أنت هنا

غزوة بدر الكبرى
1 رمضان 1437
اللجنة العلمية
 
رمضانُ شهر الانتصارات
 

انتصارات الأمة الإسلامية في رمضان من غزوة بدر الكبرى إلى حرب العاشر من رمضان:

معركة بدر الكبرى (2هـ ـ 623)

وقعت هذه المعركة الحاسمة في رمضان من العام الثاني للهجرة، عندما انتصر المسلمون بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم على المشركين في غزوة بدر الكبرى، التي تُعتبر بمثابة الفيصل الحاسم بين انحسار الكفر البوَّاح، وبداية غلبة الإسلام في شبه الجزيرة العربية، وقد تجسَّدت أبعاد الانتصار الحربي لأمتنا في هذه الغزوة عبر انتصار الإيمان الذي كان في طور التكوين، وهذا راجع إلى تلك القوة الهائلة التي غرسها القرآن في نفوس أتباعه، ولذا فإن هذا الانتصار الحاسم في غزوة بدر، يُعتبر سنة من سنن الله في كونه الرحيب، حيث إن النور يطرد الظلمة والهُدى يطرد الضلال، فلقد تدخَّل قدر الله تبارك وتعالى في رسم مسار المعركة، فقاد الجماعة المسلمة الوليدة في عالم الواقع الحضاري إلى النصر الظافر، من حيث أراد المسلمون لأنفسهم من معركة صغيرة في سبيل الغلبة المادية على متاع الأرض، إلى المعركة الحقيقية الكبرى العميقة في كيان الوجود، إنها معركة العقيدة ومعركة الفرقان بين الحق والباطل إلى آخر الزمان، فانتصروا من حيث لا يشعرون على معنى الشرك كله ومعنى الضلال كله، وتقررت حقيقة العقيدة الإسلامية السمحة في هذه الأرض ناصعة· وارتفع الإنسان المسلم على نفسه، على عالمه المباشر الذي يعيشه بحواسه إلى العالم الأكبر الذي يعيشه بروحه الإيمانية الوثَّابة (3) · وفي هذا يقول الله جل ثناؤه: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحقَّ الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحقَّ الحقَّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) الأنفال: 7 ـ 8·

ومعنى ذلك أن معركة بدر الكبرى التي نتج منها تقرير مصير الدعوة الإسلامية، وبالتالي أصبح لها كيانها الإيماني والحضاري الملموس في دنيا الواقع المحسوس قد وقعت في رمضان، وما كان ذلك إلا إفرازاً شهياً لهذا الانتصار الحاسم للمسلمين على الكفار في أول لقاء حربي بينهم على أرض المعركة، والمواجهة وجهاً لوجه·

غزوة الخندق (5هـ ـ 626م)

في الأيام التالية لرمضان مباشرة، من العام الخامس للهجرة، أي في شوال الشهر الذي يعقب رمضان مباشرة، أي أنه يحمل في إهابة البصمات الإيمانية الحية والمناخ العقدي الصافي لرمضان، وقعت غزوة الخندق التي انتصر فيها المؤمنون، على معاقل الشرك العربي واليهود >الأعداء التاريخيين للأمة<· وذلك عندما تجمعوا في تشكيل حربي أطلق عليه مصطلح >الأحزاب< وفقاً للوصف القرآني· لذا لم يخطئ أحد الباحثين، عندما ذهب إلى أن هذه الغزوة، تعتبر بمثابة الانبثاق الحقيقي للحضارة الإسلامية ـ كحاضرة كونية متفردّة في سماتها الربانية والبشرية ـ من رحم التاريخ، وهذا يعني أن الالتزام بمعطياتها يمثّل ضرورة إيمانية· ولعل أهم ملمح بارز يُجسّد أبعاد الانتصار الحربي في هذه المعركة، هو أن مستقبل الأمة الإسلامية جغرافياً وتاريخياً، بل وحتى حضارياً، قد تقرر في غزوة الخندق، وذلك من خلال استشراف الرسول صلى الله عليه وسلم بثاقب بصره ـ على ضوء هدي السماء ـ لما ينتظر هذه الأمة فيما يستقبلها من أيام، وذلك عندما لاحت له معالم هذا المستقبل المشرق، أثناء تفتيت الصخرة الصلدة التي اعترضت الصحابي الجليل سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ صاحب فكرة الخندق التي كانت جديدة على العقل العربي ـ بيده الشريفة، فبدت أمامه كل الأراضي التي فتحها المسلمون بعد انتقاله للرفيق الأعلى كالعراق والشام ومصر··· إلى آخره، بل إنه صلى الله عليه وسلم قد بشَّر أمته بفتح القسطنطينية وفتح روما ـ إن شاء الله ـ ومن هنا نرى أن هذا الانتصار الإيماني والحربي لأمتنا الإسلامية على أعدائها، قد وقع في تلك الأيام المباركة التي أسهمت إشعاعات رمضان الروحية في تكوينها وإضفاء طابع من الدينامية المتفجرة والحيوية الحضارية عليها·

فتح مكة (8هـ ـ 629هـ)

أما في رمضان من العام الثامن للهجرة، فقد وقعت غزوة فتح مكة، التي استطاع فيها المسلمون تحت قيادة النبوّة الخالدة، أن يكتبوا ـ لأول وآخر مرة في التاريخ ـ شهادة وفاة للوثنية العربية، وعبادة الأصنام والأوثان، التي عششت في أدمغة العرب منذ القدم، وقد حدث هذا بالفعل عندما حطّم الرسول صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة الأصنام >الثلاثمائة والستين< التي كانت موجودة حول الكعبة المشرَّفة، ففي رمضان المعظم إذاً استطاعت الحضارة الإسلامية تحت قيادة رائدها الأول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن تنتصر انتصارها الإيماني والحربي هذا ـ دون إراقة الدماء ـ على أكبر معاقل الشرك في العالم القديم· وإذا كان فتح مكة هو آخر ملحمة بطولية تمَّت في عصر الرسالة إبان رمضان، فإن دراسة وتحليل الملامح الحضارية والحربية التي نتجت عن تلك المعارك الحاسمة التي انتصرت فيها حضارتنا، وبالتالي أسهمت إسهاماً حيوياً في تكوين القسمات البارزة للأصالة الحضارية الإسلامية، تشي بأن جُلَّها إن لم يكن كلها، قد وقعت في رمضان، وفي هذا دلالة على أن رمضان كان بالفعل شهر الانتصارات الإيمانية والحربية للأمة الإسلامية·

معركة القادسية (16هـ ـ 637م)

لعل أبرز المعارك التي انتصرت فيها أمتنا إبان العصر الراشدي، هي معركة القادسية، التي وقعت في رمضان سنة (16هـ) بين المسلمين والفرس· وكان قائد المسلمين الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وبلغ جيش المسلمين فيها نحو عشرة آلاف، وكان قائد الفرس رستم ذا الحاجب، ويتكون جيشه من مئة وعشرين ألف مقاتل، وقد مات المثنى بن حارثة قبل المعركة، ومن القادة الذين كانوا يساعدون سعد بن أبي وقاص، المغيرة بن شعبة، وقيس بن هبيرة، وطليحة بن خويلد، الذي كان قد ادَّعى النبوة ثم تاب وأناب، وقبيل المعركة تم اتصال بين المسلمين والفرس بغية الوصول إلى اتفاق بمنع الحرب، ولكن هذا الاتصال لم يسفر عن نتيجة، فقامت المعركة، وهي من المعاركة الهامة في تاريخ الحروب بين المسلمين والفرس فرَّ فيها رستم وعشرات الآلاف من جنوده، وغنم فيها المسلمون مغانم كثيرة، وقد استمرت المعركة عدة أيام· (4)

إن معركة القادسية كانت بمثابة المعركة الحربية الحاسمة، التي ساعدت الأمة الإسلامية الفتية ـ آنذاك ـ على أن تنعطف انعطافة جديدة في مسيرتها التاريخية، وذلك كانعكاس طبيعي لانتصارها الظافر هذا على الحضارة الفارسية، التي كانت تهيمن هيمنة كاملة على الجناح الشرقي للوجود البشري آنذاك، وبالتالي تسنَّى لأمتنا في هذه الموقعة الحاسمة تغيير ملامح التاريخ البشري، وذلك بعد أن استطاع المسلمون في هذه المعركة أن ينهوا الوجود الفارسي وسيطرته على تلك المناطق الهامة من العالم حينئذ، وفي موقعة القادسية تبلوَر أيضاً مدى الإعجاز الفريد للجانب العقدي الذي فجَّر ينابيعه الثرَّة الفيّاضة الإيمان الصادق في نفسية أمتنا الإسلامية، وذلك عبر الحوار الذي دار بين ابن من أبناء الحضارة البازغة >الإسلامية<، وممثل لتلك الحضارة الغاربة >الفارسية<، وهذان المتحاوران هما: الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه، ورستم قائد الفرس، وذلك عندما دخل ربعي بن عامر على رستم، ودار بينهما الحوار التالي:

>قال رستم لربعي بن عامر: ما الذي جاء بكم إلى هنا؟! قال: جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة<·

ولقد تبلورت في سياق هذا الحوار الأهداف السامية التي حملها روَّاد هذه الحضارة، بعد أن صيغت الصياغة الإيمانية الكاملة وانصهرت في البوتقة الإيمانية لرمضان· وبناء على هذا، يحق لنا أن نقول إن رمضان المبارك هو شهر الانتصارات الإيمانية والحربية لحضارتنا الإسلامية·

 
فتح الأندلس (92هـ ـ 711)

استكملت الحضارة الإسلامية رسم ملامح خريطتها الجغرافية الكبرى، بعدما تمَّ فتح الأندلس في (رمضان 92هـ ـ يوليو 711م) في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، إذ استطاع قائده الفذّ طارق بن زياد فتح تلك البلاد ـ التي كانت تسمى بشبه الجزيرة الإيبيرية ـ وضمها إلى كيان الدولة الإسلامية، وتكمن في الفتح الإسلامي للأندلس معجزة الإسلام، فالإسلام كدين وحضارة يحقق به الإنسان المسلم ـ وبقدرة الله ـ المعجزات· وفي الواقع أن هذا التقدم في فتح الأندلس، لا يعني بأي حال من الأحوال أنه كان فتحاً سهلاً، بل لقد تمَّ ـ بهذا الشكل ـ بذلك النوع المتميز من الأجناد، أجناد العقيدة الإسلامية ـ في أجواء رمضان العابقة بشذى الإيمان والمضمَّخة بندى الإسلام· فبدا سهلاً، إلى حد أن وصفه نفر من الإسبان بأنه كان نزهة عسكرية، كله أو بعض مراحله Militar Mero Paseo كان هو كذلك أمام هذا النوع من الجند أصحاب العقيدة الإسلامية، فهم قد استهانوا بالصعاب وبذلوا النفوس رخيصة من أجل رفع شأن الإسلام وحضارته الحقة، ومن هنا نرى أن الفتح نفسه لم يكن يحتوي على نزهة أو ما يماثل شكلها، وإذا كان هذا الوصف مقبولاً، فأمام هذا النوع من الجند، كانت التضحيات كثيرة والجهد كبير، والدروب شاقة، والمناخ شديد، والجو غريب، والأرض صخرية عنيفة، وكان مستوى العقيدة أعلى من ذلك وأكبر، فانساب الفاتحون في شوطهم بهذه السرعة، فبدت للآخرين كأنها نزهة، لكنها روحية من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض، وهي مجلبة لراحة المؤمن وفرحته بنصر الله إن عاش وبجنته إن استشهد (5) · وفي هذا يقول عز من قائل: (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) التوبة:52· ولقد نتج من هذا الفتح المبين، أن انطلقت أمتنا الإسلامية انطلاقتها الحضارية في رمضان، ووصل إشعاعها إلى أوروبا المظلمة آنذاك، فبدَّد حنادس ليلها الدامس الظلام· وبعد فتح الأندلس واصل المد الحضاري الإسلامي امتداده فامتدت حدود الدولة الإسلامية من الصين شرقاً حتى الأندلس غرباً، ففي رمضان إذاً استطاعت الأمة الإسلامية أن تثبت هذه الوثبة الحضارية، وبالتالي انتقلت وثباتها التالية إلى مناطق شتى من العالم، وصل إليها الإسلام بفضل الفتوحات الإسلامية التي تمت إبان العصر الأموي·

معركة عين جالوت (658هـ ـ 1260م)

في بداية العصر المملوكي >البحري< الذي يُعدُّ من عصور التألق الحضاري في عالم الإسلام، استطاعت الأمة الإسلامية في معركة عين جالوت (15 رمضان 658هـ ـ 3 سبتمبر 1260م) أن تتصدَّى للخطر المغولي الداهم، الذي هدد الوجود الحضاري الإسلامي، فشلَّت ديناميكية هذا المد الهمجي، وذلك بعدما لمَّت شتاتها المبعثر وأعادت نظم حبَّات عقدها ـ في بلد واحد هو مصر الإسلامية ـ قلب الإسلام النابض ـ ومعها الشام العمق التاريخي لمصر، فانتصرت على المغول الذين تراجع مشروعهم التدميري أمام الجيش الإسلامي بقيادة سيف الدين قطز الذي رفع شعار >وا إسلاماه<· فما أحوَجنا اليوم إلى رفع هذا الشعار، وذلك لكي نعيد فلسطين السليبة، والأقصى الأسير إلى حوزة المسلمين من جديد، إن ذلك أمل وما هذا على الله بعزيز·

ولهذا السبب، تُعتبر موقعة عين جالوت بحق إحدى الوقائع الهامة ليس في تاريخ مصر والشام فحسب، ولا في تاريخ الأمة الإسلامية، بل في تاريخ العالم بأسره· ونحن لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن هذه الموقعة تفوق في أهميتها كل الوقائع الحربية الحاسمة في العصور الحديثة، لا لأنها لم تكن حرباً ضد شعوب راقية متحضّرة، تحكمها قواعد وقوانين متعارف عليها، تخفِّف بعض الشيء من ويلات الإنسانية، وإنما كانت إيقافاً لحرب همجية، شنَّتها قبائل بربرية متوحشة سفَّاكة للدماء، مخرِّبة للعمران البشري ضد سكان المدن في كل مكان، فانتصار هذه القبائل ـ أي قبائل المغول ـ كان معناه القضاء المبرم على حضارة العالم الشرقية والغربية، ومن هذه الزاوية تكون موقعة عين جالوت قد تركت في تاريخ البشرية قاطبة أثراً أشد وأقوى مما تركته كل هذه المعارك· (6)

هكذا استطاعت أمتنا أن تحافظ على التراث الحضاري الإنساني من الانهيار والضياع في رمضان، عندما تصدَّت بعزيمتها الفولاذية التي كوَّنها لديها الإشعاع الإيماني للصيام، وأثره الفعَّال في تربية النفوس وصياغة الرجال الأقوياء، كأحسن ما تكون الصياغة على ضوء نسق إيماني معجز، ما كان له أن يكون حقيقة ملموسة لولا الصيام ولمساته الإيمانية الحيّة·

معركة العاشر من رمضان (1393هـ ـ 1973م)

في عصرنا الحديث، وحيث واقعنا الراهن وحالة الوهن >عصر القصعة< الذي نعيش فيه، وعلى الرغم من تحوّل شهر رمضان المبارك من شهر القرآن والاعتكاف والجهاد في سبيل الله، إلى شهر ملذَّات وإشباع نهم للجانب المادي من حياة المسلم المعاصر، يُضاف إلى ذلك الغثاء الإعلامي الذي لا يُسْمِنْ ولا يُغني من جوع، مما جعل الجانب الروحي من حياة هذا الإنسان في خواء، إلا أن الأمة ـ ورغم كل هذا ـ عندما عادت وبصدق إلى إحياء وميض من روح رمضان، استطاعت أن تحقق شيئاً من الانتصار الإيماني والحربي على عدوِّها التاريخي >اليهود<، في تلك المعركة الحاسمة التي خاضت غمارها ضد الكيان الصهيوني المزعوم، في العاشر من رمضان 1393هـ ـ السادس من أكتوبر 1973م، إنها روح العقيدة القادرة على تحقيق النصر المظفر في كل زمان ومكان بإذن الله·

الخلاصة

من كل ما سبق، وبالرغم من أنه عرض مدخلي ومؤشرات حضارية بسيطة، حاولنا من خلالها تجسيد أبعاد الانتصار الإيماني والحربي لحضارتنا الإسلامية والذي أحرزته في رمضان، على مدار التاريخ· لذا يمكننا القول: إن رمضان كان ولا يزال ـ وينبغي أن يكون فيما يستقبل أمتنا وحضارتها المعاصرة من أيام قادمة من ضمير الغيب ـ بمثابة تلك البوتقة الإيمانية التي أُحسِنَ صياغتها ـ وهذه الصياغة هي صياغة إلهية ـ ولله المثل الأعلى ـ وذلك من أجل استغلالها كأحسن ما يكون الاستغلال حتى يتسنَّى لهذه الأمة إعادة بناء المسلم المعاصر، على ضوء المعطيات الإيمانية والاستيعاب الموضوعي للمعطيات الحضارية للعصر· وكما يؤكد الواقع التاريخي لهذه الأمة، بأن ارتقاءها إلى مستوى استيعاب تلك المعطيات الإيمانية ـ أي الملامح التكوينية لرمضان ـ قد ساعدها على الانتصار الإيماني والحربي، وفي المقابل انهزمت الأمة هزيمة نكراء في أكثر من ميدان من ميادين المواجهة مع أعدائها، عندما تنكَّرت لروح رمضان· ويا ليت الأمة الإسلامية تفيق من سُباتها الحضاري العميق، كلما أهلَّ عليها هلال رمضان الميمون، وتعود إلى رشدها الإيماني، وتعيد إلى هذا الشهر المبارك ألق روحه الإيمانية، وطابعه الجهادي، وذلك حتى يتسنَّى للمسلم المعاصر، أن ينتصر على أعدائه، وخصوصاً الصهاينة ـ وينهض نهوضه الحضاري المنشود عبر إقلاعه من جديد، وعندئذ سيصدق علينا القول المأثور: >لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها<· هذا والله يقول الحق وهو يهدي السبيل·

 

 

خمسة عشر عاماً من الإعداد لغزوة بدرٍ الكبرى

 

شهر رمضان شهر النصر , وشهر الصبر , حقق المسلمون فيه النصر المؤزر على أعدائهم وقهروهم في معارك عديدة في بدر وفتح مكة وحطين وعين جالوت وغيرها.

لكن لغزوة بدر خصوصية مطلقة حيث كانت أول تجربة نصر للمسلمين وأول طعم للغنائم للمسلمين سماها الله سبحانه يوم الفرقان لأنه فرق بين الحق والباطل وبانت لأول مرة في تاريخ الإسلام بوارق الحق بصورتها الجديدة.

ومن المعلوم أن أول تجربة ناجحة للإنسان هي أهم تجاربه وهي التي ترسم له طريقه وتحدد له ملامح حياته فهو دائما يفخر بها ويحاول أن يتمثلها ويقلدها.

ومن المعلوم أن أول تجربة ناجحة في حياة الأمة هي أهم تجاربها وهي التي ترسم لها طريقها وتحدد لها معالمها وهي دائما تذكرها بفخر واعتزاز.

وغزوة بدر أول تجربة ناجحة في حياة هذه الأمة ما زلنا نذكرها بفخر واعتزاز بل إن الله جعل حيثياتها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة.

وغزوة بدر هذه وكونها أول تجربة ناجحة لا بد من دراستها من كل أطرافها وكل أبعادها وكل مفاصلها حتى يتسنى للمسلمين تكرار هذه التجربة مرة أخرى.

في الحقيقة كلنا يعرف قصة غزوة بدر من خروج المسلمين لاسترداد بعض من حقوقهم من قافلة تجارة لقريش إلى خروج قريش لتحمي تجارتها إلى التقاء المسلمين والمشركين في عين تسمى بدرا إلى أن نصر الله المسلمين وأخذوا الغنائم وقيدوا الأسرى.

لكن الذي يجب أن نقف عنده نقاط عدة:

من المعروف أن الغزوة وقعت في السنة الثانية للهجرة أي بعد خمسة عشر عاما من ابتعاث النبي عليه الصلاة والسلام.

فلا بد أن نعرف خلال هذه الفترة التي سبقت هذا النصر بماذا قضاها النبي عليه السلام حتى قطف المسلمون النصر وبماذا قضاها أصحابه الكرام , فالفترة التحضيرية مهمة جدا لأن النصر يحتاج إلى تحضير جيد واستعداد متميز , ويحتاج إلى رجال تستحق النصر وتحميه

فلو رحنا نستعرض أهم الأعمال التي قام بها النبي عليه السلام خلال هذه الأعوام التي سبقت هذه الغزوة لوجدنا متمثلة في نقاط أساسية:

أ - تصحيح عقيدة الناس: فالنبي عليه السلام لبث في مكة ثلاثة عشر عاما كان يركز فيها على تصحيح عقيدة الناس وتوجيههم إلى عبادة الله الواحد الأحد , وأنه هو القادر وهو القاهر وهو المقصود وهو الغني , لا واسطة بينه وبين عباده , يبعث الخلائق يوم القيامة فيدخل من أطاعه الجنة ومن أشرك به النار ومن عصاه هو في مشيئته إن شاء غفر له فيدخله الجنة وإن شاء أدخله النار. ولبث على ذلك الفترة المكية كاملة وكانت الآيات القرآنية تنزل على قلبه المبارك مؤيدة لموضوع تصحيح العقيدة فنزلت " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " ونزلت سورة المدثر وسور اقرأ و غيرها من السور التي تركز على وحدانية الله الواحد الأحد وتتكلم عن صفاء العقيدة ونقائها.

وكان لذلك الأثر الواضح في حياة الصحابة فانتقلوا من ذل الوثنية إلى عز الوحدانية ,ومن تعدد الآلهة إلى وحدانية الإله الواحد , فارتقوا وسموا وحلقوا وجهزوا أنفسهم لتلقي أوامر الله سبحانه.

ب - إحياء دور المسجد: حيث أن المسجد هو القلب النابض للأمة وعصب حياتها ,يدخله الإنسان وفي قلبه خشية لله , ويتعلم فيه المتعلم وعنده رقابة لله , يجمع الفقير والغني والرئيس والمرؤوس , والحر والعبد , فيربط القلوب ببعضها ,وتستوي الصفوف فيه فتتآلف القلوب.

فكان من أول أعمال النبي عليه السلام بناء هذا الصرح الإسلامي العظيم على بساطة بنائه وقلة امكاناته ولكنه كان العمود الفقري لأمة الإسلام فهو مكان العبادة والعلم والقيادة والتوجيه , تسمو فيه الروح , ويتأدب فيه الجسد , وتشحذ فيه الهمة, فينطلق الفكر محلقا يبحث عن حلول لهذه الأمة.

جـ - تجسيد الأخوة في الله تطبيقا على أرض الواقع: حيث آخى الإسلام بين المهاجرين والأنصار وتحققت كلمة المدح التي امتدح الله بها المؤمنين بقوله " إنما المؤمنون إخوة "

ولم تكن مجرد شعار يرفع , وطبول تقرع , بل كانت أخوة لا مثيل لها في تاريخ البشرية جمعاء.

هذه هي الأمور الأساسية والتمهيدية لتجربة النصر الأولى في حياة المسلمين.

والمسلمون اليوم إذا أرادوا أن يكرروا هذه التجربة لا بد من تحقيق هذه الأمور الثلاثة

فلا بد من تصحيح للعقيدة فلا وساطة بيننا وبينه سبحانه , ولا قادر غيره ولا حاكم غيره ولا مقصود غيره ولا بد أن يتوجه المسلمون إلى هذا الأمر ولا سيما الدعاة حتى تتضح للناس العقيدة السليمة والصحيحة

إن هناك الكثير الكثير من المسلمين ما زلوا يأوون إلى القبور ويلتجؤون إليها , والكثير منهم مازال يأنس إلى الأبراج ويرى طلعه فيها.

إننا في الحقيقة لن ننتصر إلا بعقيدة الإسلام الصحيحة التي كان عليها رسول الله وصحابته الكرام.

ولا بد من إحياء دور المساجد لأنها الطريق المعبدة لنصر لا خيانة فيه ولا حسد فيه ولا محسوبيات فيه فهو نصر لله ونصر من أجل الله ونصر في سبيل الله

ولا بد من زيادة الترابط بين أفراد المسلمين حتى يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

إنّ مسيرة الدعوة الإسلامية، خلال الخمسة عشر عاماً السابقة لغزوة بدرٍ الكبرى، أدَّت إلى أن يكون للمسلمين رؤية وهدفٌ واضحٌ من وراء خوضهم لهذه المعركة، وعندما تكون الأهداف واضحة يجد الإنسان السبل للوصول لها وعندما تكون الأهداف طائشة يتشتت الإنسان في وسائله فيضيع ويضل.

فالمسلمون كان لهم هدف قريب هو استرداد بعض من حقوقهم ,ولما لم يفلحوا وفر أبو سفيان بالعير تحول الهدف للدفاع عن عقيدتهم ودينهم ونبيهم لما سمعوا قدوم قرش إليهم.

أما قريش فكانت أهدافها مجرد إظهار القوة ومجرد استعراض لها حتى إن النبي قال " لقد رمتكم قرش بفلذات أكبادها " وهذا الهدف الطائش عبر عنه زعيم الجهل أبو جهل عندما قيل له تعال نرجع فقد نجت العير والتجارة فقال: " و اللات و العزى لا نرجع حتى ننحر الجزور ونطعم الطعام وتغني لنا القيان فتسمع العرب بنا فلا يزالون يهابوننا "

هذه أهداف المسمين وهذه أهداف المشركين

واليوم لابد أن تكون أهداف المسلمين ضمن هذه الأهداف الواضحة حتى يكرروا تجربة النصر بإذن الله وحوله.

إن غزوة بدر تمثل تجربة النصر الأولى لدى المسلمين وهي تجربة فريدة من نوعها ,متميزة بتحضيرها ونتائجها وحتى الآن مازالت إشراقاتها في مكامن التاريخ فلا بد من دراستها الدراسة المتأنية والدقيقة حتى نكرر تجربة النصر بعون الله.

 

 

 

غزوة بدر الكبرى: مواقف دالَّةٌ على فضل الصحابة رضي الله عنهم

 

لما استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم، في خوض المعركة: "قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: "يا رسول الله امض لما أراك الله، فنحن معك والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا علي أيها الناس» وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الانصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال:: «أجل». قال فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: «سيروا وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم " هكذا رواه ابن إسحاق رحمه الله" [البداية والنهاية (3/ 321)].

قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية _ حليف بني عدي بن النجار _ وهو مستنتل من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: استو يا سواد، فقال: يا رسول الله! أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل؛ فاقدني. قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقد. قال: فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله! حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك: أن يمس جلدي جلدك! فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير!

 

ها هو عبد الرحمن بن أبي بكر بعدما أسلم، يقول لأبيه أبي بكر رضي الله عنه: لو رأيتني وأنا أُعرِض عنك في بدر حتى لا أقتلَك، فقال أبو بكر: أما إني لو رأيتك وقتئذٍ لقتلتك. ويقابل أبو عبيدة رضي الله عنه أباه في المعركة فيقتلَه. ويمر مصعب بن عمير بعد نهاية المعركة ورجل من الأنصار يأسِرُ أخاه أبا عزيز، فيقول مصعب: شدَّ وثاقه فإن أمَّه ذاتُ مال، فيقول أخوه: أهذه وصاتك بي؟! فيقول مصعب: هو ـ أي: الأنصاري ـ أخي دونك.

 

وهذا عمير بن أبي وقاص أخو سعد، حضر غزوة بدر وعمره ستة عشر عاماً .. وكان قبل المعركة يتخفى عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يراه فيردَّه بسبب صغره .. وسرعان ما اكتشف هذا البطل الصغير .. فيؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. فلما رآه صغيراً رده عن المشاركة في المعركة .. فتولى وهو يبكى .. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بكاءه وإصراره أجازه، فدخل المعركة، فقاتل حتى قتل ..

رضي الله عنهم أجمعين.

عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابدٍ دمعَه بالخد أجراه لقياه

يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
وأسدغاب إذالاح الجهاد بهم هبواإلى الموت يستجدون
 

وانقطع يومئذ سيف عُكَّاشَة بن مِحْصَن الأسدي، فأتى رسول الله r فأعطاه جِذْلاً من حطب، فقال: (قاتل بهذا يا عكاشة)، فلما أخذه من رسول الله r هزه، فعاد سيفًا في يده طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله تعالى للمسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العَوْن، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد، حتى قتل في حروب الردة وهو عنده. رواه ابن إسحاق في سيرته.

 

ولما أمر بإلقاء جيف المشركين في القَلِيب، وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، نظر رسول الله r في وجه ابنه أبي حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: (يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟) فقال: لا والله، يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيًا وحلمًا وفضلاً، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك. فدعا له رسول الله r بخير، وقال له خيرًا.

 

 
عوامل النصر في غزوة بدر
 

إن المسلم في مواجهته للباطل يحشد ما استطاع من قوة، ولا يدَّخر في ذلك وُسعًا، ثم هو بعد ذلك لا يرهب قوة الأعداء، وإن كانت تفوقه عددًا وعتادًا؛ لأنه على يقين من أنه ليس في الميدان وحده، وإنما معه جند الله الذي لا يعلمها إلا هو، وفي بدر يتجلى ذلك في مواقف عدة؛ حيث تنتصر القلة المؤمنة على الكثرة المشركة وذلك بفضل ما سخر الله للمسلمين من جند السماء والأرض والتي كان منها:

أ- الملائكة مدد من السماء: حين استغاث الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بربهم أمدهم بالملائكة: ?إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ? [الأنفال:9]، والمتأمل يرى أن عدة الملائكة بعدة المشركين، وبذلك يتحقق ما أخبر به الله من البشرى والطمأنينة للمؤمنين: ?وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? [الأنفال:10].

ب- النوم والمطر: قبل المعركة كان المسلمون في حالة من التعب والإعياء والخوف يحتاجون معها إلى قسط من الراحة قبل المواجهة، كما أن ساحة المعركة كانت في حاجة إلى تجهيز وإعداد بما يمكِّن المسلمين من الحركة في الميدان وفي المقابل يعوق حركة المشركين؛ فأنزل الله عليهم النعاس والمطر .. ?إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ? [الأنفال:11].

يقول الماوردي: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:

أحدهما: أن قوَّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.

الثاني: أن أمَّنهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما يقال: الأمنُ مُنِيم، والخوف مُسْهِر  ، وعن علي- رضي الله عنه- قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائمٌ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت الشجرة حتى أصبح" ، وعن عروة بن الزبير- رضي الله عنه - قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهسًا، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم   وأصحابه منها ما لبَد الأرض ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشًا ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه ، وروي أنهم كانوا على جنابة وظمأ، وأن الشيطان ألقى في قلوبهم الحزن، وقال: أتزعمون أن فيكم نبيًّا، وأنكم أولياء الله، وتصلون مجنبين محدثين؟! فأنزل الله من السماء ماءً فسال عليهم الوادي ماءً؛ فشرب المسلمون وتطهَّروا وثبت أقدامهم وذهبت وسوسته.

ج- سلاح الرعب: إن سلاح الرعب من أقوى الأسلحة التي يتحقق بها الغلبة على الأعداء، وهذا السلاح إذا سرى في أقوى الجيوش وأعتاها، فإنه ينهار ولا يغني عنه لا عدد ولا عتاد، وهذا السلاح لا يملك خزائنه إلا من يقدر على الوصول إلى القلب الذي هو محلّ التثبيت والخوف والهلع، وتأمل قول رب القلوب: ?إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ? [الأنفال:12].

ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم وخصائص الأمة الإسلامية النصر بالرعب مسيرة شهر؛ فعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيتُ خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة".

إن الرعب سلاح يفتك بالمشركين والكافرين قبل المواجهة، قال الله تعالى: ?سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا? [آل عمران: 151]، وفي حق يهود يقول: ?وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار? [الحشر: 2]، وفي حق الأحزاب: ?وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا? [الأحزاب: 26]؛ فسلاح الرعب سلاح ينفذ إلى أعماق القلوب، فيسلب من أصحابها العقلَ والحسَّ، ويجعلها في حالة من الذهول واللا وعي ?لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ? [البقرة:264].

 

 

 
إمداد الله للمسلمين بالملائكة في غزوة بدر
 

ثبت من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومرويات عدد من الصحابة البدريين؛ أن الله تعالى ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب, قال تعالى: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [الأنفال: 12]. وقال تعالى: ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾.

وأورد البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وغيرهم عددًا من الأحاديث الصحيحة التي تشير إلى مشاركة الملائكة في معركة بدر، وقيامهم بضرب المشركين وقتلهم([1]) .

فعن ابن عباس t قال: (بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم.([2]) فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيًا فنظر إليه فإذا هو خُطِم أنفه([3])، وشُقَّ وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله فقال: «صدقت, ذلك مدد من السماء الثالثة»([4]) ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال: إن النبي r قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب»([5]). ومن حديث علي بن أبي طالب t قال: (فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال العباس: يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني, لقد أسرني رجل أجلح([6]) من أحسن الناس وجهًا على فرس أبلق([7]) ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال «اسكت فقد أيدك الله بملك كريم»([8]). ومن حديث أبي داود المازني قال: (إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري)([9]).

إن إمداد الله تعالى للمؤمنين بالملائكة أمر قطعي ثابت لا شك فيه، وأن الحكمة من هذا الإمداد تحصيل ما يكون سببًا لانتصار المسلمين، وهذا ما حصل بنزول الملائكة، فقد قاموا بكل ما يمكن أن يكون سببا لنصر المسلمين: من بشارتهم بالنصر، ومن تثبيتهم بما ألقوه في قلوبهم من بواعث الأمل في نصرهم، والنشاط في قتالهم، وبما أظهروه لهم من أنهم معانون من الله تعالى، وأيضا بما قام به بعضهم من الاشتراك الفعلي في القتال، ولا شك أن هذا الاشتراك الفعلي في القتال قوى قلوبهم وثبتهم في القتال، وهذا ما دلت عليه الآيات وصرحت به الأحاديث النبوية([10]).

وقد يسأل سائل: ما الحكمة في إمداد المسلمين بالملائكة مع أن واحدًا من الملائكة كجبريل عليه السلام قادر بتوفيق الله على إبادة الكفار؟

وقد أجاب الأستاذ عبد الكريم زيدان على ذلك فقال: لقد مضت سنة الله بتدافع الحق وأهله مع الباطل وأهله، وأن الغلبة تكون وفقًا لسنن الله في الغلبة والانتصار، وأن هذا التدافع يقع في الأصل بين أهل الجانبين: الحق والباطل، ومن ثمرات التمسك بالحق والقيام بمتطلباته أن يحصلوا على عون وتأييد من الله تعالى، بأشكال وأنواع متعددة من التأييد والعون، ولكن تبقى المدافعة والتدافع يجريان وفقًا لسنن الله فيهما، وفي نتيجة هذا التدافع فالجهة الأقوى بكل معاني القول اللازمة للغلبة هي التي تغلب، فالإمداد بالملائكة هو بعض ثمرات إيمان تلك العصبة المجاهدة، ذلك الإمداد الذي تحقق به ما يستلزم الغلبة على العدو، ولكن بقيت الغلبة موقوفة على ما قدمه أولئك المؤمنون في قتال ومباشرة لأعمال القتال، وتعرضهم للقتل، وصمودهم وثباتهم في الحرب، واستدامة توكلهم على الله، واعتمادهم عليه، وثقتهم به، وهذه معانٍ جعلها الله حسب سننه في الحياة أسبابًا للغلبة والنصر، مع الأسباب الأخرى المادية، مثل العُدة والعدد والاستعداد للحرب وتعلم فنونه... إلخ. ولهذا فإن الإسلام يدعو المسلمين إلى أن يباشروا بأنفسهم إزهاق الباطل وقتال المبطلين، وأن يهيئوا الأسباب المادية والإيمانية للغلبة والانتصار، وبأيديهم إن شاء الله تعالى ينال المبطلون ما يستحقونه من العقاب([11]), قال تعالى: ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 14، 15].

إن نزول الملائكة عليهم السلام من السماوات العلى إلى الأرض لنصر المؤمنين حدث عظيم.

إنه قوة عظمى، وثبات راسخ للمؤمنين حينما يوقنون بأنهم ليسوا وحدهم في الميدان، وأنهم إذا حققوا أسباب النصر واجتنبوا موانعه, فإنهم أهل لمدد السماء، وهذا الشعور يعطيهم جرأة في مقابلة الأعداء، وإن كان ذلك على سبيل المغامرة، لبعد التكافؤ المادي بين جيش الكفار الكبير عددًا القوي إعدادًا وجيش المؤمنين القليل عددًا الضعيف إعدادًا.

وهو في نفس الوقت عامل قوي في تحطيم معنوية الكفار وزعزعة يقينهم، وذلك حينما يشيع في صفوفهم احتمال تكرار نزول الملائكة الذين شاهدهم بعضهم عيانًا، إنهم مهما قدروا قوة المسلمين وعددهم فإنه سيبقى في وجدانهم رعب مزلزل من احتمال مشاركة قوى غير منظورة لا يعلمون عددها ولا يقدرون مدى قوتها، وقد رافق هذا الشعور المؤمنين في كل حروبهم التي خاضها الصحابة y في العهد النبوي، وفي عهد الخلفاء الراشدين, كما رافق بعض المؤمنين بعد ذلك فكان عاملاً قويًا في انتصاراتهم المتكررة الحاسمة مع أعدائهم([12]).

 

 

دور الدُّعاء في تحقيق النصر في غزوة بدر!

 

كيف انتصر المسلمون في غزوة بدرٍ وهم قلة؟ ما السِّر الذي جعل من انتصار المسلمين في غزوة بدر العمود الفقري لانتصارات المسلمين؟ بل ما السِّر الذي جعل من هذه الغزوة المنْطَلَق الذي أقلعت منه أو ابتدأت منه سلسلة الانتصارات الإسلامية في تاريخ المسلمين؟ هذا ما ينبغي أن نتساءل عنه، ثم هذا ما ينبغي أن نحققه في حياتنا الإسلامية اليوم.

يجيب بيان الله عز وجل عن هذا السؤال إذ يقول: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 8/9] ، {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَما النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 3/125-126]. السِّر في ذلك النصر الذي لم يكن متوقعاً من حيث المنظور المادي والمقياس الكمي السِّر هو استغاثة المسلمين بالله عز وجل، وإعلانهم عن عبوديتهم الضارعة لله سبحانه وتعالى، وتجديد البيعة معه عز وجل، وكان في مقدمة من حقق وتحقق بهذا كله، سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولعلكم جميعاً تعلمون أنه أمضى ليلة الجمعة بطولها يجأر إلى الله عز وجل بالدعاء والتضرع يستنزل به النصر الذي وعده الله عز وجل إياه، حتى أشفق عليه من كان حوله من أصحابه رضوان الله عليهم. هذا هو السِّر الكامن في نصر الله عز وجل للمسلمين آنذاك، وهذا هو السِّر الذي فقدناه اليوم، ومن ثَم فقدنا النصر الذي وعد الله عز وجل به عباده المؤمنين، وأكده أكثر من مرة في محكم تبيانه، ولعل من المهم أن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مرتاباً في أن الله عز وجل مُنْفذ له ما وعد، والدليل على ذلك أنه بشر أصحابه بالنصر، وأنه أشار كما ورد في الصحيح إلى أماكن معينة من الأرض يقول: ((هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان)) من صناديد المشركين، فما أخطأ واحد منهم فيما بعد هذا المكان الذي عينه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولعل فيكم من يتساءل: إذن فيم كان ذلك التضرع؟ زفيم كان ذلك الدعاء الواجف ما دام المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم على علم بأن الله ناصره؟ والجواب يا عباد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن ثمن هذا النصر الذي سيأتيه هو هذه الاستغاثة التي كان قد عزم عليها، والتي كان قد أصر على أن ينجزها وأن يؤديها طوال تلك الليلة، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم علم بنصر الله عز وجل إياه، وعلم أنه سيدفع ثمن ذاك النصر، وعلم أن ثمن النصر إنما هو تلك الضراعة والتحقق بذل العبودية لله سبحانه وتعالى ومعه أصحابه البررة الكرام. هذا هو الجواب عن مثل هذا السؤال. وإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد أيقن بنصر الله عز وجل له، ولكن يقينه هذا ما حال دون وقوفه ضارعاً متذللاً متبتلاً يجأر إلى الله عز وجل بالشكوى والدعاء، فكيف تكون حال من هو منغمس في الموبقات، منغمس في الملهيات والمنسيات ولا يعلم ما المصير الذي قيضه الله سبحانه وتعالى له؟ أليس من المفروض أن يكون هؤلاء الناس أكثر تضرعاً؟ أكثر التجاءً إلى الله عز وجل؟ أكثر تبتلاً. أكثر استغفاراً وإنابة إلى الله عز وجل؟ هذا هو الدواء الكامن في تضاعيف قصة بدر الكبرى، وهو الدواء الذي ينقصنا اليوم، وهو الذي يتحقق به شفاء هذه الأمة من أدوائها وأمراضها كلها، مصيبتنا - يا عباد الله - لا تكمن في قلة في العَدد، ولا تكمن في ضعف في العُدد، ولا تكمن في تراجع في التقنية والعلوم المستحدثة، لا تكمن في شيء من ذلك قط، وإن تسلى بالحديث عنها من شاء أن يتسلى ويحجب نفسه عن الخزي وأسبابه، وإنما تكمن مصيبتنا - مصيبة العالم الإسلامي - في أنه محجوب عن مولاه وخالقه، في أنه محجوب بأهوائه، بشهواته، بملاذِّه، بدنياه التي كاد أن يعبدها من دون الله سبحانه وتعالى، هذا هو الداء الذي تعاني منه أمتنا اليوم، أمة مُعرِضة عن الله عز وجل، ولا تبالي بنداء الله سبحانه وتعالى لها، أمة منغمسة في الملهيات والمنسيات، منغمسة في الرؤى المختلفة الباطلة الخرافية التي تحجبها عن الرجوع إلى الله عز وجل، وتصدها عن تبين صراط الله سبحانه وتعالى والسير عليه، أمة نفضت يديها بعد أن نفضت قلبها من مشاعر التذلل لله، من مشاعر العبودية لله، من معاني الالتزام بأوامر الله عز وجل، هذه الأمة ما الذي بقي لها عند الله عز وجل حتى تنتظر منه النصر، وحتى تنتظر منه العزة، وتنتظر منه القوة؟

تلك هي مصيبتنا، وهذا هو داؤنا!
 

في الحديث عن غزوة بدر، والتعقيب عليها في سورة الأنفال يقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? [الأنفال:45] أمر الله تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه، بل يستغيثوا به ويتوكلوا عليه أن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على أعدائهم؛ قال الله تعالى: ?وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ? [البقرة:250]، وقال الله تعالى: ?وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ? [آل عمران: 147]

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لربه وكثرة تضرعه في هذه الغزوة وفي غيرها دليل على مسألتين:

الأولى: أن الدعاء عامل رئيس من عوامل النصر على الأعداء، فهو السلاح الفتّاك المهمل.

الثانية: أنّ العبادة لا ينبغي أن تكون إلا لله، فالكل فقير إلى ربه، والله هو الغني الحميد الصمد الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، فكيف يُلجأ إلى غيره وخير خلق الله كان يلجأ إليه؟!

 

 
غزوة بدر وراية الجهاد في سبيل الله!
 

الجهاد ذروة سنام الدين، وسبيل عز المؤمنين، وهو أفضل عملٍ يتقرب به العبد لربه بعد الإيمان به، ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيله)).

إن منزلة الجهاد منزلة عظيمة لا يصل إليها إلاَ مَن عظمت الآخرة في نفسه، وهانت الدنيا عنده، ورسخت محبة الله في سويداء قلبه، فعاش بالله ولله ومع الله.

بهذه العقيدة الصحيحة ربى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فتسابقوا للجهاد، وواجهوا أعداء الله بثبات وإيمان، وحرصوا على الموت حرص غيرهم على الحياة، فنصر الله بهم الدين، وجعلهم أحياءً في الدارين، فهم أحياءٌ فوق الأرض بالعزةٍ والتمكين، وهم أحياءٌ تحت الأرض عند ربهم يرزقون.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة عزّها في الجهاد، متى ما رفعت راية الجهاد كانت عاقبتها النصر والعزة والتمكين، ومتى ما استكانت ورضيت بالقعود وتركت الجهاد ضربت بالذلة، وتسلط عليها أعداؤها.

قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)). رواه أحمد وأبوداود عن ابن عمر وصححه الألباني.

وإذا عرفنا فضل الجهاد والاستشهاد .. فإن الجهاد لا بد له من إعداد واستعداد.

إن غزوة بدر لم تكن مقطوعة الصلة بما سبقها من تربية طويلة بمكة ثم بالمدينة، حتى إذا قويت شوكة النبي صلى الله عليه وسلم وقوي عود أصحابه شرع الله لهم الجهاد.

ليس الجهاد بأعمال طائشة، يقوم بها بعض المتهورين، دون علم راسخ، ونظر في المصالح والمفاسد.

ولهذا قرر أهل العلم أن الأمة متى ما ضعفت أو كانت المصلحة في ترك الجهاد فإن الأمة تؤخر الجهاد أعني جهاد الطلب، ويبقى جهاد الدفع واجباً بقدر الاستطاعة إذا دهم العدو بلاد المسلمين.

 

من مهمات الفوائد في هذه الغزوة: أنّه لا عز ولا مجد ولا سيادة ولا ظهور إلا بإحياء شعيرة الجهاد في سبيل الله، بها علت راية لا إله إلا الله، وبها كتب الله الظهور لدينه، والله تعالى وعد في القرآن الكريم بإظهار دينه في ثلاثة مواضع، وفي كل موضع منها يذكر الله الجهاد قبلها وبعدها، وهي رسالة تقول لنا: إنه لا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بالتمسك بديني وإقامة شعيرة الجهاد في سبيلي. وهل أدل على ذلك من حديث نبي الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» [أبو داود].

 
 

 

 

غزوة بدر الكبرى ودرس في طبيعة العلاقة بين القائد وجنوده

 

ستظل معركة بدر الكبرى مرجعًا مهماً لتجلية العلاقة بين القائد وجنده، والأمير وجيشه، والحق أن مسألة " العلاقة بين القائد وجنده " .. تحتاج دومًا للتأصيل والتوضيح، والتبيين والتمثيل، فهل يتبسط القائد مع جنده إلى حد المجون؟ وهل يتشدد القائد مع جنده إلى حد الغرور؟ ما هي يا ترى طبيعة العلاقة بين القائد وجنده من الناحية الإنسانية ومن الناحية العسكرية ومن الناحية السياسية؟

غزوة بدر الكبرى، من خلال طبيعة العلاقة فيها ما بين القيادة والقاعدة، عبر مختلف مراحلها تُلقي ضوءاً كاشفاً على هذه القضية، فيما يلي نقف عند أبرز المعالم المبيّنة لطبيعة هذه العلاقة:

أولاً: مشاركة القائد جنوده في الصعاب:

عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير، فكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فكانت إذا جاءت عقبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالا: نحن نمشي عنك قال: " ما أنتما بأقوى مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما " [ابن هشام 2/ 389 وحسنه الألباني في تحقيق فقه السيرة 167].

فالقائد الصالح هو من يشارك جنوده الصعاب، ويكابد معهم الآكام والشعاب، ويحفزهم على القليل والكثير من الصالحات، ليكون قدوة طيبة أخلاقية لجنوده في المنشط والمكره، وليس القائد بالذي يتخلف عن جيشه رهبًا من الموقف أو يتلذذ بصنوف النعيم الدنيوي وجنده يكابد الحر والقر. والقائد إذا ركن إلى لذة المهاد الوثير؛ حُرم لذة المشاهد والمواقف. وبعض الرجال في الحروب غثاء!

ثانياً: استشارة الجنود:

في وداي ذَفِرَانَ [وهو يبعد عن المدينة المنورة نحو مائة كيلو متر]، وكان في هذا الوادي المجلس الاستشاري الشهير لمعركة بدر- بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم- نجاة القافلة، وتأكد من حتمية المواجهة، فإما القتال وإما الفرار .. فاستشار، فجمع الناس ووضعهم أمام الوضع الراهن، وقال لجنوده:"أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاسُ! " .. ورددها مرارًا، وما زال يكررها عليهم، فيقوم الواحد تلو الآخر ويدلو بدلوه، فقام أبو بكر فقال وأحسن. ثم قام عمر فقال وأحسن. ثم قام الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فقال وأحسن .. حتى قام القيادي الأنصاري البارز سعد بن معاذ، فحسم نتيجة الشورى لصالح الحل العسكري، قائًلا:

" لَقَدْ آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك، وَشَهِدْنَا أَنّ مَا جِئْت بِهِ هُوَ الْحَقّ، وَأَعْطَيْنَاك عَلَى ذَلِكَ عُهُودِنَا وَمَوَاثِيقِنَا، عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ .. فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْت فَنَحْنُ مَعَك، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ. لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقُرّ بِهِ عَيْنُك، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ " [السهيلي 3/ 57]

فهذا هو المجتمع الإسلامي، الذي يعتبر الشورى ركنًا من أركانه، وأصلاً في بنيانه .. في أيام كانت أوربا تحت حكم وراثي، كنسي مستبد خرافي، يُقيدُ فيه الجنود بالسلاسل - في المعارك - حتى لا يفروا. لا قيمة عندهم لرأي، ولا وزن - في تصوراتهم - لفكر.

وصدق حافظ إبراهيم - رحمه الله - حين قال:

رأي الجماعة لا تشقى البلاد به **** رغم الخلاف و رأي الفرد يشقيها

إن الشورى، من فرائض شرعتنا، ومن مفاخر دعوتنا، ومن معالم حضارتنا، ومن يعمل على تنحيتها، وهدمها وعزلها، أو الالتفاف حولها، فإنما يهدم الفرض، ويفسد في الأرض، ويُمكنُ لذلك للغرب، ويُحارب بذلك الرب.

وليعلم المتبصر، أن الشورى مُعلمةٌ للإمام الصالح غير مُلزمة، وهذا في شأن الحُكم والدولة. كذلك بالنسبة للقائد العسكري في ساح الوغي، فالقتال دائر والقلب حائر، بيد أن الشورى في العمل الجماعي الدعوي أو التوعوي أو الخيري مُلزمة، نعم مُلزمة، إذ يجب على قائد العمل الدعوي ومسؤول النشاط التوعوي أن ينزل على رأي إخوانه في الدعوة، وأتباعه في الحركة، ولا يجوز له - ولا يليق به - أن يُلزم الآخرين برأيه الذي لم يُجمع عليه، ولم تتفق الآراء حوله. وخاب من أصدر قرارًا - في غير نص - بغير شورى، وبئس القائد الذي قرّب الغاش وأقصى الناصح.

فإذا عزمتَ، وجمعت فريقك على مائدة الشورى، فاصدق الله في قصدك، وأسأله أن يصفي ذهنك، وأن ينقح فكرك، وأن يثقف عقلك، وأن يهذب خُلقك، وأن يهديك إلى خير الأفكار، وخير الأحوال، وخير الحلول، وأن يكفيك الشواغل العارضة، والقوى المتقسمة، والمصائب الباغتة، واستعذ به من استوحاش الفكرة، وجمود العقل، وصعوبة الحسم، وضعف العزم.

وعلى مائدة الشورى، إياك والجلوس رئاء الناس، واحذر السُّمعة، وحب الشهرة، والنَّفج والاستطالة، والتكبر على إخوانك والمغالبة، والغرور بالرأي والمجاذبة، وعليك على ذلك بالمجاهدة، والانبتات إلى الله والمسارعة، وإياك وقولة: قد قلتُ لكم رأي، ونصحتُ لكم، فخالفتموني فحفتم وفشلتم، فذوقوا وبال أمركم!!! فما تمخضت عنه الشورى خير، هو من اختيار الله، ومن اختلف في الفروع لم يُؤثَّم، ومن اختلف في الأصول - لا شك - يُحَوَّب. والرجل الحائر البائر المقبوح المشقوح، هو الذي يشير على أهل الرأي! ولا يقبل منهم رأي، فدومًا يرى أن رأيه هو الرأي، وما عداه فساد محض!

ثالثاً: الثقة في القيادة .. (امض لما أمرك الله!)
وتأمل القولة التاريخية لسعد بن معاذ، والتي قال فيها:

" فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْت فَنَحْنُ مَعَك، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ. لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقُرّ بِهِ عَيْنُك، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ " [السهيلي 3/ 57] ..

فامض يا رسول الله لما أردتَ، فنحن معك ...
فسر بنا على بركة الله ..

إنها ثقة الجندي في قائده، وثقة الأخ في نقيبه، والثقة الحقة، هي "اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه .. اطمئنانًا عميقًا؛ يُنتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة" [مجموعة الرسائل 283] ..

قال الله تعالى في شأن الشاكين في كفاءة القيادة الإسلامية وإخلاصها:

"أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " [النور:50].

فإذا انتشر الشك في صفوف الجماعة؛ انتشر على إثر ذلك الخوار والتصدع في بنيان الدعوة، فقوة التنظيمات تكون على قدر الثقة بين القائد وجنده، ومتانة الجماعات مرتبطة بمتانة الثقة بين النقيب وإخوانه، والثقة المتبادلة بين القائد وجنده هي الوِجاء الواقي في الخطط الدعوية، والأعمال التنظيمية، وتحقيق الأهداف الكبرى والمرحلية.

إن الجماعة المؤمنة هي تلك الجماعة التي لاتسمح ولاتمكّن لأعدائها أن يشقوا غبار أخوتها بالوشاية، ولا أن يصدّعوا وحدتها بالدعاية.

والمؤمن الصادق لا يشك في أخيه، ولا يشكك في نزاهته وأمانته، وإخلاصه وكفائته، فإذا تسلل الشيطان إلى النفس بنفث الشك في كفاءة القائد، تابت النفس المؤمنة، وقالت كما قال الله:

"لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ " [النور12].

فلا إيمان لنا حتى نُحّكم الشرع فيما شجر بيننا، ولا نجد في أنفسنا حرجًا مما قضى الله ورسوله وأولو الأمر من المؤمنين، أو ما تمخضت عنه مجالس شورى المتقين، ونسلم بذلك تسليما، و نقول بالقلب واللسان: سمعنا وأطعنا.

"فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً " [النساء:65].

ومن تمام التسليم، أن يكون لدى المؤمن الاستعداد التام، لأن يفترض في رأيه الخطأ وفي رأي القيادة الصواب، وهذا في حدود الخلاف السائغ، حيث لا خلاف أصلاً - بين القائد وجنده - مع وجود النص.

رابعاً: تبشير الجنود وبثُّ الثقة فيهم:

سُرّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشّطَهُ ذَلِكَ ثُمّ قَالَ: "سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ! وَاَللّهِ لَكَأَنّي الآن أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ!! " [السهيلي 3/ 57]

وفي اليوم السابق ليوم بدر مشى - صلى الله عليه و سلم - في أرض المعركة وجعل يُري جنوده مصارع رؤوس المشركين واحدًا واحدًا.

وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ: هَذَا مَصْرَعُ فلان- ووضع يده بالأرض -، وَهَذَا مَصْرَعُ فلان، وَهَذَا مَصْرَعُ فلان - إنْ شَاءَ اللّهُ -، فَمَا تَعَدّى أَحَد مِنْهُمْ مَوْضِعَ إشَارَتِهِ [ابن القيم: زاد المعاد 3/ 15]. فَعَلِمَ الْقَوْمُ أَنّهُمْ يلاقُونَ الْقِتَالَ، وَأَنّ الْعِيرَ تُفْلِتُ وَرَجَوْا النّصْرَ لِقَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [الواقدي 49]

قال أنس: "ويضع يده على الأرض هاهنا هاهنا. فما ماطَ أحدهم عن موضع يد رسول الله" [البيهقي: دلائل النبوة (21)]

وقال عمر: " فوالذي بعثه بالحق! ما أخطؤوا الحدود التي حد رسول الله " [مسلم (2873)].

وقوله - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لعقبة بن أبي معيط - المجرم المعروف -: "إن وجدتك خارج جبال مكة قتلتك صبرا" [الصالحي 4/ 18]، فحقق الله تعالى ذلك.

وأخبر بقتل المسلمين لأمية بن خلف، ولذلك قال سعد بن معاذ لأمية عندما ذهب إلى مكة قبيل بدر: يا أمية، فوالله لقد سمعت رسول الله يقول: "إنهم قاتلوك" ففزع لذلك أمية فزعاً شديداً [البيهقي: دلائل النبوة: 21].

ما أعظم القائد الصامد المبشر! وما أكرمه هو يبث روح الثقة في جنده، وينشر روح التفائل في جيشه، ويصب جوامع الكلم الطيب في القلوب، كالمطر الهاطل على السيول، فيذكرهم بشارة الله لعباده، وجنة الله لأوليائه، والمجاهدون أعظم الأولياء، رفقاء الرسل والأنبياء!

فإذا بالجنود - على أثر تثبيت قائدهم -؛ قد ثبت الله أقدامهم، وربط الله على قلوبهم، وسدد الله رميتهم، وأثقل بأسهم، وجعل الدائرة لهم.

خامساً: احترام آراء الخبراء والجنود:

فقد قال عبد الله بن رواحة - في موقف من مواقف بدر -: " يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك" [الطبراني في الكبير 4/ 210] فأنصت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول ابن رواحة وقال له قولاً حسنًا ..

ولما تحرك رسول الله إلى موقع ماء بدر، في موقع المعركة، نزل بالجيش عند أدنى بئر من آبار بدر من الجيش الإسلامي، وهنا قام الْحُبَاب بْنَ الْمُنْذِرِ وأشار على النبي بموقع آخر أفضل من هذا الموقع قائًلا:

يَا رَسُولَ اللّهِ! أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللّهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ ولا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: " بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ" .. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرَ [أي ندفن] مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ ..

فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مشجعًا -:" لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ".

وبادر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتنفيذ ما أشار به الحباب، ولم يستبد برأيه برغم أنه القائد الأعلى، وعليه ينزل الوحي من السماء، فَنَهَضَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَنْ مَعَهُ مِنْ النّاسِ فَسَارَ حَتّى إذَا أَتَى أَدُنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، نَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمّ أَمَرَ بالآبار فخُربت، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْبئر الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً، ثُمّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ [ابن هشام - 1/ 620].

إن هذه المواقف لتبين كيف تكون العلاقة بين القائد وجنوده، إنها علاقة تحترم الآراء الناضجة وتشجع الأفكار الصاعدة، وتتبنى الابتكارات، وتحفز الاختراعات ..

أيها القائد، أيها المسؤول، لن تعدم في جنودك من فاقك في العلم، وراقك في الفهم، فامتلِكْ عقول الجميع - في عقلك -، بالشورى، فأنت بغير الشورى عقل واحد، وبالشورى عقول! وإذا احترمتَ عقلاً ملكته، وإذا وقّرتَ خبيرًا ظفرته، وإذا عرفتَ شرفَ الحاذقِ كان سهمًا في كنانتك، وخنجرًا في جعبتك.

سادساً: حماية القائد و تأمين مقر القيادة:

فقد قال القائد الإسلامي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ - مبينًا أهمية تأمين سلامة القائد والقيادة-: " يَا نَبِيّ اللّهِ، أَلا نَبْنِي لَك عَرِيشًا [من جريد] َتكُونُ فِيهِ نُعِدّ عِنْدَك رَكَائِبَك [أو رواحلك]، ثُمّ نَلْقَى عَدُوّنَا، فَإِنْ أَعَزّنَا اللّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوّنَا، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْرَى، جَلَسَتْ عَلَى رَكَائِبِك، فَلَحِقَتْ بِمَنْ وَرَاءَنَا، فَقَدْ تَخَلّفَ عَنْك أَقْوَامٌ - يَا نَبِيّ اللّهِ - مَا نَحْنُ بِأَشَدّ لَك حُبّا مِنْهُمْ! وَلَوْ ظَنّوا أَنّك تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلّفُوا عَنْك، يَمْنَعُك اللّهُ بِهِمْ يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَك" [السهيلي 3/ 63].

فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ.

وقال مبشرًا: "أو يقضي الله خيراً من ذلك يا سعد! " [الواقدي 1/ 17]

ثُمّ بُنِيَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَرِيشًا على تل مرتفع يشرف على ساحة القتال استجابة لمطلب سعد - رضي الله عنه -.

وكان فيه أبو بكر، ما معهما غيرهما [ابن الأثير: أسد الغابة 2/ 143].

كما تم انتخاب فرقة من جنود الأنصار بقيادة سعد بن معاذ لحراسة مقر قيادة حضرة النبي- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [انظر: ابن هشام 2/ 233].

لا خير في جنود لا يهتمون بسلامة قائدهم، ومقر قيادتهم، لا خير فيهم إلا لم يتهالكوا في حفظه و يتضامنوا في حمايته، بترسيخ الحواجز والموانع التي تحول بين العدو والقيادة الإسلامية، فإذا خلص العدو إلى مقر القيادة، ملك العدو زمام المعركة، وقيل: من انهزم، قالوا: من لا قائد لهم.

سابعاً: حُسن الظن بالإخوان:

وذلك في قول سعد بن معاذ للنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما اقترح عليه فكرة العريش، قال سعد - في رواية -:

إنّا قَدْ خَلَفْنَا مِنْ قَوْمِنَا قَوْمًا مَا نَحْنُ بِأَشَدّ حُبّا لَك مِنْهُمْ. وَلا أَطْوَعَ لَك مِنْهُمْ، لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ وَنِيّةٌ، وَلَوْ ظَنّوا - يَا رَسُولَ اللّهِ أَنّك - مُلاقٍ عَدُوّا مَا تَخَلّفُوا، وَلَكِنْ إنّمَا ظَنّوا أَنّهَا الْعِيرُ [الواقدي 1/ 49].

وهكذا الإخوان في الله، في ميادين المجتمع إخوانٌ، في ميادين الدعوة إخوانٌ، في ميادين الجهاد إخوانٌ، عظماء أخلاق، أحاسن خلال، أكارم شيم، أفاضل قيم .. إخوانٌ لا مكان للظَّنة بينهم، ولا وجود للتُّهمة بينهم، يُحسنون الظن بأنفسهم، أي بإخوانهم، فالأخ بمنزلة الإنسان من نفسه، والجسم من روحه. وإن بعض الظن إثم - أي في غالب الناس-، أما بين الإخوان فكله إثم!

ثامناً: عدل وتنظيم وطاعة:

قلما نرى في تاريخ الحروب صورة تعبر عن العدل بيت القادة والجنود، فالتاريخ الإنساني حافل بصور استبداد القادة العسكريين وظلمهم للجنود .. أما محمد صلى الله عليه وسلم فنراه في أرض المعركة يقف أمام جندي من جنوده لَيَقتص الجندي منه .. أما الجندي فهو ِسَوَادِ بْنِ غَزِيّةَ، لما اسْتَنْتِل من الصف، غمزه النبي - صلى الله عليه وسلم - غمزة خفيفة في بَطْنِهِ - بالسهم الذي لا نصل له - وقال: "اسْتَوِ يَا سَوّادُ! " .. قال: يا رسول الله! أوجعتني! وقد بعثك الله بالحق والعدل؛ فَأَقِدْنِي! فكشف رسول اللّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَطْنِهِ، وَقَالَ: "اسْتَقِدْ" .. فَاعْتَنَقَهُ فَقَبّلَ بَطْنَهُ! فَقَالَ النبي- صلى الله عليه وسلم-: "مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا يَا سَوّادُ؟ "، قال: حضر ما ترى، فَأَرَدْتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك! فدعا له رسول الله بخير [ابن هشام 1/ 626].

وفي هذا الموقف؛ نرى - أيضًا - عظَمَ أهمية التنظيم، وتنسيق الصفوف، وتقسيم الكتائب، وتأمير الأمراء، فلا نجاح لتنظيم دون تنظيم، ولا فلاح لجماعة فوضوية!

"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ " [الصف:4]

وفي هذا الموقف، نرى - أيضًا - أهمية الطاعة، والالتزام بتعليمات القادة، وتنبيهات أولي الأمر من المسلمين، فلا قيادة إلا بطاعة، ولا بيعة إلا بطاعة، ولا قوام لجيش لا يطيع أميره، ويعصي الله ورسوله، فعن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي " [البخاري: 6604].

تاسعاً: دعاء القائد لجنده:

لما عَدّلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الصّفُوفَ وَرَجَعَ إلَى مقر القيادة، فَدَخَلَهُ وَمَعَهُ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، إذا بَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يُنَاشِدُ رَبّهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ النّصْرِ وَيَقُولُ فِيمَا يَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي .. اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي .. اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإسلام لا تُعْبَدْ فِي الأرْضِ!! " [مسلم (3309)]

وبالغ في الابتهال، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ! كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ" ... ثُمّ انْتَبَهَ فَقَالَ " أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ! أَتَاك نَصْرُ اللّهِ! هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسٍ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النّقْعُ" [السهيلي 3/ 68]

وكان من دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم - ما ذكره علي بن أبي طالب، حيث قال: "لما كان يوم بدر قاتلتُ شيئًا من قتال، ثم جئتُ مسرعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -لأنظر ما فعل، فإذا هو ساجد يقول: " يا حي يا قيوم "، لا يزيد عليهما، ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك، ثم ذهبت إلى القتال. ثم رجعت وهو ساجد يقول ذلك. " [الصالحي 4/ 37].

و نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين، وقام أبو بكر عن يمينه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في صلاته: " اللهم لا تودع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم أنشدك ما وعدتني " [الصالحي 4/ 38]

وكان من دعائه كذلك لجنوده: " اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم " [أبو داود: (2747)، وحسنه الألباني]. قال عبد الله بن عمرو: ففتح الله له يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين واكتسوا وشبعوا.

فالقائد كالأب يحنو على أولاده، كالظليم يظلل على أفراخه، يرفع يديه ضارعًا، خاشعًا، داعيًا، بأدعية خاشعة تستنزل لجند الله الرحمات والبركات. يستغفر لهم، يصلي عليهم، يدعو لهم، فالقائد ليس كالترس القائد - في صندوق التروس - لا حس فيه ولا حراك، ولا شعور فيه ولا إحساس، يقود تروسه بشكل ميكانيكي جامد جاف، بل القائد روح بين جنوده تحييهم، ورباط وثيق يجمعهم، وهو القلب الكبير وهم أعضائه، وهو الأصل الأصيل وهم فروعه وأفنانه، وهو أرحم الناس بهم."وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ " [التوبة:103].

وأخيرًا ..

العلاقة بين القائد وجنده، والنقيب وإخوانه، علاقةٌُ أساسها الإيمان، وعمادها الإخوة، وأركانها الشورى والطاعة والمشاركة والثقة.

بقلم: محمد مسعد ياقوت.
بتصرف يسير!

 

 
قيم حضارية في غزوة بدر!
 

كثيرة هي تلك القيم الحضارية التي ظهرت في غزوة بدر [الجمعة 17 رمضان 2هـ - 13مارس624م] كأحداث رئيسية في هذه المعركة .. تلك المعركة التي لم تكن في حسبان جيش المسلمين الذين خرجوا لمطاردة ثفقة تجارية لقريش قادمة من الشام يقودها أبو سفيان بن حرب، كمحاولة جديدة لاسترداد بعض أموال المسلمين التي صادرتها قريش!

ولكن قضى الله أمرًا غير الذي أراده المسلمون، فقد استطاع أبو سفيان أن يفلت بالقافلة، بعدما أرسل الى مكة من يخبر قريشاً بالخبر غير الذي أراده المسلمون، فغضب المشركون في مكة، فتجهزوا سراعاً، وخرجوا في ألف مقاتل .. أما أبو سفيان فقد أرسل إلى قيادات مكة، من يخبرهم بأن القافلة قد نجت، وأنه لا داعي للقتال، وحينئذ رفض أبو جهل إلا المواجهة العسكرية ..

وفيما يلي نقف - سريعًا - على بعض القيم الحضارية المستفادة من هذه الغزوة:

المطلب الأول: لا نستعين بمشرك على مشرك:

لما خرج رسول الله r ، إلى بدر، أدركه خبيب بن إساف، وكان ذا بأس ونجدة ولم يكن أسلم، ولكنه خرج منجدًا لقومه من الخزرج طالبًا للغنيمة، وكانت تُذكر منه جرأة وشجاعة، ففرح أصحاب النبي r حين رأوه، فلما أدركه قال: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له النبي r" أتؤمن بالله ورسوله؟ " قال: لا، قال: "فارجع فلن نستعين بمشرك" " فلم يزل خبيب يلح على النبي، والنبي يرفض، حتى أسلم خبيب، فَسُرّ رَسُولُ اللّهِ r بِذَلِكَ، وَقَالَ: " انطلق" ..

وعلى النقيض من هذا الموقف، جاء أبو قَيْسُ بْنُ مُحَرّثٍ، يطلب القتال مع المسلمين وقد كان مشركًا، فلما رفض الإسلام، رده رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَعَ الرجل إلَى المدينة، وأسلم بعد ذلك.

نرى القائد الإسلامي في هذا الموقف، يرفض أشد الرفض أن يستعين بمشرك على قتال مشرك، وأقل ما نُعَنون به هذا الموقف الحضاري المتكرر في السيرة الغراء، هو عنوان الحرب الشريفة النظيفة، التي تكون من أجل العقائد والمثل، لا من أجل القهر والظفر بالمغانم .. ففي هذا الموقف دلالة على أن الحرب في الإسلام لا تكون إلا من أجل العقيدة، فلا يصح إذن - إذا كنا نقاتل من أجل العقيدة - أن نستعين بأعداء هذه العقيدة في الحرب ..

وتخيل معي شعور الجيش المشرك، عندما تأتيه أنباء رفض القائد الإسلامي الاستعانة عليهم بغير المسلمين .. بيد أن الحروب الجاهلية في الماضي والحاضر يستعين فيها الخصم على خصمه بشتى الملل والنحل، الصالحة والطالحة، المهم أن يظفر الخصم بخصمه، فينهب ويسلب ويغدر .. دون الالتفات إلى قيم أو مثل!

أما القيادة الإسلامية الكريمة ترسخ هذا الأصل الأصيل في أخلاقيات الحروب، بحيث تُظهر عقيدتها السمحة، وتستميل نفوس الجنود الذين جاءوا لحرب المسلمين، ناهيك عن البعد الإعلامي، الذي يسحب القائد الإسلامي بساطه من تحت خصمه، الذي جاء بطرًا ورئاء الناس، فيظهر الخصم المشرك أمام الرأي العام العالمي والإقليمي بمظهر المتعجرف .. أما الجيش الإسلامي فيظهر بمظهر جيش الخير، الذي يحترم العقيدة، إلى الدرجة التي يرفض فيها أن يستعين في قتاله بمن يخالف عقيدته!

المطلب الثاني: مشاركة القائد جنوده في الصعاب:

عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير، فكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فكانت إذا جاءت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: نحن نمشي عنك قال: " ما أنتما بأقوى مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما "

فالقائد الصالح هو من يشارك جنوده الصعاب، ويحفزهم على القليل والكثير من الصالحات، ليكون قدوة طيبة أخلاقية لجنوده في المنشط والمكره، وليس القائد بالذي يتخلف عن جيشه رهبًا من الموقف أو يتلذذ بصنوف النعيم الدنيوي وجنده يكابد الحر والقر.

المطلب الثالث: الشورى:

ففي وداي ذَفِرَانَ بلغ النبي نجاة القافلة وتأكد من حتمية المواجهة العسكرية مع العدو .. فاستشار الناس ووضعهم أمام الوضع الراهن إما ملاقاة العدو وإما الهروب إلى المدينة .. فقال لجنوده: " أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاسُ"، ولا زال يكررها عليهم، فيقوم الواحد تلو الآخر ويدلو بدلوه، فقام أبو بكر فقال وأحسن. ثم قام عمر فقال وأحسن. ثم قام الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فقال وأحسن .. حتى قام القيادي الإنصاري البارز سعد بن معاذ، فحسم نتيجة الشورى لصالح الحل العسكري.

فهذا هو المجتمع الإسلامي، الذي يعتبر الشورى ركنًا من أركانه، وأصلاً في بنيانه .. في أيام كانت أوربا تحت حكم وراثي كنسي مستبد، يقيد الجنود بالسلاسل - في المعارك - حتى لا يفروا. لا قيمة عندهم لرأي، ولا وزن - في تصوراتهم - لفكر!

المطلب الرابع: النهي عن استجلاب المعلومات بالعنف:

وهذا مظهر آخر من المظاهر الحضارية في السيرة، فقد حذر رسولنا صلى الله عليه وسلم من انتزاع المعلومات بالقوة من الناس، ففي ليلة المعركة بَعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم   عَلِيّ بْنَ أَبِي طالب فِي مفرزة إلَى مَاءِ بَدْرٍ في مهمة استخباراتية لجمع المعلومات، فوجدوا غلامين يستقيان للمشركين، فأَتَوْا بِهِمَا فَسَأَلُوهُمَا، وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلّي، فقالا: نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ. فطفق الصحابة يضربوهما، حتى اضطر الغلامان لتغيير أقوالهما. فلما أتم رسول الله صلاته؛ قال لهما مستنكرًا: "والذي نفسي بيده إنكم لتضربونهما إذا صدقا و تتركونهما إذا كذبا .. إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا؟!، صَدَقَا، وَاَللّهِ إنّهُمَا لِقُرَيْشِ".

هكذا كانت معاملة القيادة الإسلامية لمن وقع في قبض المخابرات الإسلامية للاستجواب، فنهى القائد عن تعذيب المستجوَب، أو انتزاع المعلومات منه بالقوة، فسبق اتفاقية جينيف الثالثة لعام 1949 التي تحظر إجبار الأسير على الإدلاء بمعلومات سوى معلومات تتيح التعرف عليه مثل اسمه وتاريخ ميلاده ورتبته العسكرية،، وجرّم رسول الله كل أعمال التعذيب أو الإيذاء أوالضغط النفسي والجسدي التي تمارس على الأسير ليفصح عن معلومات حربية.

وثمة تقدم إسلامي على هذه الاتفاقات الأخيرة، فرسول الله قد طبق هذه التعاليم التي تحترم حقوق الأسير، بيد أن دول الغرب في العصر الحديث لم تعير اهتمامًا لهذه الاتفاقات ولم تحترمها، والدليل على ذلك ما يفعله الجنود الأمريكيون في الشعب العراقي والأفغاني .. وما يفعله الصهاينة في الشعب الفلسطيني.

المطلب الخامس: احترام آراء الجنود:

فلما تحرك رسول الله إلى موقع المعركة، نزل بالجيش عند أدنى بئر من آبار بدر من الجيش الإسلامي، وهنا قام الْحُبَاب بْنَ الْمُنْذِرِ وأشار على النبي بموقع آخر أفضل من هذا الموقع، وهو عند أقرب ماء من العدو، فَقَالَ له رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم - مشجعًا -:" لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ".وبادر النبي بتنفيذ ما أشار به الحباب، ولم يستبد برأيه رغم أنه القائد الأعلى، وعليه ينزل الوحي من السماء!

إن هذه المواقف لتبين كيف تكون العلاقة بين القائد وجنوده، إنها علاقة تحترم الآراء الناضجة وتشجع الأفكار الصاعدة.

المطلب السادس: العدل بين القائد والجندي:

قلما نرى في تاريخ الحروب صورة تعبر عن العدل بيت القادة والجنود، فالتاريخ الإنساني حافل بصور استبداد القادة العسكريين وظلمهم للجنود .. أما محمد فنراه في أرض المعركة يقف أمام جندي من جنوده ليّقتص الجندي منه .. أما الجندي فهو ِسَوَادِ بْنِ غَزِيّةَ، لما اسْتَنْتِل من الصف، غمزه النبي غمزة خفيفة في بَطْنِهِ - بالسهم الذي لا نصل له - وقال: " اسْتَوِ يَا سَوّادُ! " .. قال: يا رسول الله! أوجعتني! وقد بعثك الله بالحق والعدل؛ فَأَقِدْنِي! فكشف رسول اللّهِ r عَنْ بَطْنِهِ، وَقَالَ: " اسْتَقِدْ" .. فَاعْتَنَقَهُ فَقَبّلَ بَطْنَهُ! فَقَالَ النبي r : " مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا يَا سَوّادُ؟ "، قال: حضر ما ترى، فَأَرَدْتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك! فدعا له رسول الله بخير

المطلب السابع: الحوار قبل الصدام:

أراد النبي أن يستنفذ كل وسائل الصلح والسلام قبل أن يخوض المعركة، فما أُرسل إلا رحمة للعالمين، فأراد أن يبادر بمبادرة للسلام ليرجع الجيشان إلى ديارهما، فتُحقن الدماء، أو ليقيم الحجة على المشركين، فلما نَزَلَ الجيش الوثني أرض بدر أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ إلَى قُرَيْشٍ، وقد كان سفيرهم في الجاهلية، فنصحهم عمر بالرجوع إلى ديارهم حقنًا للدماء .. فتلقفها حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أحد عقلاء المشركين، فقال: قد عَرَضَ نِصْفًا، فَاقْبَلُوهُ، والله لا تُنْصَرُونَ عليه بعد ما عرض من النّصْفِ. فقال أبو جهل: والله لا نرجع بعد أن أمكننا الله منهم. فانظر حرص الرسول على حقن الدماء وحرص أبي جهل على سفك الدماء، وانظر إلى هذه القيمة الحضارية التي يسجلها نبي الرحمة في هذه المعركة: الحوار قبل الصدام.

المطلب الثامن: الوفاء مع المشركين:

فقد قال النَّبِي في أُسَارَى بدر: " لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ"!!

وذلك لأن المطعم قد أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في جواره فور رجوعه من الطائف إلى مكة، وفي الوقت الذي تخلى فيه الناس عن حماية النبي خوفًا من بطش أبي جهل، قال المطعم: "يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم " .. وقد حفظ النبي r للمطعم هذا الصنيع وهذه الشهامة.

وقال النّبِيّ r في هذا اليوم أيضًا: "مَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيّ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ ابْنِ أَسَدٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَلَا يَقْتُلْهُ، فَإِنّهُ إنّمَا أُخْرِجَ مُسْتَكْرَهًا." وقد كان العباس في مكة بمثابة قلم المخابرات للدولة الإسلامية، وقد كان مسلمًا يكتم إيمانه .. أما أبو الْبَخْتَرِيّ فقد كان أكف المشركين عن المسلمين، بل ساند المسلمين في محنتهم أيام اعتقالهم في الشِعب، وكان ممن سعى في نقض صحيفة المقاطعة الظالمة، ومن ثم كانت له يد على المسلمين، فأرد النبي يوم بدر أن يكرمه. فالقيادة الإسلامية تحفظ الجميل لإصحاب الشهامة وإن كانوا من فسطاط المشركين.

المطلب التاسع: حفظ العهود:

قال حذيفة بن اليمان: ما منعنا أن نشهد بدرًا إلا أني وأبي أقبلنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده إنما نريد المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لتصيرن إلى المدينة ولا تقاتلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم ، لما جاوزناهم أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم  فذكرنا له ما قالوا وما قلنا لهم فيما ترى؟ قال: "نستعين الله عليهم ونفي بعهدهم"!!.

وهذا الموقف من رسول الله يعد من مفاخر أخلاقيات الحروب في تاريخ الإنسانية، فلم ير المؤرخون في تاريخ الحروب قاطبة موقفًا يناظر هذا الموقف المبهر، ذلك الموقف الذي نرى فيه القيادة الإسلامية تحترم العهود والعقود لأقصى درجة، حتى العهود التي أخذها المشركون على ضعفاء المسلمين أيام الاضهاد، رغم ما يعلو هذه العقود من شبه الإكراه.

المطلب العاشر: النهي عن المثلة بالأسير:

لما أُسر سهيل بن عمرو أحد صناديد مكة فيمن أُسر، قال عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِرَسُولِ اللّهِ r: يَا رَسُولَ اللّهِ، دَعْنِي أَنْزِعْ ثَنِيّتَيْ سهيل بن عمرو، وَيَدْلَعُ لِسَانَهُ فلا يقوم عليك خطيبًا في موطن أبدًا! وقد كان خطيبًا مفوهًا، يهجو الإسلام. فقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم - في سماحة وسمو -: " لا أُمَثّلُ بِهِ، فَيُمَثّلُ اللّهُ بِي وَإِنْ كُنْتُ نَبِيّا!! ". فلم يمثل به كما يمثل الهمجيون في قتلى وأسرى الجيش المهزوم، وسن بذلك سنة حسنة في الحروب، ويبقى له الفضل والسبق في تحريم إهانة الأسرى أو إيذائهم.

هكذا كان نبي الرحمة في ميدان القتال، لا يستعين بمشرك على مشرك، يشارك جنوده، ويستشيرهم، ويعدل بينهم، ويحترم آرائهم، ويحاور أعدائه، ويكون وفيًا كريمًا لأهل الفضل منهم، ويكرم االأسرى، وينهى عن إيذائهم

 

 
لا نقول: أين نصر الله؟ بل أين المسلمون؟
 

في غزوة بدرٍ درس في نصر الله تعالى لأوليائه. حيث استجاب الله دعاء رسوله وأصحابه، ونصر حزبه، وأنجز وعده، مع وجود الفارق في العدد والعدة.

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ)، لقد أراد الله سبحانه أن يعرف المسلمون على مدى التاريخ أن النصر سنةٌ من سنن الله، وهو سبحانه إنما ينصر من ينصره، فليس النصر بالعدد والعدة فقط، وإنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله (وما النصر إلا من عند الله).

ونحن اليوم قبل أن نقول: أين نصر الله؟ نقول: أين المسلمون؟
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونَ
وآلَمني وآلم كلَّ حر سؤال الدهر: أين المسلمونَ؟

أين المسلمون، واليهود يدنسون المسجد الأقصى وينتهكون الحرمات في الأرض المباركة؟! أين المسلمون وديار الإسلام تضيع الواحدة تلو الأخرى؟!.

لقد أصبح المسلمون اليوم مع كثرتهم غثاءً كغثاء السيل، كما أخبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإذا أراد المسلمون نصر الله فلينصروا الله بالتمسك بدينه أولاً، ثم بالأخذ بأسباب النصر من قوةٍ وعُدة، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

يا قدس مهما الليل طال *** فلن يدوم الاحتلال
الكفر ولّى لن يعود *** ولست في هذا مغال
الفجر آت لا محال *** والظلام إلى زوال
لاحت تباشير الصباح *** وجاء دورك يا بلالف
 
 

كيف انتصر المسلمون في غزوة بدرٍ الكبرى؟

 

 (هذا الدين منهجٌ كامل)

هذا الدين العظيم الذي كان سبب فتوحات المسلمين، هذا الدين العظيم الذي نقل المسلمين من رعاة للغنم إلى قادة للأمم، منهج كامل تفصيلي، لا أدري كيف مُسخ هذا الدينُ في آخر الزمان إلى عبادات شعائرية تؤدَّى أداء أجوف ليس غير، من منا يظن أن الدين ينتهي إذا أُديت الصلوات الخمس؟ وصمت رمضان، وحججت بيت الله الحرام، ولم يكن استقامة لا في حديث ولا في تعامل ولم يكن هناك جهاد لا في نفس ولا في دعوة ولا في قتال، كيف أن هذا الدين أصبح عبادات شعائرية، مع أن العبادات الشعائرية في الدين هي معللة بمصالح الخلق أولاً، وعبادات معللة بسعادة الإنسان ثانياً.

(الأمر يقتضي الوجوب، ما لم تكن قرينة على خلاف ذلك)

 النقطة الدقيقة: أن كل ما في القرآن الكريم من أمر يقتضي الوجوبَ، ما لم تكن قرينة على خلاف ذلك، حينما قال الله عز وجل:

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ (سورة الأنفال)

 هذا أمر إلهي، نحن لماذا نصلي ؟ لأن الصلاة فرض، وهذا واجب على كل مسلم، وهذا أيضاً يجب أن يعد لعدوه ما ينتصر به على عدوه، لكن الإعداد واسع جداً.

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ (كيف يُعدُّ كلُّ مسلمٍ صادقٍ العُدّة لأعدائه؟)

 حينما يحتل الإنسان موقعاً في الحياة، ويتقن عمله ويوظف هذا الموقع لخدمة المسلمين، هو قد أعد للعدو عدة، فهذه الانتصارات الحاسمة التي كانت عبر التاريخ، لم تكن وليدة صدفة، ولا وليدة عشية أو ضحاها، بل وليدة إعداد نفسي وسلوكي كبير، ونحن نكون سذّج حينما نطمح أن ننتصر على عدو قوي متغطرس ماكر مخادع بأسباب بسيطة تافهة، لابد من أن نعد للأعداء قوة.

 النقطة التي ينبغي أن تكون واضحة عند كل الإخوة المواطنين هو أن النصر هو أمنية كل مسلم و عربي ‍! النصر الذي تتوق أنفسنا إليه له شرطان أساسيان، كل من هذين الشرطين لازم غير كاف.

التعامل مع الله عز وجل تعامل وفق قواعد، ليس هناك تعامل مزاجي، هذا دين عظيم من عند خالق الأكوان، كل قوانين الأرض قننها الله عز وجل، ودينه في قوانين، قضية أن ننتصر بدعاء أجوف، أو ننتصر بمعجزة إلهية تأتينا ونحن لم نفعل شيئاً هذا مستحيل، لابد من تحقيق أسباب النصر ! من خلال القرآن الكريم، ومن خلال السنة الصحيحة، يتضح لنا أن أول أسباب النصر هو الإيمان بالله اليقيني، أنه لا ناصر إلا الله، وأن النصر بيد الله ومن عنده، والله وحده هو الذي يقرر من المنتصر، لقوله تعالى:

﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ﴾ (سورة الأنفال)

﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ (سورة آل عمران)

(معيار الإيمان: أن يحملك على طاعة الله)

 أما حينما نعتقد أو نتوهم أن النصر من عند زيد أو عبيد، إن كنت مع هذه القوة الطاغية تنتصر، إن كنت على وئام مع هذه القوة القوية تنتصر، إن عقدت معاهدة مع هذه القوة تنتصر، حينما نبحث عن أقوياء في الأرض وننسى خالق السماوات والأرض لا يمكن أن ننتصر، لأننا أشركنا بالله عز وجل، إن الله لا يغفر أن يشرك به، حينما أؤمن أن الله مستحيل وألف ألف مستحيل أن يسلمنا لأعدائنا لأن الله عز وجل بيده كل شيء.

﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ (سورة هود)

 حينما أؤمن الإيمان الذي يحملني على طاعة الله، والإيمان الذي لا يحملني على طاعة الله إيمان لا ينجي، بل إن إبليس مؤمن بهذا المقياس.

كل من اعتقد أن الله خلق السماوات والأرض يتوهم أنه مؤمن إبليس، قال: ربي فبعزتك آمن به رباً وآمن به عزيزاً وقال: خلقتني آمن به خالقاً وقال أنظرني إلى يوم يبعثون ومع ذلك هو إبليس وهو لعنه الله عز وجل واستحق جهنم لأبد الآبدين، فأن أؤمن فقط أن الله خلق السماوات والأرض دون أن أتحرك ودون أن يحملني إيماني على طاعته والتوكل عليه والاستقامة على أمره، هذا إيمان لا يقدم ولا يؤخر، لابد من الإيمان المقبول عند الله، فهو الإيمان الذي يحملني على طاعته.

 فالإيمان شرط لازم غير كاف، لابد من إعداد العدة.

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ﴾
(إلى أيِّ مدىً يكونُ إعداد العُدّة؟)

 وقد يقول قائل: هناك فرق كبير بين إمكانات المسلم الآن، وبين إمكانات الطرف الآخر، نقول: لست مكلفاً أن تعد القوة المكافئة، بل أن تعد القوة المتاحة، حينما تؤمن الإيمان الذي يحملك على طاعة الله، وحينما تعد العدة المتاحة أنت حققت أسباب النصر.

﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾ (سورة الروم)

﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)﴾ (سورة النساء)

 إذا كان لهم علينا ألف سبيل وسبيل، ففي إيماننا خلل.

﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)﴾ (سورة الصافات)

 آيات كثيرة تعد المؤمنين بالنصر.

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ (سورة النور)

 فالإيمان شرط لازم غير كاف، والإعداد شرط لازم غير كاف، يجب أن نعد لأعدائنا كل ما نستطيع من قوة مادية وبشرية وعتاد وعدة ومعلومات وتفوق علمي، إن أردنا النصر فله ثمن ليس باليسير، أما أن نتمنى على الله الأماني ونحن قاعدون، أو ننتظر من الله أن يحدث معجزة ونحن لا يمكن أن نغير شيئاً في حياتنا وعلاقاتنا وكسب أموالنا وإنفاق أموالنا هذا نوع من التمنيات التي لا يتعامل الله معها أبداً.

 " ليس بأمانيكم ولا بأماني أهل الكتاب، من يعمل سوء يجزى به"

فنحن نتعامل مع الله بقوانين، وحينما تركنا من منهج الله بعض الأوامر والنواهي، وعطلنا بعض الأوامر الإلهية، دفعنا الثمن الباهظ، أنا باعتقادي أنه مرت سنون وسنون وعشرات السنين ونحن نعطل بعض الأورام الدينية فالنتيجة أننا دفعنا الآن الثمن الباهظ، أما لو أننا طبقنا منهج الله كله.

 منهج الله كل لا يتجزأ، لا يمكن أن نقطف ثمار الدين إلا إذا أخذناه كله!

(خطورة المنهج الانتقائي في التعامل مع الدين)

أما الشيء الخطير الآن أن الإنسان ينتقي، يوجد مذهب اسمه انتقائي، أنا آخذ من الدين ما هو مريح وما يعجبني وأدع مالا يعجبني، فحينما آخذ بعض الأمر، وأدع بعضه الآخر أنا عندئذ لا أستحق النصر، وقد نهى الله على بني إسرائيل أنهم يؤمنون ببعض الكاب ويكفرون ببعض، ونحن نأخذ ما يعجبنا وندع مالا يعجبنا ‍! هذا ليس هو الدين، أن تنتقي مالا يعجبك وتترك مالا يعجبك، لابد من أن نأخذ الدين كله كمنهج، ومن أبرز مناهج الدين الجهاد في سبيل الله والإنسان إن لم يجاهد ولم يحدث نفسه بالجهاد مات على ثلمة من النفاق.

 

 

غزوة بدرٍ الكبرى وثورات الشباب في العالم العربي!

 

يروي بعض الناس عن رسول الله صلًَّى الله عليه وسلَّم: (نصرت بالشباب)، وإن كان هنالك من إشارة لذوي الخبرة والجدارة، فإني أنبِّه على أنَّ هذا الحديث موضوع لا أصل له عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلا يصح روايته عن رسول الله إلا تنبيهاً على أنَّه موضوع مكذوب عليه الصلاة والسلام.

إلاَّ أنَّ معناه صحيح، فلقد كان أول مَن ناصر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الشباب، وكان معهم كذلك بعض الغلمان الصغار، وكان منهم العشرة المبشرون بالجنة، مثل: أبي بكر الصديق أسلم وكان عمره (38) عاماً، وعلي بن أبي طالب وكان عمره (10) سنين، والزبير بن العوام وكان عمره(8) سنوات، وعمر بن الخطَّاب وكان عمره(26) عاماً، وسعد بن أبي وقاص وكان عمره (17) عاماً، وطلحة بن عبيد الله وعمره (17) عامًا، وعبد الرحمن بن عوف وكان عمره (30)عاماً، وأبو عبيدة عامر بن الجرَّاح وكان عمره (32) عامًا، وكل هؤلاء من العشرة المبشرين بالجنَّة وكانوا جميعاً شبابا، فهنيئاً لهم ولشبابهم ولصباهم.

ثم مَن ينسى مَن كان مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مساندته بهجرته من مكَّة إلى المدينة إلاَّ الشباب ونحن نستذكر تلك الأسماء العظيمة (علي بن أبي طالب، أسماء بنت أبي بكر، عبد الله بن أبي بكر)؟

ومن الذي استقبل رسول الله في المدينة وكانوا أشدَّ المحتفين به سوى الشباب؟

ومن نصر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في معركة بدر إلاَّ الشباب؟

وهل ننسى أسامة بن زيد حيث استخلفه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على قيادة جيش كان فيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، إلاَّ أحد الشباب وكان عمره دون العشرين؟!

أليس هذا كلَّه يُعبِّر عن مدى نصرة الشباب للدعوة الإسلامية، واحتفاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بهم ورضاه عنهم.

وهكذا في جميع الحروب والمعارك التي خاضها الإسلام مع دعاة الكفر والضلال، والزندقة والردة، ما كان مَن حارب فيه إلاَّ شباباً، ولا ننسى موقف محمد بن القاسم بن محمد الذي قاد الجيوش لفتح بلاد الهند والسند، حتَّى قال الشاعر فيه:

إنَّ السماحة والمروءة والندى * لمحمد بن القاسم بن محمد

قاد الجيوش لسبع عشرة حجَّة * يا قرب ذلك سؤدداً من مولد

فغدت بهم أهواؤهم وسـمت به * همم الملوك وسورة الأبطال

إنَّ الخيرية في الأمَّة معدنها الأساس في الشباب، والفضل في الأمَّة والإصلاح والبناء لن يتم إلاَّ بسواعد الشباب، وهممهم ونشاطهم وجدهم واجتهادهم، ولماذا نبعد عن تراث سلفنا الصالح الذي أولى الشباب أهميَّة عظمى، فهذا الإمام محمد بن شهاب الزهري يقول: "لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان، واستشارهم يبتغي حدة عقولهم".

ومَن منَّا لا يعرف الصحابي الجليل ابن عبَّاس، الذي كان شاباً ودعا له الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يفقّهه الله في الدين، وأن يعلمه التأويل، وتوفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، ثمَّ جد واجتهد في طلب العلم فصار عالماً من كبار العلماء، وحينما كان في العشرينيات من عمره كان يجمعه عمر بن الخطَّاب مع كبار مستشاريه من الصحابة، ولربما سأله أحدهم عن سبب جمع ابن عبَّاس معهم مع أنَّهم من شيوخ الصحابة، وكثير منهم حضر معركة بدر؟! فيقول رضي الله عنهم: (ذاكم فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول) هذا الصحابي الجليل والمفسر العبقري ابن عباس الذي تربَّى في مدرسة النبوَّة يقول: " ما آتى الله عز وجل عبدا علما إلا شابا، والخير كله في الشباب"، ثمَّ استدلَّ على كلامه بما في كتاب الله حيث تلا قوله عز وجل: { قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }، وقوله تعالى: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }، وقوله تعالى: { وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا }.

وهكذا كانت حفصة بنت سيرين ترشد الشباب وتقول لهم: "يا معشر الشباب اعملوا، فإنما العمل في الشباب"، وقال الأحنف بن قيس: "السؤدد مع السواد". (أي: مَن لم يسد في شبابه لم يسد في شيخوخته).

خبّاب الحمد! موقع المسلم!

بعد معاناة من الظلم والقهر والتشريد والتغريب والتشويه وضياع الحقوق ومصادرة المستقبل والمحاولات الشريرة المستميتة لزرع اليأس في النفوس والتسليم الكامل لأهل الطغيان في تصريف الأمور وبعد استفحال قوة الشر، وبعد أن ظنوا أنهم قادرون على أن يستمر قهرهم لأمتهم. قيض الله لهذه الأمة شبابًا وأسبابًا وأقدارًا وجنودًا لا يعلمها إلا هو، ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ (المدثر: من الآية 31)، فانقهر الطغاة وزالت دولة الظلم وافتضحت خبايا الفساد واستعاد الناس دولتهم المخطوفة وإمكاناتهم المسلوبة، وأصبح الناس أمام أنفال متعددة مادية ومعنوية، وانطلقت الحريات لتفجر إبداعات وقدرات وطاقات يتصور الجميع أن حمايتها، وصيانتها وتعهدها هو واجب الوقت حتى يظل العطاء يغذي التنمية والنهوض بهذه الأمة حتى تتعافى من آثار ما عانته سنين طوال. ومن السيرة النبوية عظة ودروس.

فبعد معركة بدر نزلت سورة الأنفال، ويقول عنها عبادة ابن الصامت رضي الله عنه ".. ساءت أخلاقنا في الأنفال فنزلت..." يعني السورة. فعندما اختلف الصحابة على الأنفال بعد الغزوة، وقال الشباب نحن أصحاب الجهد الأكبر والقوة التي أدَّت... إلخ، وقال المهاجرون نحن أصحاب السبق، وقال الأنصار نحن الذين آوينا ونصرنا... وكل يطالب بمكاسب ونصيب أكبر من الأنفال.. كما يرى بعض شبابنا اليوم أن لهم الفضل والسبق والبذل.. و.. و.. و.. إلخ والجميع مُحقُّون فيما يقولون وما يتصورون بعد هذا الأداء الرائع وهذا النصر الذي منَّ به الله علينا..... ولكن...!!! ولكن لا ننسى آيات نزلت نعبد الله بتلاوتها ونتدبرها ونتعلم منها وتتعلم البشرية إلى يوم الدين، ونحفظ قوله تعالى ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)﴾ (آل عمران). فمهما توافرت الأسباب بكل قوتها، ومنها أن تنزل الملائكة لتقاتل مع البدريين فما هي إلا بشرى ولتطمئن القلوب وما النصر إلا من عند الله بعزته وبكيفية وتوقيت وملابسات تأتي على حكمة الله ومراده سبحانه.

وبنظرة إلى الآيات ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1)﴾ (الأنفال)، فإذا كان الخطاب موجهًا للبدريين فهو يشمل الأمة كلها- وفي الحديث "... لعل الله اطلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم"- وأين نحن منهم وتطالبهم الآية بـ: 1- اتقوا الله. 2- وأصلحوا ذات بينكم.

3- وأطيعوا الله ورسوله وبرد استجابتهم لهذه الأوامر إلى إيمانهم ويستحثُهم ويستنهض حفيظتهم بـ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾. فتقوى الله في هذا الموقف تفرض عليهم إصلاح ذات البين طاعة لله ورسوله.

ولا يخفى أهمية إصلاح ذات البين فبها تصطف الجماعة وتصطف الأمَة كالبنيان المرصوص وتنعم بسلامة الصدر ويقوي بعضها بعضًا.

قد وصف النبي صلى الله عليه وسلم فساد ذات البين بأنها الحالقة التي تحلق الدين، وترد الآية هذه الأعمال إلى شرط توفر الإيمان ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، وتبين الآيات من هم المؤمنون ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)﴾ (الأنفال) فقدمت الآيات الأعمال القلبية في صفات المؤمنين قبل إقامة الصلاة والإنفاق. فإصلاح القلوب حتى توجل عند ذكر الله ويزداد إيمانها كلما تليت آيات الله فهو الذي عليه توكلهم... فالله هو الغاية... شعارك (الله غايتنا)، وتأتي أعمال الجوارح بإقامة الصلاة والإنفاق والتربية السلوكية التي تحقق للقلب غايته.

تنطلق الآيات تربي الأمة على ضوابط العمل والتأكيد على أن العمل لله لا ضامن له إلا الله العزيز السميع العليم، وأن الله يوهن كيد أعدائه وأن منهج الله هو الحياة وأن من يتق الله يجعل له فرقانًا، وأن... وأن.... وأن.... دروس تربوية إيمانية وسلوكية تمتد عبر أربعين آية من السورة العظيمة قبل أن تتحدث في آية واحدة عن كيفية تقسيم الغنائم ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)﴾ (الأنفال)، في آية واحدة من مسيرة الآيات التي تستمر لتضع منهج حياة الأمة وميثاقها في السلم والحرب في جوانب متعددة. ويظل إخلاص العمل لله ونشر دعوته وإعلاء كلمته والحفاظ على ولاية المؤمنين بعضهم لبعض، وبتأكيد على أن هذا الأمر يعمل به الكافرون ﴿وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)﴾ (الأنفال).

فيا شباب 25 يناير كونوا شباب الأنفال الذين تربوا على دستورهم الذي سطرته آيات الرحمن، والله ناصركم ما دمتم بحبله مستمسكين.

 

إن ما يقوم به الشباب العربي الثائر هو الدين نفسه وليس من الفتنة في شيء، لافتا إلى أن "السلفية المتعصبة" والصوفية اتفقتا على تسفيه الثورات العربية عبر الترويج لما سماها "ثقافة سامة تربط الفتنة بالخروج على الحكام".

و "علاقة الحاكم بالمحكوم في ظل متطلبات الشرع والعصر"، أن الاسلام يأمر بمجاهدة الظالمين وإزالة "الظلم الذي يمارسه الحكام في أبشع صفاته".

 
 

وكثير ممّن ينتمون لمنهج السلف يجهلونه ولذلك اختلفوا بينهم ، كلٌّ يزعم أن الصواب معه ، فحصلت بينهم صراعات مريرة ، بل وصل الأمر ببعضهم إلى التكفير لغيرهم أو التفسيق والتبديع نتيجة للجهل بمنهج السلف ، فلم يتبعوه بإحسان ، بينما فِرق أخرى من الحزبيين تُزهد بمنهج السلف ، وتتبع رموزاً من حركيين ومنظرين أبعدوهم عن منهج السلف ، فاعتنقوا أفكاراً غريبة عن منهج السلف ، وكلا الفريقين من هؤلاء وهؤلاء على طرفي نقيض وفي صراع مرير ، أفرحوا به أعداء الإسلام ، ولا ينجي من هذا الصراع والاختلاف بين صفوف شباب الأمة إلا الرجوع الصادق إلى الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة وأئمتها ، قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} ، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته ، وهذا لا يحصل ولا يتحقق إلا بتعلم العقيدة الصحيحة المأخوذة من الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها ، وهذا - ولله الحمد - مضمَّن في مناهج الدراسة وكتب العقيدة المقررة في مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا!

 
 

([1]) انظر: موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/291).

([2]) حيزوم: اسم الفرس الذي يركبه الملك.  
(3) خطم: الخطم: الأثر على الأنف
 
([4]) مسلم -الجهاد، باب الإمداد بالملائكة رقم (1763).
([5]) البخاري -المغازي، باب فضل من شهد بدرًا، رقم (3995).
([6]) الأجلح: الذي انحسر شعره على جانبي رأسه.     (6) الأبلق: ارتفع التحجيل إلى فخذيه.
 

([8]) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص247.  (8) نفس المصدر، ص247.

 
([10]) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/131، 132).
([11]) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/131، 132)
([12]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/145).