29 محرم 1433

السؤال

أنا في حيرة؛ حيث إنني سمعت من علمائنا الأفاضل مثل الشيخ ابن باز والشيخ ناصر الدين الألباني والشيخ علي الطنطاوي وغيرهم أن أفضل وظيفة للمرأة في منزلها ولا بأس من خروجها للتعليم والعلم والعمل، لكن بشرط أن لا تختلط بالرجال، وتتجنب قدر استطاعتها الحديث معهم، ويقولون هذا هو عمل الصحابة والتابعين ومن تبعهم في القرون الثلاثة الفاضلة، أما ما يحدث من اختلاط في زمننا هذا فهو بدعة محدثة... لكنني تفاجأت عندما قرأت كتب العلماء السابقين مثل ابن القيم والسيوطي وابن حجر العسقلاني والطبري والبداية والنهاية لابن كثير وغيرهم فوجدت أن النساء كنّ عالمات وفقيهات ومحدثات ومعلمات وطبيبات ومجاهدات في سبيل الله، وعملن بالسياحة، وكثير من الأئمة والعلماء تتلمذن على يد نساء فقيهات مثل الإمام الشافعي الذي تتلمذ عل يد نفيسة بنت الحسن، وأيضاً ابن حجر والطبري تتلمذوا على يد أكثر من امرأة، والسيوطي فقهه وعلمه كان بسبب امرأة.. فكيف هؤلاء العلماء اختلطوا بالنساء وتحدثوا معهن، وقد وجدت من خلال صحيح البخاري أن النساء يتحدثن بحرية مع الرجال!! أرجو توضيح ذلك..

أجاب عنها:
أسماء عبدالرازق

الجواب

السلام عليكم ورحمة الله.
الأخت الفاضلة:
يمكن تلخيص كلامك في النقاط التالية:
• كان من النساء عالمات، وفقيهات، ومحدثات، وطبيبات، ومجاهدات، وعاملات بالسياحة.
• بعض كبار علماء الإسلام تتلمذوا على نساء.
• وجدت في صحيح البخاري ما يدل على أن النساء يتحدثن مع الرجال بحرية.
• مشكلتك أنك ترين أن ما سبق يتعارض مع ما سمعتيه من المشايخ من أن أفضل وظيفة للمرأة في بيتها ولها أن تخرج للتعلم والتعليم بضوابط، وأن ما يحدث في زماننا يخالف ما كان عليه المسلمون في القرون المفضلة.
ودعينا نبدأ بفتوى المشايخ –رحمهم الله-: فما سقته من كلامهم هو تفسير قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}، قال القرطبي –رحمه الله-: "معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف على الخروج منها إلا لضرورة"[1]، حتى إن إمام التفسير مجاهد فسر التبرج هنا بما دل عليه صدر الآية فقال: "كانت المرأة تخرج فتمشي بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية الأولى"[2]، وقد نص غير واحد من أهل العلم على أن المرأة تلزم بيتها لا تخرج منه إلاّ لضرورة، قال ابن الحاج: "خروج المرأة لا يكون إلاّ لضرورة شرعية"[3].
وقال الجصاص في الآية الآنفة: "وفيه الدلالة على أن النساء مأمورات بلزوم البيوت، منهيات عن الخروج"[4].
فالشريعة إذاً تدل على أن قرار المرأة في بيتها هو الأصل، "فهو عزيمة شرعية في حقهن، وأن خروجهن من البيوت رخصة لا تكون إلا لضرورة أو حاجة"[5]‏، دينية أو دنيوية، "بضوابط الخروج الشرعية"[6].
فإذا عرفنا أن تبرج الجاهلية الأولى الذي نهيت عنه الصحابيات ومن بعدهن كان بخروج المرأة ومشيها بين الرجال، فما رأيك؟ هل ترين حال نساء هذا الزمان يشابه حال نساء الجاهلية، دعك من حال الصالحات في القرون المفضلة؟!
أما قولك: كان من النساء عالمات، وفقيهات، ومحدثات، وطبيبات، ومجاهدات، وعاملات بالسياحة. فطلب العلم الشرعي مستحب أو واجب على كل مسلم ومسلمة كل بحسبه، فالكل محتاج إليه، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وحاجة العَالمَ إلى علم النبوة أعظم من حاجتهم إلى نور الشمس، وأعظم من حاجتهم إلى الماء والهواء الذي لا حياة لهم بدونه"[7]، فالله تعالى إنما خلق الثقلين لعبادته وحده، والعبادة لا تكون إلاّ بعلم، ومع ذلك لم تكن النساء يُزاحمن الرجال لأجل تحصيله، ولم يكن القدر المطلوب منهن مماثلاً للقدر المطلوب من الرجال، فلما خشين أن تكون الخلقة عائقاً دونه طلبن أن يَجْعَل لهنّ النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً خاصاً لا يكون للرجال فيه نصيب، وقد بوب البخاري في كتاب العلم من الصحيح، باب: هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم، وساق حديث أبي سعيد، قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً.. الحديث[8]، قال العيني: "أي عين لنا يوماً" وقال: "قوله غلبنا عليك الرجال معناه أن الرجال يلازمونك كل الأيام ويسمعون العلم وأمور الدين، ونحن نساء ضعفة لا نقدر على مزاحمتهم، فاجعل لنا يوماً من الأيام نسمع العلم ونتعلم أمور الدين"[9].
وقد نص الفقهاء على المنع من اختلاط الرجال بالنساء في المسجد، لما يترتب عليه من مفاسد[10]، ويشمل ذلك الاختلاط بغية طلب العلم. ولو كان الاختلاط جائزاً لقال لهن احضرن مع الرجال مجالس العلم والذكر.
أما كون أن بعضهن كن طبيبات، فمعروف أنهن لم يتخرجن في كليات الطب، وإنما هو نوع من التطبيب الشعبي الذي يتعلمنه في البيوت، وتطبيقه في وقت الحاجة فيه متسع، كما كان يوم أحد لما دهم العدو بلاد المسلمين، فالضرورات تبيح المحظورات.
أما الجهاد فلم توجبه الشريعة على النساء بالاتفاق[11]، قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: "أفلا نجاهد"؟ قال: "لا، لَكُنَّ أفضل الجهاد حج مبرور"[12]، ومما علل به أهل العلم قول بعضهم: "لأن النساء مأمورات بالستر والسكون، والجهاد ينافي ذلك، إذ فيه مخالطة الأقران، والمبارزة ورفع الأصوات"[13]، وقد نص أهل العلم على أن الذكورية شرط لوجوبه.
أما خروج النساء في العصر الأول للجهاد فقد كان منضبطاً بضوابط الشريعة، والتي منها الحاجة إليهن، فلم تكن تخرج عامة النساء، ولم يعهد في تاريخ الإسلام ندبهن للخروج أو استنفارهن، ولكن عهد خروج بعضهن كالتي تكون في خدمة القائد، ونحوها من ذوات المهنة، ومن الحاجة خروج زرافات منهن في جهاد الدفع أو تلقي العدو القاصد لديار الإسلام كما في يوم أحد، ومع الحاجة لابد من مراعاة منع الاختلاط، وأسباب الفتنة، ثم لو حدث اختلاط بعد ذلك اضطراريا عارضاً فهذا له حكمه الخاص بحكم الضرورة.
وما أباحته الضرورة فيقدر بقدره ومن ذلك مباشرة المرأة علاج الجريح المثخن عند الحاجة إليها، ومن الضرورة أيضاً التحامها بالرجال للذود عن عرضها وحماية نفسها، وكل ما نقل عن الصحابيات فهو على هذه الأوجه، ليس فيه خروج للنزهة معهم مختلطين بهم.
أما عملهن بالسياحة فلم أفهمه! هل كن يعملن مرشدات سياحيات مثلاً؟ هل كان في تلك الأزمان سياحة مثل التي نعرفها الآن؟ ربما وجدت أنهن كن سائحات بمعنى صائمات كما في قوله تعالى في سورة التحريم: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات" والتبس عليك الأمر؟ وإلا فالسياحة في القرون الأولى ما كانت تعرف إلا في الجهاد.
أما كون أن بعض الأئمة كان من بين شيوخهم نساء فلا إشكال فيه، فربما كن من محارمهم، وحتى لو لم يكن الأمر كذلك فلا مانع من أن تدرِّس المرأة الرجال من وراء حجاب دون خضوع بالقول ما داموا لم يجدوا ما عندها عند غيرها من الرجال، كما تعلم الصحابة من عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين رضي الله عنهم جميعاً، وكان يضرب بينها وبينهم الحجاب.
أما قولك بأن في صحيح البخاري ما يشير إلى أن النساء كن يتحدثن إلى الرجال بحرية فلعلك أخطأت فيه، فللمرأة أن تتحدث إلى الرجل الأجنبي عند الحاجة بغير خضوع بالقول على قدر حاجتها، يقول تعالى: "ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً".
ومن نعم الله تعالى علينا في هذا الزمان ما يغني المرأة عن الخروج من بيتها، ومخالطة الرجال والحديث إليهم، فطلب العلم متيسر عن طريق الشبكة العنكبوتية سواء في المؤسسات التعليمية التي تدرس عن بعد أو البث المباشر لحلقات العلم للمشايخ الراسخين، والوسائل السمعية والبصرية المختلفة، وغير ذلك، لكن إن احتاجت إلى ذلك فلا بأس مع وجود محرمها أو من تنتفي به الخلوة والشبهة.
بما أن المجال ليس مجال إسهاب وتطويل، يمكنك الرجوع لبعض ما كتب في هذا الموضوع المهم، وقد أسهب كثير من المشايخ في تفصيل ما أشرت إليه ومنهم على سبيل المثال لا الحصر:
كتاب الشيخ إبراهيم الأزرق: الاختلاط بين الجنسين؛ مفهومه وحكمه وآثاره.
كتاب الشيخ عبدالعزيز الطريفي: الاختلاط.. تحرير وتقرير وتعقيب.
كتاب الشيخ خالد السبت: الاختلاط.
وستجدين فيها ما يزيل إشكالك بإذن الله، وجميع هذه الكتب متاحة بالمجان منشورة على الشبكة بحمد الله، وفقك الله تعالى ونفعك بعلمك.
_________________
[1] تفسير القرطبي 14/178.
[2] انظر تفسير ابن كثير للآية 3/483، وهو عند عبدالرزاق كما أشار الحافظ في الفتح 8/520 وسند عبدالرزاق الذي ذكر صحيح، وهو كذلك في الطبقات الكبرى لابن سعد 8/198.
[3] المدخل 2/12.
[4] أحكام القرآن للجصاص 3/529.
[5] عن حراسة الفضيلة، للشيخ بكر أبوزيد –رحمه الله، ص89، بتصرف يسير.
[6] السابق 97.
[7] مفتاح دار السعادة، لابن القيم 2/118.
[8] صحيح البخاري 1/50، ورواه غيره.
[9] عمدة القاري شرح صحيح البخاري 2/134.
[10] انظر مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 2/258، وغذاء الأباب في شرح منظومة الآداب 2/314.
[11] الموسوعة الفقهية21/268.
[12] صحيح البخاري 2/552 رقم 1448 ورواه غيره، والأحاديث في هذا الباب كثيرة معروفة.
[13] سبل السلام 2/460.