27 ذو القعدة 1432

السؤال

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فضيلة الشَّيخ: أحسن الله إليكم، أبي طلَّق أمِّي منذ 24 عاماً، ولم يتكفَّل بأي شيء من مصاريفنا، ولا حتَّى بتربيتنا، وكبرنا ولله الحمد، وأنا الآن أعيش في أوربا، أحاول مساعدة أمِّي وأخواتي بما أستطيع، لأني لا أعمل، وكان عندي بيت بسيط بعته، ووضعت المبلغ في البنك، الآن المشكلة في أبي، هو عاقٌّ لأبنائه بمعنى الكلمة- غفر الله له- ومع هذا نحاول الاتِّصال به، والتَّواصل معه لكنَّه مؤخراً قاطعني!! ولا يريد أن يكلمني، لا أعرف السَّبب محدَّداً لكن!! على حسب كلام أخي الصَّغير، هو غاضب لأني لا أعطيه المال، مع العلم أنَّه متزوج بامرأة تصغرنا بعدة سنوات، له منها ابنة، وله معاش جيد، ولا يعطي أي فلس لأي من أخواتي، والآن سأنزل إلى بلدي، ولا أريد الذَّهاب إلى بيته، لأنَّه سيطردني، لأني حاولت أن أكلِّمه في الهاتف، فأغلق الهاتف في وجهي، ولا أريد أن أكون آثمة أمام الله.
ماذا أفعل؟؟. مع العلم أنَّه لا يكلِّم أي أحدٍ من أخواتي، أعرف أنَّ برَّ الوالدين واجب، وهذا ما يؤلمني، أرسلت له رسالة نصِّية، ولم يستقبلْها، وإلى الله المشتكى، أنتظر ردَّكم، بارك الله فيكم.

أجاب عنها:
سعد العثمان

الجواب

الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه...
ألخِّصُ لك أختي الفاضلة جواب استشارتك في النِّقاط الآتية:
أولاً: أشكركِ على ثقتك، بموقع المسلم، ومتابعتك له، ونسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجعلنا أهلاًّ لهذه الثِّقة، وأن يجعلَ في كلامنا الأثر، وأن يتقبَّل منا أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعلها كلَّها خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل فيها حظَّاً لمخلوق..آمين.
ثانياً: ليست هذه مشكلتك وحدك، بل يعاني منها طيف كبير من أفراد مجتمعنا، وهذه التَّصرُّفات من هؤلاء الآباء، هي التي تُسبِّب العقوق، والكُره، والبُغض، للآباء من قبل الأبناء، وقد كتبت مقالاً بهذا الخصوص، عنوانه: هلْ يَكْرَهُ الأبناءُ آباءَهم؟!، بتاريخ: 20/ ذو القعدة / 1432ه، إن أردتِ الاطِّلاع عليه، فهو موجود حالياً في الموقع على هذا الرابط:
http://www.almoslim.net/node/154482
وأنتِ أمركِ ما زال سهلاً، يمكن علاجه، أمَّا غيرك، فقد تطوَّر الأمر مع بعض الآباء إلى مراحل متقدِّمة، استعصى الحلُّ معهم تماماً.
ثالثاً: ظُلم الآباء للأبناء في هذا الزَّمن الرَّديء، شلَّالات نار، وآلام لها صدى، تؤثِّر على نمو أولادهم في الصِّغر، وتفكيرهم في الكِبر، وتعدُّ تقصيراً في إعدادهم، وهذا ما يُعرف بعقوق الآباء، إلا أنَّ هذه الظَّاهرة، قلَّ مَنْ يلتفت إليها. إنَّ تصرُّف والدِكِ، معكِ ومع أخواتكِ، فيه ظلم وتعدٍّ، لا يجوز شرعاً، ولا قانوناً، ولا عقلاً، ولا منطقاً، ولكن!! في النِّهاية هو أبوك، ولا بد من مداراته، وحسن التَّعامل معه، قدر الإمكان.
رابعاً: استعيني بمن يؤثر فيه عليه، وأتوقع أن يؤثِّر فيه أربعة:
1. جدُّكِ "والد ". 2. أعمامُكِ وعمَّاتُك. 3. أحدُ العلماء المؤثِّرين في بلدكم. 4. زوجته.
اذهبي إليهم، واشرحي لهم تصرُّفات والدكِ معكِ، ومع أخواتكِ، واستثيري عواطفهم ليتفاعلوا مع مشكلتكِ، وأعتقد أنَّك لو حاولت التَّقرب من زوجة أبيكِ، والتَّودُّد لها، تُحلُّ مشكلتك تماماً، ومشكلة أخواتك معكِ، لأنَّ مفتاح الرَّجُل زوجته، تواصلي معها، وقدِّمي لها هديَّة عينيَّة، تتذكَّرُك كلما رأتها، وعندما تتمكَّنين من قلبها، اطلبي منها أن تعينك في حلِّ مشكلتك، ثمَّ اضغطي عليه بجدك وأعمامك وعمَّاتك، ثمَّ بأصحابه وزملائه، ثمَّ بطلبة العلم والمشايخ، وأظنُّ لو أنَّ قلبه حجراً لتأثَّر. ولا تنسي الاستعانة بالله تعالى من قبل ومن بعد، ادعي الله عزَّ وجلَّ في خلواتك، وجوف الليل، ووقت السَّحر، أن يهدي والدكِ، ويصلح باله، ويحنِّن قلبه، ويرقِّق طبعه، وأن يردَّه إليكم ردَّاً جميلاً.
خامساً: قد أسعدَتْني رغبتُك في مواصلة والدكِ، رغم تقصيره في حقِّكم، وأرجو أن يُعلم أنَّ التَّقصير ما ينبغي أن يقابل بمثله؛ لأنَّ الله يجازي كلَّ نفس بحسب سعيها وكسبها، إذا لم يتَّقِ المقصرُ اللهَ فيك، فاتقِ اللهَ فيه، وإذا لم يخفِ الله فيك، فخفِ الله فيه. خذ بيد أخيك إلى الجنَّة، فإن أبى، فانجُ بنفسك من النَّار. كما أتمنى أن يفهم الجميع، طبيعة هذه الدُّنيا، وكونها جبلت على الكدر والعناء، وأنَّه لا راحة لأهل الإيمان إلا في جنة أعدَّها الله للفضلاء، وحبَّذا لو حاولتم نسيان الماضي رغم مرارته، وحاولتم التَّقرب من والدكم، والنُّصح له حتى يرجع إليكم، ويؤدِّى بعض الحقوق التي أضاعها، فإنه سيقف غداً بين يدي الذي يعلم السِّر وأخفى، وسيعاقبه على تقصيره معكم، فهل تريدون أن يحرق والدكم في النَّار وأنت تنظرون إليه: أنتِ وأخواتك؟؟.
سادساً: أمَّا بخصوص طلبه المال منك، فالأصل أنَّه يجب على الولد، أن ينفق على أبويه الفقراء، وإن علوا، وأولاده الفقراء، وإن سفلوا، والأصل في وجوب النَّفقة لهما، الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والمعقول، أمَّا الكتاب: فقول الله تعالى:(وبالوالدين إحسانا)البقرة: 83. وأعلى مرتبة في الإحسان، أن يطعم الولد والديه، ويكسوهما، ويسكنهما، وأعلى مرتبة في الإساءة إليهما، تركهما يتكفَّفان النَّاس، وولدهما قادر على إعالتهما.
وأمَّا السُّنَّة: فقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيِّع من يقوت)رواه أبودود. وأمَّا الإجماع: فقد أجمع أهل العلم من السَّلف والخلف، على أنَّ نفقة الوالدين اللَّذين لا كسب لهما، ولا مال، تجب على ولدهما.
وأمَّا المعقول: فإنَّ الولد بمثابة من يقضي ديناً، ترتَّب عليه، فالوالدان قاما بتربيته وإطعامه، ناهيك عن شفقتهما عليه، والتَّلطف به، والإحسان إليه، في صغره، فالعقل يقتضي إذاً، أنْ يردَّ لهما بعض ما فعلاه له، من الإحسان، عندما كان محتاجاً إليه.
وتجب النَّفقة حتَّى مع اختلاف الدِّين، ولوجوبها ثلاثة شروط: أولها: أن يكون المنفق عليهم، غير قادرين على الإنفاق على أنفسهم، لعدم المال، أو عدم الكسب، أو المرض. وثانيها أن يكون المكلَّف بالنَّفقة قادراً عليها. وثالثها: أن يكون المكلَّف بالنَّفقة وارثاً للمنفق عليه.
وأنت أختي الفاضلة والدك لا يجب عليك شرعاً نفقته، ولا إعطائه شيئاً على سبيل الوجوب، وإنَّما على سبيل المعروف، والإحسان، والتَّحبُّب، فأنت حرَّة فيما تعطينه، لأنَّه مكتفٍ براتب وظيفته، ومعه ما يكفيه، كما ذكرتِ في سؤالك.
وأختم إجابتي بقولين جميلين، هما:
1- قال الأحنف بن قيس لمعاوية رضي الله عنه، عندما سأله عن أبنائه:(هم ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، فإنَّهم يمنحونك ودَّهم، ويحبونك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً، فيملوا حياتك، ويتمنوا وفاتك).
2- قال حكيم آخر:(لا تكرهوا أولادكم على أخلاقكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم).