21 ذو القعدة 1432

السؤال

أنا دائمًا أسمع عن عدل الإله في الكتاب والسنة، وفي كل شيء يبدو لي صالحاً، لكن عندما أفكر فيه بعمق وأتأمل حال الكون أشعر وكأن العدل مجرد وهم، أو أنه ناقص أي لا يوجد عدل بكل ما تحمله الكلمة من معنى في هذا الوجود! أنا لا أحب أن أصدق ذلك ودائمًا أوهم نفسي أن الإله عادل لكني لم أستطع، أشعر أن ذلك غير صحيح ولا صحة له من الواقع، العالم والكون مليء بالأشياء التي تقنعني بذلك وبقوة.. سأذكر مثالاً بسيطاً من الواقع: هناك شابان، شاب محظوظ أي ذا نسب مميز، وغني، وتربى في أسرة صالحة وهيأت له تعليماً وتربية صالحة ومعافى من الأمراض وأمره كله خير، وشاب آخر غير محظوظ أي أسرته غير صالحة وغير مهتمة يعاني من المشاكل الأسرية والكثير من الأمراض العضوية والعقلية وأنواع أخرى من البلاء أي حياة متعبة وشقية، لنفترض أن الاثنين أدخلهما الله الجنة ذاتها أي الشاب المحظوظ دخل الجنة من أعماله الصالحة التي كانت بسبب تسهيل المولى له: الأسرة الصالحة والنسب الذي يؤهله لعيش أفضل واهتمام أكبر وربما ذكاء خاص ومواهب مميزة وغيرها من الأمور، والشاب الشقي دخل الجنة ذاتها لكن من كثرة الابتلاءات التي حلت في حياته والأمراض، ستقول لي إن الله يحب الذين ابتلاهم من غير سبب كأن يولد شخص بكثير من الأمراض والمشاكل بالرغم أنه لم يقترف أي سيئة، وأقول لك إن الشاب المحظوظ أيضًا سيحبه الله من أعماله وصلاحه الذي يسره له.. أيضًا ستقول لي إن ذلك الشاب لو لم يبتلِه الله سيصبح طاغياً وظالماً، وفي الأساس لو أصبح كذلك، الله هو من قدر كل شيء وقدر له هذه العقلية وهذه الروح قبل أن نولد بألف سنة وأن لا شيء يخرج عن إرادة الله ومشيئته، هذا ما قرأته من الأحاديث والتفاسير والكثير من الآيات تؤكد على ذلك: يؤتي فضله من يشاء.. يؤتي رزقه من يشاء.. يغفر لمن يشاء....
الآن بكل منطقية هل هذا يسمى عدلاً؟! كيف يسمى ذلك عدلاً!! أنا فعلاً عجزت عن تصديق ذلك! !!!..... أرجو أن تخاطبوني بالحجة والمنطق، فأنا سئمت من الطريقة البدائية الموجهة للأطفال البالغين والتي تعتمد على التسكيت بنصائح تغلفها الرقة بالألفاظ أو التخويف من العذاب لا الإقناع بكل عقلانية ومنطق، شكرًا.

أجاب عنها:
إبراهيم الأزرق

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فبادئ ذي بدء أنبه السائل الكريم، إلى أن شأن الله عظيم، فمن أشكل عليه شيء، فالواجب عليه أن يبحث عن الجواب في مظانه، وأن لا يترك لخاطره العنان، فإن عجز فليسأل من يُرجى أن يكون له بكشف الإشكال علم، وليكن سؤاله بألطف عبارة وأحسن تعبير خاصة إذا كان فيما يتعلق بشأن الله الجليل، فليتحر وليتوخ التعابير، وإذا كان من يريد كشف إشكال يتعلق بفعل عظيم من عظماء الدنيا ينظر إليه ويسمع كلامه فإنه يتحرى الألفاظ وينتقي ويتأدب ما استطاع، فشأن الله أجل وهو أولى بذلك، ومن فوق لحسن السؤال فقد وفق لنصف حل الإشكال.
وعوداً إلى موضوع السؤال فقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، وقال جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} [يونس: 44]، وقال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]، وقد أمر الله تعالى عباده بالعدل كما في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل: 90]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، وفي الحديث القدسي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربنا تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حراماً فلا تظالموا" [رواه مسلم]، وشريعة الله تعالى جاءت لتحقيق العدل بين العباد، والجور كل الجور بسبب تنكب أحكامها.
وأفعال الله تعالى دائرة بين العدل والفضل، وكل ذلك بحكمته، فكما نفى الظلم عن نفسه فقد أثبت الفضل له سبحانه على عباده فقال في ستة مواضع من القرآن: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105/ آل عمران: 74/الأنفال: 29/الحديد: 21، 29/الجمعة:4]، وقد قيد سبحانه فضله بمشيئته فقال: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 73]، وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4].
وبعد هذه المقدمة فالجواب على السؤال المطروح من طريقين أحدهما مجمل، والثاني مفصل.
أما المجمل: فبأن يقال إن كان السائل مسلِماً، بل لو كان السائل منتسباً لدين سماوي فعليه أن يقر بعدل الله، وأنه سبحانه لا يظلم أحداً، فبهذا جاءت سائر الكتب السماوية، فالمسلمون واليهود والنصارى مقرون بعدل الله، ينفون عنه الظلم، ثم لهم بعد ذلك في الجواب عن ما قد يرد من إشكالات مذاهب ثلاثة كبار أشير إليها في الجواب المفصل.
والمقصود أنه لايسع مسلماً يؤمن بالكتاب ويؤمن بما جاءت به السنة الصحيحة أن ينسب إلى الله الظلم، فإما أن يعلم حكمته في أقداره، ووجه كونها عدلاً وفضلاً، وإما أن يؤمن لما قام من دلائل الإيمان العقلية والنقلية بالله ورسوله فيعرض عن الوساوس، ويفوض علم ما أشكل عليه إلى الله، فيقول: لا يظلم ربنا أحداً، وهو العليم بحكمته في أفعاله، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
والمؤمن الحق لا تضره الوساوس العارضة، وذلك لأن عنده أصلاً عظيماً راسخاً وهو الإيمان الذي قامت براهينه في قلبه، فما عارضه مما يلقيه الشيطان على نفسه، يعرض عنه ويستعيذ بالله منه وينتهي فيسلم.
ويمكن أن يمثل لهذا بكثير من الأشياء التي يجزم بها الناس، ثم ترد عليها أمور لا تستقيم معها، فصاحب اليقين الراسخ يعرف أن لتلك الواردات أجوبة وإن جهلها، مثال ذلك:
اتصل بك أحد من تعرف صدقهم وانضباطهم وقال لك: أين أنت الآن؟
فقلتَ: أنا في المكتب.
فقال: خمس دقائق وأكون عندك!
انتظرتَ ساعة وما أتى فانصرفت.
اتصل بك اليوم الذي بعده فقال: أين ذهبت أمس؟
فقلتَ: انتظرتك ساعة ولم تأتِ فانصرفت!
قال: ولكني جئت كما أخبرتك بعد خمسة دقائق، وفتشت المكاتب غرفة غرفة وما وجدتك، ثم قطع الخط غاضباً؟!
فهنا هل تقول: ينبغي أن أشك في وجودي ذلك اليوم؟!
أم تقول: أنا قطعاً كنت موجوداً، ولا شك أن ثمة خلل عرض للأخ الصادق الجاد، كنحو أن يكون التبس عليه المحل ففتش بناية أخرى، أو يكون خاطبني خطأ ويظنني آخر، فكثيراً ما يسجل المرء اسما واحدا لاثنين وقد يحدث أن يخاطب هذا ويظن نفسه يخاطب الآخر..
قطعاً ستجزم بالثاني ولن تشك في وجودك لأنه قطعي، حتى وإن لم تجد جواباً أو تعليلاً تفهم به تصرف الأخ.
وهكذا من يؤمن بالله وكتبه ورسله ثم يعرض له وسواس أو هاجس يخالف مقتضى هذا الإيمان، فإنه يكفيه الانصراف عن الاسترسال معه، لأنه على أصل ثابت قطعي راسخ.
ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين من تعرض له بعض الوساوس إلى هذا العلاج، فقال: يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك! فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته.
فهذا جواب سديد سهلٌ مناسب لأهل الإيمان، ومبناه على أن المؤمن مستقر عنده بالفطرة والشرع والعقل وجود الله تعالى، وهذا السؤال يعرض لتشكيك في هذا المستقر الثابت بأدلته عنده، فيكفي في دفعه الاستعاذة والانتهاء عن الاسترسال معه فلا يضر صاحبه لأنه على أصل قد استقرت عنده أدلته.
وكذلك يقال في عدل الله، هو أمر مستقر ونسبة الله إلى الظلم ممنوعة عند جميع المسلمين، فإذا عرض ما يقدح في هذا الأمر المستقر الثابت بدلالة الكتاب والفطرة والعقل، فإما أن نجد له جواباً، أو نكتفي بالإعراض عنه، واعتبر هذا بالمثال السابق للرجلين.
وأما الجواب المفصل:
فاختصاره في صورة السؤال المذكور ومثاله، أنّ قدر الله تعالى يصدر عن علمه التام السابق بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وكذلك عن مشيئته وقدرته ثم يخلق الله تعالى ذلك فيكون، فهذه أربع مراتب للقدر: العلم والقدرة والمشيئة والخلق، والله تعالى خلق الخلق وجعل لهم مشيئة وقدرة، فمن علم الله منه خيراً بسابق علمه يسره إليه، وشاء ذلك، ثم خلقه، وكذلك ضده.
ثم إن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا ما آتاها، كما قال: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233]، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وفي ثلاثة مواضع: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام:152]، {اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، فمن عافاه في بدنه ووسع عليه في رزقه، فعليه من التكليف وواجب الشكر ما يليق بحاله، وكذا من قدر عليه رزقه، وأصيب في بدنه عليه من التكليف ما يناسب حاله، ثم الجنة وكذا النار درجات ودركات، فأهل المصائب يرفعون بمصائبهم درجات إن هم أفلحوا في الصبر على البلاء، وكذلك أهل الغناء فتنتهم بالمال عظيمة ولهذا كان عامة أمر الموسرين السرف وبطَر النعم: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7]، وقد أخبر الله تعالى أنه يبتلي الناس بهذا وهذا، كما في قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، فإن هم نجحوا في الابتلاء أثابهم الله على ذلك، والمهم أن نوقن بأن الله حكيم يضع فضله في موضعه لحكمة، وأنه لن يظلم أحداً، وأن دار الجزاء وإقامة العدل التام هي الدار الآخرة وأنها درجات، أما الدنيا فمزرعة.
ومن هنا تعلم أنّ الشابّين في المثال المذكور وإن هما دخلا الجنة فلا يلزم أن تستوي بهم الدرجة، وإن استوت فلسبب وحكمة تقتضي ذلك ولابد، وأن من كتب الله تعالى عليه الضلال لم يكتبه جوراً بل بسابق علمه بما يستحقه عبده الذي خلق له مشيئة وإرادة هو أعلم بها.
واعلم أخي الكريم أن لأهل الإسلام في جواب هذا الإشكال الذي ينقدح عند بعض الناس في عدل الله تعالى مذاهب، فكلهم –كما سبق- يرفض نسبة الظلم إلى الله تعالى، لأن نسبة الظلم إليه قبيحة ونقيصة بدلالة الآيات المتظاهرة والسنة الثابتة والعقل المجمع عليه، ثم اختلفت تخريجاتهم للجواب على ثلاثة مسالك:
المسلك الأول: قال أهله الملك ملك الله، والعبد عبده، والفضل له، يؤتي من شاء ما شاء، فلا يتصور العقل أن يقال ظَلَمَ! بل الظلم غير ممكن في حقه، ونظَّروا هذا برجل له حقل استعمل عمّالاً فاجتهد بعضهم في حرِّ الشمس منذ الظهيرة وحتى غروبها، فأعطاهم أجرهم كاملاً غير منقوص وزادهم قليلاً، ثم استأجر آخرين فعملوا له من المغرب حتى العشاء في زمن أقصر وجو لطيف، فأعطاهم حقهم وزادهم حتى زادوا على الأولين، من غير استحقاق منهم بل فضل منه! فهل يقال ظلم الأولين وقد أعطاهم حقهم وزيادة؟ لو ترافعوا إلى أية محكمة ما كان لهم عليه من حق!
فكذلك لله المثل الأعلى، وقد ثبت في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أعطي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا، فأعطوا قيراطا قيراطاً، ثم أعطيتم القرآن، فعملتم به حتى غروب الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين. قال أهل التوراة: ربنا هؤلاء أقل عملاً وأكثر أجراً؟ قال: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، فقال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء" [صحيح البخاري].
ومما يحكى في هذا أن بعض القدرية خاصم إياس بن معاوية رحمه الله، فقالوا له: إن أثبتم مشيئة لله نافذة فقد نسبتم الظلم إليه!
فقال لهم: ما الظلم؟
قالوا: أن تأخذ ما ليس لك!
قال: فلله كل شيء.
واستمسك أصحاب هذا التخريج أيضاً بما يروى عن أبي الأسود لما سأله عمران بن حصين قائلاً: أرأيت ما يكدح الناس اليوم ويعملون فيه، أشيءٌ قُضي عليهم ومضى من قدر قد سبق؟ أو فيما يستقبلون فيما أتاهم به نبيهم فاتُخِذت به عليهم الحجة؟
قال قلت: بل شيء قد قُضِي عليهم ومضى عليهم!
قال: فهل يكون ذلك ظلماً؟
قال: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً وقلت له: إنه ليس شيء إلا وهو خَلْقُ الله ومِلْكُ يده! ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
فقال: سددك الله إني والله ما سألتك إلاّ لأختبر عقلك.
فهذا جواب لبعض أهل الإسلام.
المسلك الثاني: خالف أهله الأوَّلِين فنفوا مشيئة الله النافذة، وتأولوا الآيات المثبتة لمشيئة الله بتقديرات لغوية طويلة، وقالوا: إن الله عدل لا يظلم وأنه سبحانه لم يرد وجود شيء من الذنوب لا الكفر ولا الفسوق ولا العصيان، بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئته، كما فعلوه عاصين لأمره، وهو لم يخلق شيئاً من أفعال العباد لا خيراً ولا شراً، بل هم أحدثوا أفعالهم، فلما أحدثوا معاصيهم استحقوا العقوبة عليها فعاقبهم بأفعالهم لم يظلمهم، وهذا قول القدرية من المعتزلة وغيرهم، وهؤلاء عندهم لا يتم تنزيه الله عن الظلم إن لم يجعل غيرَ خالق لشيء من أفعال العباد، بل ولا قادر على ذلك، وقالوا قد يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء.
ولهم على هذا القول استدلالات كالاستدلالات الأولين بالنصوص التي تثبت مشيئة العبد، وتثبت الجزاء بما كسبت يداه، وتنسب الفعل له، وهي كثيرة كقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37]، وقال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقال: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [المزمل: 19]، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} [النبأ: 39]، {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 12]، إلى غير ذلك من الآيات التي تثبت للعباد مشيئة وهي كثيرة، وتثبت أن جزاءهم بما كسبت أيديهم كقوله: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 281]، {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17]، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22]، إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة.
وتوسط أهل الحق في مسلك ثالث فقالوا:
الظلم وضع الشيء في غير موضعه والعدل وضع كل شيء في موضعه، كما نص على ذلك أبو بكر بن الأنباري وغيره من أئمة اللغة، وهو سبحانه حكم عدل يضع الأشياء مواضعها ولا يضع شيئاً إلاّ في موضعه الذي يناسبه وتقتضيه الحكمة والعدل، فلا يفرق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين، ولا يعاقب إلا من يتسحق العقوبة، فيضعها موضعها لما في ذلك من الحكمة والعدل، وأما أهل البر والتقوى فلا يعاقبهم ألبتة قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35-36]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21].
وهو سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة، ولا يجزى أحداً إلا بذنبه، ولا يخاف أحد عنده ظلماً ولا هضماً، لا يهضم من حسناته، ولا يظلم فيزاد عليه في سيئاته لا من سيئات غيره ولا من غيرها، بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره، وعنده سبحانه لا تزر وازرة وزر أخرى، وليس للإنسان إلا ما سعى، أي لا يملك ذلك ولا يستحقه، وإن كان قد يحصل له نفع بفضل الله ورحمته، وبدعاء غيره وعمله، فذاك قد عرف أن الله يرحم كثيراً من الناس من غير جهة عمله لكنه ليس له إلاّ ما سعى.
وأما ما ذكره الأولون فهو حق لكن فضل الله لحكمةٍ وسبب فهو سبحانه منزه عن العبث، أثبت لنفسه الحكمة، فمن يُفضِّلهم وإن كان ذلك في ملكه، إلا أنه يفضلهم لما علم منهم، لسبب استحقوا به التفضيل، علمه من علمه وجهله من جهله، وإياس بن معاوية وعمران بن حصين وأبو الأسود وغيرهم لا يريدون نفي هذا، ولكنهم يريدون الاحتجاج على القدرية الذين ادعوا أن مقتضى إثبات مشية لله نافذة الظلم، فردوا هذا بالمثال، مع إثباتهم ما جاءت به النصوص المثبتة لحكمة الله في أفعاله، وإثباتهم لمشيئة العباد الخاضعة لمشيئة الله العليم الحكيم، كما قال رب العالمين: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الإنسان: 30]، فمشيئة الله صادرة عنه بعلمه وحكمته لم تصدر عبثاً، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]، والحمد لله رب العالمين.