حرب المصطلحات في مصر.. ردة فكرية
29 شوال 1432
علا محمود سامي

أقل ما يوصف به حال غلاة العلمانية واليسار حاليا في مصر ، أنهم يخوضون حربا سلاحها الأساس هى المصطلحات الفكرية والثقافية المغلوطة مع مناوئيهم، في ظل ما يخشونه من أن تفرز التجربة الانتخابية سواء "البرلمانية" أو الرئاسية بإسلاميين أو محسوبين على التيار الإسلامي، ما جعلهم في ذعر من مخاطر التحولات الجارية في القاهرة بأن تمخض عن كل ما يمكن من شأنه الوصول بإسلاميين إلى سدة الحكم. 

 

لذلك يخوض أمثال هؤلاء أشبه ما يعرف بالحروب الفكرية والثقافية يستخدمون خلالها المصطلحات البالية التي عفى عليها الزمن، وفي الوقت نفسه تعكس حالة من حالات إقصائهم لغيرهم، ومفهوما جديدا من مفاهيم القمع الفكري، الذي كان يمارسه النظام المصري السابق، والذي وإن كان يمارس قهرا جسديا ضد معارضيه من الإسلاميين، فان أمثال هؤلاء أصبحوا يمارسونه ، وفق ما يفهمونه من جدل بيزنطي، لا يثمن ولا يغني من جوع، لايعني سوى استهلاك الوقت، وتشتيت الجهد، وإنهاك مقومات بني البشر.

 

على هذا النحو تسير مفردات دعاة الليبرالية والعلمانية في مصر، ومن هنا نبدأ بسبر أغوار مثل هذه المصطلحات ، فهم يتحدثون عن العلمانية بكسر العين ، والتي هى مقتبسة من الغرب، غير أنهم لايمتلكون شجاعة التصريح بأن هذه العلمانية هى ضد الدين، وأنها مناقضة له، وأنها تعني فصل الدين عن الدولة، ويدعون أنها نسبة إلى العلم، خشية مواجهة الرأي العام ، الذي يتجذر في وجدانه الدين الإسلامي، حتى إذا تمكن لهم ما أرادوا طبقوها، فاصلين بذلك المجتمع عن دينه الإسلامي، والذي تدين غالبية المجتمع المصري.

 

ومن خلال هذا المفهوم المغلوط ينفث أمثال هؤلاء سمومهم بمعان وعبارات بالية، حول حقيقة فهمهم لهذا المصطلح، ولذلك يروجون لمفهوم الدولة المدنية، وهى الدولة التي لم يستقر فيه الغرب على تعريف لها، وهو الغرب الذي يتشدقون بالتعرف عليه، ومعرفة أسراره، ويتمحكون في برامجه.

 

أمثال هؤلاء ، لايفهمون، وإن فهموا لايدركون أن معنى الدولة المدنية، أنها أول ما صدرت كان في العصور الوسطى، بعد كسر هيبة الكنيسة، ومنعها من السيطرة على مفاصل الدولة الغربية، بعدما كانت تتدخل في شؤونها، فظهر الحاكم الكهنوت وغيره، ولذلك فأمثال هؤلاء العلمانيون لايجرأون على تحديد هذا المعنى، ويطلقون العنان للحديث عن الدولة المدنية، بدعوى أنها تتبنى الحداثة والمدنية العصرية بمفهوم اليوم.

 

وعلى الرغم من ذلك، فهم لايملكون شجاعة البوح أيضا بتحديد معنى واضح لهذه الدولة المزعومة، خاصة وأنه المعنى الذي لم يصدر له تعريفا محددا في الغرب ذاته حتى اليوم، وما إذا كانت دولة لا دينية، أو أنها ثيوقراطية، أو غيرها من المسميات التي أصبح القوم يستوردونها، وما يصاحبها من ممارسات خاطئة، وكأن مفرداتتنا العربية عقمت أن تنجب مثل المفردات البديلة التي تحقق للناس تمسكهم بدينهم، وتحفظ عليهم دينهم وأمنهم واستقرارهم ونهضتهم.

 

وعلى الرغم من عدم استقرار الغرب على مثل هذه المفردة ، فإن بني جلدتنا في مصر أصبحوا يطلقونها على عواهنها من دون التعرف على ما يدعون إليه، هل يرغبون نظاما للحكم في مصر بأن يكون ضد الدين الإسلامي، أم يعتمد على الدولة الديمقراطية الحديثة، أو غيرها من المعاني التي لم يتم حسمها في بلادها؟

 

ومع هذا التباين، فقد أصر نفر مصريون على تصدير مثل هذه المفردات إلى أرض الكنانة، ولا يدركون أن الشعب المصري يتجذر فيه الدين الإسلامي، كما سبقت الإشارة، ويتوق إلى تطبيق الإسلام وشريعته، وأنه يلفظ كل ما يخالفه، وأن الدولة الديمقراطية(وهذا مصطلح آخر)  التي يدعون إليها خلاف الدولة المدنية المزعومة هى الدولة التي احتلت العراق بدعوى تطبيق الديمقراطية بها، عن طريق الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها المملكة المتحدة. وهى الممارسات المغلوطة، التي لم تعد في عرف الحريات تناسب أصحابها، أو ما يصاحبها من ديمقراطية زائفة، هى في الأساس مستوردة من العصر اليوناني الروماني.

 

وبدون قصد ، أو بالعمد ظل أمثال هؤلاء يسعون منذ نجاح ثورة 25 يناير في إثارة الشبهات حول مناوئيهم، والمعارضين لهم ، حسبما يعتبرونهم دائما هم الإسلاميون، الذين يعيبون عليهم إقحام الإسلام في ممارسة العمل السياسي، وكأنهم يريدونهم مسلمين اسما ، وليس معنى، شكلا وليس جوهر. حتى لو تحقق لهم ما أرادوا لصدعوا عقولنا بالحديث عن أن الإسلاميين لايحملون برامج لقيادة الحياة، سواء في مجالات السياسية أو الثقافة أو الاقتصاد أو غيرها من المجالات، إلى خلافها من علامات الاستفهام التي يثيرون ضجيجا بسببها حول كل من يخالفونهم الرأي، ويأتي الإسلاميون في مقدمتهم.

 

مثل هذه المراوغات، لايتم تفسيرها سوى أنها محاولات لتضليل الرأي العام، ومحاولات تشويه صورة الإسلاميين، وهى المحاولات التي يكون مصيرها دائما لفشل، ففي الاقتراع على التعديلات الدستورية في 19 مارس الماضي، بذل أمثال هؤلاء جل ما في وسعهم لتمرير هذه المحاولات، غير أن الأغلبية الصامتة التي يصفونها كذلك كثيرا ما أحبطت كل مخططات أمثال هؤلاء، وكشفت عن أبعادهم، وما يتوالى من كشف علاقاتهم بالإدارة الأمريكية وغيرها من القوى الكبرى للإجهاز على ثورة 25 يناير، ومحاولة إنهاك الدولة المصرية، والمؤسسة التي تقودها، وفق مخطط صهيوني يسعى لإجهاض الثورات العربية بالأساس، وفي مقدمتها الثورة المصرية.

 

وما يدل على الإفلاس الفكري لدى هؤلاء أنهم منذ نجاح الثورة، وهم يشغلون المصريين في مصطلحات مردود عليها، فلم يطرحوا برامج للبناء، ولم يعلنوا عن مسارات للتحول المنشود في مصر، وظلوا يتعاركون في أمور مستهلكة أكل منها الدهر وشرب، ولم يترك منها شيئا لمناقشتها.

 

وأحسن الإسلاميون في مصر صنعا ، عندما تركوا أمثال هؤلاء يدلون بفشلهم يمينا ويسارا ، يلفظون سمومهم، وتتحدق عيونهم فيما فقدوه من حضور جماهيري لدى العامة، على حساب الإسلاميين، الذين أخذ مخالفيهم يطلقون عليهم عبارات التشهير والحرب الفكرية بأنهم منظمين، والتصريح بأن خوفهم على مصر بأن يستحوذ الإسلاميون على الثلث المعطل في "البرلمان"، وكأنهم يريدون أن ينافسهم الفاشلون وليس الجادين، أو ينتظرهم من يخالفهم، حتى يستعيد أمثال هؤلاء عافيتهم.

 

لقد ظل هؤلاء لأكثر من ستة أشهر يطالبون بتأجيل الانتخابات البرلمانية في مصر، منعا لإجرائها في شهر سبتمبر كما كان مقررا، حتى تأجل إجراء هذه الانتخابات، ليس استجابة لهم، ولكن لاعتبارات إجرائية، وعلى الرغم من ذلك فلم يستفد أمثال هؤلاء من مساحة التأجيل، بل راحوا يطالبون بمزيد من الوقت للتأجيل، وكأنهم يريدون خوض مباراة ينبغي ألا تتكافئ فيها فرص النجاح والاستحقاق، فتكون لهم الغلبة، وبشرط أن يطلقون هم صافرة البداية، وأن يختاروا هم التوقيت، على أن يكون منافسيهم ضعفاء، أو الانتظار حتى يستعيدوا هم العافية العليلة التي يعانون منها بالأساس.

 

على هذا النحو يشغل أصحاب الإفلاس الفكري أنفسهم بمصطلحات ومفردات وعبارات تعكس هذا الإفلاس بالفعل، وأن يكون شغلهم الشاغل ليس إقامة دولتهم ، أو التوافق على إقامتها حرة قوية ، ولكن بإضعاف أرض الكنانة، والإجهاز على كل ما تبقى منها من إرادة ومقاومة تتوق لاختيار الإسلام بديلا عما كانت تحكم به من قبل بالقهر والاستبداد، الأمر الذي يجعلنا أمام غلاة يسعون لردة فكرية، وبمصطلحات بالية، وأفكار عفى عليها الزمن، ولم تصلح سوى أن تكون في نفايات التاريخ.