فاظفر بليلة القدر تربت يداك
27 رمضان 1432
سعد العثمان

فبعد أن انقضى ثلث الرحمة، وثلث المغفرة، انتقلنا إلى الثلث الأخير من شهر رمضان، ألا وهو ثلث العتق من النار...
وهذا الثلث فيه ليلة القدر، التي فضلها الله تعالى على سائر الليالي؛ فأنزل فيها القرآن، ووصفها بأنها مباركة، قال الله تعالى:( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم )الدخان:3-4. أخبر سبحانه أنَّه يفرق فيها كل أمر حكيم، فيقدِّر الله فيها ما يكون في السنة، ويقضيه من أموره التي كلها حكيمة، وقيل: لأنَّ المقادير تكتب وتقدر فيها، وأرشد عباده إلى شرف قدرها، فأنزل سورة تُبيِّن فضلها، وتأمل ما ينبئك به الاستفهام في قوله تعالى:( وما أدراك ما ليلة القدر)القدر:2. إنها ليلة كلها خيرات وبركات، فإحياؤها بالتَّعَبُّد خير من التَّعبُد في غيرها ألف شهر. قال الله تعالى:( ليلة القدر خير من ألف شهر)القدر:3، أي ما يزيد على ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر.

 

عزيزي القارئ: تصوَّر تتنزل الملائكة والروح فيها، بإذنه سبحانه من كل أمر، فإنهم عباد لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهم يتنزَّلون في ليلة القدر، إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة. وقف مع قوله تعالى:(سلام هي حتى مطلع الفجر)القدر:5، كم في هذه الآية من بشائر. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: أي أنَّ ليلة القدر سلام للمؤمنين من كل مخوِّف، لكثرة مَنْ يُعتَق من النَّار، ويسلم من عذابها. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ قيامها سببٌ لمغفرة ذنوب العبد. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه الشيخان.

 

وهذه الليلة واقعةٌ يقيناً في العشر الأواخر من رمضان، لقوله صلى الله عليه وسلم:(تحرَّوا ليلة القدر، في العشر الأواخر من رمضان)، رواه الشيخان. وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع، وتكون آكد في السبع الأواخر، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما:( إنَّ رجالاً من أصحاب النبي صلى عليه وسلم، رأوا ليلة القدر في المنام، في السبع الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرى أنَّ رؤياكم قد تواطأت، " يعني اتفقت " في السبع الأواخر، فمن كان متحرِّها فليتحرَّها في السبع الأواخر) رواه الشيخان. ويرجح جمع من العلماء أنها آكد في ليلة سبع وعشرين، مستدلين بما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:( والله إنِّي لأعلم أي ليلة هي؟. هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين). لكن قال ابن حجر وغيره: إنَّ ليلة القدر تنتقل كل سنة في ليلة من الوتر في العشر الأواخر، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى)رواه البخاري في صحيحه. وأخفى الله معرفتها في أي ليلة هي من العشر، رحمة بالعباد ليجتهدوا في طلبها، فتكثر أعمالهم الصالحة، من دعاء، وصلاة، وذكر، في الليالي العشر، فينعموا بروح القرب منه سبحانه.

 

سبب تسميتها بليلة القدر:
 قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
أولاً: سميت ليلة القدر، من القدر، وهو الشرف كما تقول فلان ذو قدر عظيم، أي ذو شرف.
ثانيا: أنَّه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة، فيكتب فيها ما سيجري في ذلك العام، وهذا من حكمة الله عز وجل، وبيان إتقان صنعه وخلقه.
ثالثا: وقيل: لأنَّ للعبادة فيها قدر عظيم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:( من قام ليلة القدر، إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه.) متفق عليه.

 

 علامات ليلة القدر:
 ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، أنَّ لليلة القدر علاماتٌ مقارنة، وعلاماتٌ لاحقة.

 

 العلامات المقارنة:
1. قوة الإضاءة والنُّور في تلك الليلة، وهذه العلامة في الوقت الحاضر لا يحسُّ بها؛ إلا من كان في البر بعيداً عن الأنوار.
2. الطمأنينة، أي طمأنينة القلب، وانشراح الصدر من المؤمن، فإنَّه يجد راحة، وطمأنينة، وانشراح صدر، في تلك الليلة أكثر من مما يجده في بقية الليالي.
3.   أنَّ الرِّياح تكون فيها ساكنة، أي لا تأتي فيها عواصف أو قواصف، بل يكون الجوُّ مناسباً.
4.   أنَّه قد يُري الله الإنسان الليلة في المنام، كما حصل ذلك لبعض الصحابة رضي الله عنهم.
5.   أنَّ الإنسان يجد في القيام لذة أكثر مما في غيرها من الليالي.

 

العلامات اللاحقة:
أنَّ الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع، صافية ليست كعادتها في بقية الأيام، ويدلُّ على ذلك حديث أُبيِّ بنِ كعب رضي الله عنه أنَّه قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:( أنَّها تطلع يومئذٍ، لا شعاع لها) رواه مسلم

 

ماذا تفعل في هذه الليلة المباركة ؟؟.
1- الاستعداد لها منذ الفجر، فبعد صلاة الفجر تحرص على أذكار الصباح كلها.
2- احرص على أن تفطِّر صائماً، إما بدعوته، أو بإرسال إفطاره، أو بدفع مال لتفطيره.
3- عند غروب الشمس، ادع الله تعالى أن يعينك ويوفقك لقيام ليلة القدر.
4- جهِّزْ صدقتك لهذه الليلة من ليالي العشر، وليكن لك ادِّخار طوال السنة، لتخرجه في هذه الليالي الفاضلة، فلا تفوتك ليلة من ليالي الوتر؛ إلا وتخرج صدقتها، فالرِّيال إذا تقبله الله في ليلة القدر، قد يساوي أكثر من ثلاثين ألف ريال، و 100 ريال تساوي أكثر من 300 ألف ريال وهكذا.
5- منذ أن تغرب الشمس احرص على القيام بالفرائض والسنن.
6- بَكِّر بالفطور لأنه من السنة، ولا تنس الدعاء في هذه اللحظات، وليكن من ضمن دعائك: اللهم أعني ووفقني لقيام ليلة القدر. ثم توضأ وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم بادر بالنافلة بين الأذان والإقامة؛ ثم صل صلاة مودع كلها خشوع واطمئنان، ثم اذكر أذكار الصلاة، ثم صل السنة الراتبة، ثم اذكر أذكار المساء -إن لم تكن قلتها عصراً-  ثم نوِّع في العبادة:

 

- لا يفتر لسانك من دعائك بـ: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
- إن كان لك والدان فبرَّهما وتقرَّب منهما، واقض حوائجهما وافطر معهما.
- بادر بالذهاب إلى المسجد قبل الأذان، لتصلي سنة دخول المسجد، ولتتهيأ بانقطاعك عن الدنيا ومشاغلها علَّك تخشع في صلاتك.
- إذا أقيمت الصلاة صل بخشوع، فكلما قرأ الإمام آية استشعر قراءته، وكن مع كلام ربك حتى ينصرف الإمام.
- عد إلى بيتك، ولا يكن هذا هو آخر العهد بالعبادة حتى صلاة القيام، بل ليكن في بيتك أوفر الحظ والنصيب من العبادة سواء بالصلاة أو بغيرها.
- ولا تنس -قبل خروجك من المسجد- أن تضع صدقة هذه الليلة، وإذا كان يصعب عليك إخراج صدقة كل ليلة من هذه الليالي، فمن الممكن أن تعطي كل صدقتك قبل رمضان، أو قبل العشر الأواخر جهة خيرية، توكلها بإخراج جزء منها كل ليلة من ليالي العشر.
- ولا تنس وأنت في طريقك من وإلى المسجد أن يكون لسانك رطباً من ذكر الله، ولا تنس سيد الاستغفار، فإذا دخلت بيتك تلمَّس حاجة من هم في البيت، سواء والداك، أو زوجتك، أو إخوانك، أو أطفالك، فقم بخدمة الجميع بانشراح الصدر واحتساب، واستغل القيام بحوائجهم بقراءة القرآن عن ظهر قلب، فقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن في الأجر، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن في الأجر، وآية الكرسي أعظم آية في كتاب الله.
- اذهب بعد فطورك مبكراً إلى المسجد، وصل صلاة العشاء، وبعدها صلاة التراويح، واجلس معتكفاً في المسجد، ولا تقصر في الذكر، والدعاء، وتلاوة القرآن، وصلاة القيام... 
- فإن نمت فأنت مأجور -بإذن الله- ثم استيقظ لصلاة قيام الليل في المسجد، وليكن لك ساعة خلوة مع ربك ساعة السحر فتفكر في عظمة خالقك، ونعمه التي لا تحصى عليك، مهما كنت فيه من حال أو شدة، فأنت أحسن حالاً ممن هو أشد منك.
- تذكر هادم اللذات علَّها تدمع عينك، فتكون من السبعة الذين يظلُّهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله.
- تذكر ما رواه جابر بن سمرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"أتاني جبريل، فقال: يا محمد من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله، قل آمين. فقلت: آمين..."، حديث صحيح.
- أخيراً وقبيل الفجر لا بد من السحور ولو بماء، مع احتساب العمل بالسنة؛ ثم تسوَّك، وتوضأ، واستعد لصلاة الفجر، وأنت إما في ذكر أو دعاء أو قراءة قرآن.
 
وفقني الله وإياك للعلم النافع، والعمل الصالح، وإلى ما فيه رضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.