان ومكان فهذا غلط واضح لم يقل به أحد من المسلمين فإن مخالطة المسلمين للمشركين كما في مكة والطائف وغيرهما أعظم وأكثر من مخالطتهم لأهل الكتاب ومع هذا لم تبح ذبائحهم والذبيحة بترك التسمية عليها أو بذكر اسم غير الله عليها تحمل الخبث والله سبحانه وتعالى حرم علينا الخبائث والخبث(50).
وإذا لم تعلم تسميته فإنه لا يسأل عنها ولا تترك ذبيحته إلا بدليل قاطع على وجود ما يحرمها إذا الأصل الحل ثم إن الشرط متى شق العلم به وكان فيه أعظم الحرج سقط اعتبار العلم به(51).
ولا يباح للسائح في بلاد الكفر أكل ما لم يذبح على الطريقة الشرعية إلا للضرورة المبيحة للمحظور، أما كون المسلم يشق عليه تحصيل الحلال فإن هذا لا يجعله مضطراً فبإمكانه تحصيل الطعام المباح من الأسماك والحبوب والألبان وغيرها.

 

وفي هذا الزمن ابتلي المسلمون بكثرة استيراد اللحوم من بلاد غير إسلامية وقد أصدر المجمع الفقهي في قراره رقم (94) بشأن الذبائح ما يبين حكم ذلك بقوله:
(أ) إذا كان استيراد اللحوم من بلاد غالبية سكانها من أهل الكتاب وتذبح حيواناتها في المجازر الحديثة بمراعاة شروط التذكية الشرعية فهي لحوم حلال.
(ب) اللحوم المستوردة من بلاد غالبية سكانها من غير أهل الكتاب محرمة لغلبة الظن بأن إزهاق روحها وقع ممن لا تحل تذكيته.
(ج) اللحوم المستوردة من البلاد المشار إليها في البند السابق إذا تمت تذكيتها تذكية شرعية تحت إشراف هيئة إسلامية معتمدة وكان المذكي مسلماً أو كتابياً فهي حلال(52).
وأفتى الشيخ ابن باز بأنه إن علم كونها من ذبائح أهل الكتاب فالأصل حلها ما لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي؛ لأنه لا يعدل عن الأصل إلا بيقين وإن كان من غير ذبائح أهل الكتاب وإنما من بقية الكفار فهي حرام ولا تكفي التسمية عليها عند غسلها أو أكلها(53).

 

وأفتت اللجنة الدائمة بنحو ذلك وأن الكتابي إذا ذكر اسم غير الله عليها أو لم يذكره عمداً أو ضربها في رأسها بمسدس أو بالطعن الكهربائي ونحو ذلك فهي ميتة محرمة وعليه، وكما أفتى الشيخ ابن عثيمين أيضاً(54)، فإن لهذه اللحوم ثلاثة أحوال إذا كانت من كتابيين:
الأولى: أن نعلم بأن ذبحه كان على الطريقة الإسلامية بذكاة وتسمية فالمذبوح حلال.
الثانية: أن نعلم بأن ذبحه كان على غير الطريقة الإسلامية مثل الخنق والطعن والضرب وترك التسمية أو ذكر غير اسم الله أو ذبحها لصنم ونحوه تقرباً فالمذبوح حرام.
الثالثة: أن نعلم أن الذبح وقع ونجهل كيفيته وصفته وهل سمى عليها أم لا؟
فهنا الأصل حله ولا يجب السؤال عنه تيسيراً على العباد ويدل عليه قصة أكله صلى الله عليه وسلم من الشاة المسمومة كما تقدم ولحديث عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن قوماً أتونا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا فقال:: "سموا عليه أنتم وكلوه" قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر فالشك موجود وكونهم حديثوا عهد بالكفر قرينة له فقد يجهلون أن التسمية شرط للحل لقرب نشأتهم في الإسلام فإحلاله صلى الله عليه وسلم مع ذلك دليل على ما تقدم؛ ولأن الأصل في الأفعال والتصرفات الواقعة من أهلها الصحة(55).
وقد صدر بيان لهيئة كبار العلماء في المملكة في هذا الموضوع بناءً على مكاتبات وتقارير حول واقع الذبائح المستوردة توصلت فيه إلى أنه لا اطمئنان يحل الأكل منها بل يبقى الشك على الأقل يساور النفوس في موافقة ذبحها للطريقة الإسلامية والأصل المنع(56).

 

_________________
(38) ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني (5/75)، وحاشية ابن عابدين (9/428)، والمجموع للنووي (9/52-53)، ومغني المحتاج للشربيني (4/266)، وروضة الطالبين (3/237)، وحاشية ابن قندس (10/403)، والمغني، لابن قدامة (13/294)، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة كما في الفتوى رقم (1216).
(39) ينظر: المصادر السابقة.
(40) ينظر: بداية المجتهد، لابن رشد (2/264)، عقد الجواهر الثمينة، لابن شاس (1/583)، وحاشية الدسوقي (1/53).
(41) ينظر: المصادر السابقة، وأحكام أهل الذمة، لابن القيم (1/510)، وما بعدها.
(42) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب الشاة التي سمت للنبي صلى الله عليه وسلم رقم (4003) ومسلم في كتاب السلام، باب السم، رقم (2190).
(43) ينظر: بداية المجتهد، لابن رشد (2/264)، وعقد الجواهر الثمينة، لابن شاس (1/583).
(44) ينظر: أحكام أهل الذمة، لابن القيم (1/527).
(45) اقتضاء الصراط المستقيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/59-60).
(46) ينظر: حاشية ابن عابدين (9/428)، وذبائح أهل الكتاب، لأبي يعلى المودودي، ص (30) بتصرف.
(47) تفسير ابن كثير (2/27).
(48) ينظر: بداية المجتهد لابن رشد (2/264).
(49) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لشيخ الإسلام (2/57)، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع (7/454).
(50) ينظر: حكم اللحوم المستوردة وذبائح أهل الكتاب وغيرهم، عبد الله بن حميد، ص(28) بتصرف، وأحكام الأطعمة، أبو سريع، ص(193)، وما بعدها.
(51) كما ذكر ابن القيم في أحكام أهل الذمة (1/247) وفي بداية المجتهد (1/450): (إذا لم يعلم أن أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة فقال الجمهور تؤكل وهو مروي عن علي ولست أذكر في هذا الوقت خلافاً).
(52) ينظر: قرارات المجمع الفقهي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، ص (224).
(53) ينظر: أبحاث هيئة كبار العلماء (2/546)، وما بعدها.
(54) المصدر السابق.
(55) ينظر: المصدر السابق، بتصرف، وعليه لا يصح استدلال المهلب بحديث عائشة السابق والذي رواه البخاري في كتاب الصيد والذبائح، باب ذبيحة الأعراب ونحوهم، ص 474، رقم (5507). ينظر: نيل الأوطار (8/140)، وسبل السلام (4/1406)، وفقه الأقليات، خالد عبد القادر، ص(507).
(56) أبحاث هيئة كبار العلماء (2/546).