أنت هنا

ما تعم به البلوى في الحج (2)
28 ذو القعدة 1432
د. نايف بن جمعان الجريدان

عواقب منع المسلم من تأدية مناسك الحج

       توطئة
إن أحوال الناس في الحج قد تغيرت، وما حصل من أحوال وظروف ومتغيرات وسهولة في وسائل الاتصال ووسائل النقل وما وسع الله سبحانه وتعالى به من الخيرات، جعل الأعداد التي تتدفق لهذا البيت الحرام أعدادًا يضيق عن استيعابها المسجد الحرام، والحرم والمشاعر المقدسة والمناسك؛ لذا بذلت الحكومة السعودية الجهود الكبيرة، التي تُذكر فتُشكر، وسنّت الأنظمة والقوانين التي من شأنها إيجاد نوع من التنظيم، ومحاولة منها خدمة حجاج بيت الله فيما فعلت، ومن هذه الأنظمة:
1. منع المسلم من الحج إلا بتصريح، وهذا التصريح من شروط إصداره أن يكون قد مر على الحاج خمس سنوات فأكثر من آخر نسك أداه.
2. ومنها كذلك: تنظيم أعداد حجاج الخارج من كل بلد، يتحكم في هذا العدد عدد السكان فيه، فكلما زاد عدد السكان زادت نسبة الحجاج القادمين منه.
هذين النظامين جعلا كثيرًا من المسلمين اليوم -على مرأى ومسمع من الناس- محاولة اختراق هذا الحاجز، والمضيء في تأدية مناسك الحج، وهم في هذا يستخدمون طريقة: مجاوزة الميقات بدون إحرام؛ بحيث ينطلق أحدهم من منشأ إقامته، فيصل إلى الميقات، وينوي الدخول في النسك، بالتلبية: لبيك اللهم حجًا، ويبقى لابسًا لملابسه المخيطة، ثم يجد من ينقله من الميقات، وإمراره نقطة المراقبة (نقطة التفتيش)، ثم يلبس ملابس الحج (الإزار والرداء)، ويمضي في حجه. وتجاه هذا التصرف لي وقفتان أبحثهما في مسألتين:

 المسألة الأولى: تجاوز الميقات بدون إحرام.
المسألة الثانية: لبس المخيط للرجال بعد الإحرام.
ولكن قبل البدء بهما؛ أذكر تعريفًا للقاسم المشترك بين هاتين المسألتين وهو ماهية الإحرام:
الإحرام في لغة العرب معناه: الإهلال بحجّ أو عمرة، ومباشرة أسبابهما، والدّخول في الحرمة، ومعناه أدخل نفسه في شيء حرم عليه به ما كان حلالاً، وأحرم الرجل بالحج؛ لأنه يحرم عليه ما كان حلالا له من الصيد والنساء وغير ذلك، وأحرم الرجل دخل في الشهر الحرام، وأحرم: دخل في حرمة عهد أو ميثاق([1]).
والإحرام عند الحنفيّة: هو الدّخول في حرمات مخصوصة غير أنّه لا يتحقّق شرعاً إلاّ بالنّيّة مع الذّكر أو الخصوصيّة. فالمراد بالدّخول في حرمات: التزام الحرمات، والمراد بالذّكر: التّلبية ونحوها ممّا فيه تعظيم اللّه تعالى. والمراد بالخصوصيّة: ما يقوم مقامها من سوق الهدي([2]).
وهو عند بقية المذاهب الثّلاثة (المالكيّة([3])، والشّافعيّة([4])، والحنابلة([5])): نيّة الدّخول في حرمات ومناسك الحجّ والعمرة.

المسألة الأولى:

تجاوز الميقات بدون إحرام.
 الميقات لغة: لفظ ميقاتٍ مصدر ميميّ([6])، على وزن مِفْعال، وأصله من الفعل (وقت)، والوَقْتُ مقدارٌ من الزمانِ، وكلُّ شيء قَدَّرْتَ له حيناً. وهو يطلق على الزّمان والمكان. فالميقات والموقوت بمعنى واحد، وهو الشّيء المحدود زمانًا أو مكانًا. فمن أمثلة استخدامه للزمان قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) ([7])، أي مفروضاً، والمِيقاتُ الوَقْتُ المضْروبُ للفعل والموضع يقال هذا مِيقاتُ أَهلِ الشأْم للموضع الذي يُحْرِمُون منه([8])، ومن استعماله للمكان ما يأتي من الأحاديث.

والميقات في الشرع:
        لا يخرج عن ما استعملته العرب في لغتها؛ فهو: اسم للمكان الذي حدده الرسول  صلى الله عليه وسلم  للذي ينوي الدخول في نسك الحج أوالعمرة([9]).
ومواقيت الحج تنقسم إلى قسمين:
·   مواقيت الحج الزمانية؛ وهي أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة وقيل: جميعه على خلاف ليس هذا محل ذكره.
·   ومواقيت الحج المكانية: وهي خمسة مواقيت منقسمة على جهات الحرم وهي: ذو الحليفة لأهل المدينة، وقرن لأهل نجد، والجحفة لأهل الشام، ويلملم لأهل اليمن، ويدل لهذه الأربع حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وقَّت رسول الله   صلى الله عليه وسلم  لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم، هن لهن، ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة"([10])، والميقات الخامس هو ميقات أهل العراق ومن جاء من جهة المشرق وهو ذات عرق، ودل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا يا أمير المؤمنين إن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  حد لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا، قال فانظروا حذوها من طريقكم فحد لهم ذات عرق"([11]).
وفي حكم تجاوز الميقات بدون إحرام؛ أي: بدون نية الدخول في النسك، وهو مريد الحج أو العمرة، أراء في المذاهب الأربعة على النحو التالي:

المذهب الحنفي:
   عند الحنفية ليس لأحد ينتهي إلى الميقات إذا أراد دخول مكة أن يجاوزها إلا بالإحرام سواء كان من قصده الحج أو القتال أو التجارة، ولو أحرم بعد ما جاوز الميقات قبل أن يعمل شيئا من أفعال الحج ثم عاد إلى الميقات، ولبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب لا يسقط، واستدلوا لذلك بما يلي:
1. جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقال: إني جاوزت الميقات من غير إحرام، فقال: "ارجع إلى الميقات ولب وإلا فلا حج لك، فإني سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يقول: "لا يجاوز الميقات أحد إلا محرمًا"([12]).
2. ولأن وجوب الإحرام على من يريد الحج والعمرة عند دخول مكة لإظهار شرف تلك البقعة، وفي هذا المعنى من يريد النسك ومن لا يريد النسك سواء، فليس لأحد ممن يريد دخول مكة أن يجاوز الميقات إلا محرمًا.
        ووجه قولهم أنه إن لبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب لا يسقط: أن حق الميقات في مجاوزته إياه محرمًا، لا في إنشاء الإحرام منه، بدليل أنه لو أحرم من دويرة أهله([13])، وبعد ما عاد إليه محرما فقد جاوزه محرمًا، فلا يلزمه الدم ولأن الفائت بالمجاوزة هو التلبية([14])، فلا يقع تدارك الفائت إلا بالتلبية، بخلاف ما إذا أحرم من دويرة أهله، ثم جاوز الميقات من غير إنشاء الإحرام؛ لأنه إذا أحرم من دويرة أهله صار ذلك ميقاتًا له، وقد لبى منه فلا يلزمه تلبية، وإذا لم يحرم من دويرة أهله كان ميقاته المكان الذي تجب التلبية منه، وهو الميقات المعهود([15]).

المذهب المالكي:
        وعند المالكية لا يجوز لأحد يريد دخول مكة أن يدخلها إلا محرمًا إلا لمن كان يكثر الترداد إليها كالحطَّابين، ومن يحمل الفاكهة، أو من يخرج عنها من أهلها لحاجة ثم يعود، ومن سوى هؤلاء فلا يدخلها إلا محرمًا إذا مر على بعض هذه المواقيت، ولا يجوز أن يتجاوزه فيحرم بعده لا إلى ميقات سواه ولا إلى غير ميقات، إلا أن يتعداه إلى ميقات له كشامي يمر بذي الحليفة فأخر الإحرام إلى الجحفة، فإن جاوز الميقات فله حالتان:
الأولى: أن يكون قاصدًا الحج أو العمرة.
والثانية: أن لا يقصد أحدهما.
 أما الحالة الأولى وهى أن يقصد حجًا أو عمرة:

o  فإن جاوز الميقات غير محرم فقد أساء ثم إن عاد فلا دم عليه، ويرجع أن أمكنه ما لم يحرم. وأما إن أحرم ثم عاد فالدم لا يسقط، ثم إن الدم إنما يسقط عنه إذا كان جاهلاً.
o  وأما إن جاوزه عالمًا بقبح ما فعله فعليه الدم ولا يسقطه رجوعه.
      وأما الحالة الثانية: وهى إذا لم يقصد أحد النسكين؛ كالنجار، فاختُلف في المذهب هل يجب عليهم الإحرام من الميقات، أو يستحب على قولين([16]).

المذهب الشافعي:
       إذا جاوز موضعًا وجب الإحرام منه غير محرم أثم وعليه العود والإحرام منه إن لم يكن له عذر، فإن كان له عذر؛ كخوف الطريق، أو الانقطاع عن الرفقة، أو ضيق الوقت، أحرم ومضى وعليه دم إذا لم يعد؛ فإن عاد  قبل الإحرام فإنه يُحرم منه والمذهب عند الشافعية أنه لا دم عليه سواء كان دخل مكة أم لا([17]).
        قال الشافعي في الأم: "فقال قائل: لم جعلت على من جاوز الميقات محرمًا([18])؟ قلت له: ارجع حتى تكون مهلاً في الموضع الذي أُمرت أن تكون مهلا به على الابتداء. ... فإن قال قائل: فلم قلت إن لم يرجع إليه لخوف فوت، ولا غير عذر بذلك، ولا غيره، اهراق دمًا عليه؟ قلت له: لما جاوز ما وقَّت له رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فترك أن يأتي بكمال ما عليه أمرناه أن يأتي بالبدل مما ترك"([19]). ويفهم من كلام الإمام الشافعي –رحمه الله-  وجوب الدم على من جاوز الميقات سواء كان لعذر أو غير عذر.

المذهب الحنبلي:
        وقد جاء عند الحنابلة قولهم: ولا يحل لحرٍ مسلمٍ مُكلفٍ أراد مكة، أو النسك، تجاوز الميقات بلا إحرام، إلا لقتال مباح، أو خوف، أو حاجة تتكرر؛ كحطَّاب ونحوه، فإن تجاوزه لغير ذلك لزمه أن يرجع ليحرم منه، وإن أحرم من موضعه فعليه دم([20]). قال في الإنصاف: "هذا المذهب سواء أراد نسكًا، أو مكة، وكذا لو أراد الحرم فقط"([21]).
قال ابن قدامة في المغني: "من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها فهم على ثلاثة أضرب:
1. من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة كالحشاش والحطاب ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها فهؤلاء لا إحرام عليهم.
2. من لا يكلف الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات أو أعتق العبد وبلغ الصبي وأرادوا الإحرام فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم.
3. المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم (فإن تجاوزه) رجع فأحرم منه فإن أحرم من دونه فعليه دم"([22]).

 الخلاصة والترجيح:
        مما سبق يتضح لنا أن المذاهب الأربعة كلها لا تُجيز تجاوز الميقات إلا بإحرام، فالحنفية: يُوجبون الدم على من تجاوز الميقات، سواء كان قصده الحج، أو القتال، أو التجارة، لا يفرقون؛ سواء كان لعذر أو لغير عذر.
 فإن رجع إلى الميقات فلبى سقط عنه الدم وإن لم يلب لا يسقط، وإن مضى في حجه ولم يرجع فعليه دم.
والمالكية، والشافعية، والحنابلة، يستثنون من كان عنده عذر؛ كالجاهل، وكخوف الطريق، أو الانقطاع عن الرفقة، أو ضيق الوقت، ومن يكثر ترداده؛ فهذا لا يوجبون عليه شيء. ومن تجاوز الميقات عند هؤلاء له حالتان:
1.   إما أن يرجع فهذا لا شيء عليه.
2.    وإما أن لا يرجع فعليه دم، ويمضي في حجه.

*  *  *
 

المسألة الثانية

لبس الرجال  المخيط  بعد الإحرام
        ومن الوسائل التي يتخذها كثير من الناس لاختراق أنظمة تنظيم أعداد الحجاج تعمدهم لبس ملابسهم العادية -المخيطة- حال مرورهم نقطة المراقبة (التفتيش)، وكما هو متقرر عند أهل العلم أن الحاج عليه أن يتجنب عدة أشياء عند عقده نية الدخول في النسك، ويسمونها (محظورات الإحرام).
         والمحظور هو: المُحَرم، وهو المعاقب على فعله، ويُقال: حظرت الشيء إذا حرَّمته، وهو راجع إلى المنع([23]). ومحظورات الإحرام كثيرة؛ من جملتها: تعمد لبس المخيط بالنسبة للرجل لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : " لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس([24]) ..." الحديث([25]).
        ونقل ابن المنذر الإجماع على عدم جواز لباس المخيط عند جميع أهل العلم، حيث قال: "ولا خلاف بين العلماء أن المخيط كله من الثياب لا يجوز لباسه للمحرم"([26]).
        ولا بد من تحرير كلام أهل العلم، ومرادهم من قولهم: (لبس المخيط)، ولعل مرادهم كما قال الشيخ ابن عثيمين: "مرادهم لبس القميص والسراويل وما أشبهه، فلهذا يجب أن نفهم كلام العلماء على ما أرادوه، ثم هذه العبارة: (لبس المخيط) ليست مأثورة عن النبي  صلى الله عليه وسلم ، وقد قيل: إن أول من قال بها أحد فقهاء التابعين إبراهيم النخعي([27]) رحمه الله وأما النبي  صلى الله عليه وسلم  فلم يقل للأمة لا تلبسوا المخيط"([28]).
        قال الكاساني –رحمه الله-: "ولو لم يجد رداءً وله قميص، فلا بأس بأن يشق قميصه ويرتدي به؛ لأنه لما شقه صار بمنزلة الرداء. وكذا إذا لم يجد إزارًا وله سراويل، فلا بأس أن يَفْتِق سراويله ويأتزر به؛ لأنه لما فتقه صار بمنزلة الإزار"([29]).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والسنة أن يحرم في إزارٍ ورداءٍ سواء كانا مخيطين أو غير مخيطين، باتفاق الأئمة، ولو أحرم في غيرهما جاز إذا كان مما يجوز لبسه ... وكذلك يجوز أن يلبس كل ما كان من جنس الإزار والرداء ... ولا يلبس ما كان في معنى السراويل: كالتبان([30]) ونحوه"([31]). وقال –رحمه الله-: "أن فَتْق السراويل، يجعله بمنزلة الإزار، حتى يجوز لبسه، مع وجود الإزار بالإجماع"([32]).
وقال النووي في المجموع([33]): "وإنما يحرم عليه لبس المخيط، وما هو في معناه، مما هو على قدر عضو من البدن، فيحرم كل مخيط بالبدن، أو بعضو منه، سواء كان مخيطًا بخياطة، أو غيرها".
ولابن قدامة في المغني([34]): "ولو لبس إزارًا موصلاً، أو اتشح بثوب مخيط جاز".
ومن هذه النقول يتضح أن العلة ليست في كون الملابس مخيطة، وإنما العلة في كونها مصنوعة على قدر البدن، فجاز لبس الملابس ما لم تكن مفصلة على البدن، ولا يترتب عليها الفدية([35]). وغالب الناس اليوم يلبسون –فيما يلبسون- القمص، والسراويل، عند مرورهم نقطة المراقبة (التفتيش)، وهما واردتان في الحديث السابق.
        وقد تكلم الفقهاء في لبس السراويل تحت مسألة من لم يجد الإزار يجوز له أن يلبس السّراويل إلى أن يجد ما يتّزر به، وللمحرم أن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار، لحديث: "من لم يجد الإزار فليلبس السراويل"([36])، واختلوا في إيجاب الفدية عليه إذا لبسه السراويل مع عدم وجود الإزار على قولين:

القول الأول:
وهو ما ذهب إليه الحنفية([37])، والمالكية([38]) أن من لبس السراويل سواء لانعدام وجود الإزار، أو لوجوده؛ فإن عليه فدية فعل محظور من محظورات الإحرام، وهي المنصوص عليها في قوله تعالى: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) ([39])، وقد قال ابن عثيمين عقب ذكره لهذه الآية: "وأوضح النبي  صلى الله عليه وسلم  أن الصيام مقداره ثلاثة أيام، وأن الصدقة مقدارُها ثلاثة آصع من الطعام لستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك شاة، والمراد شاة تبلغ السن المعتبر في الهدي، وتكونُ، سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء، ويُسمّي العلماء هذه الفدية فدية الأذى([40]).

ومما استدل به أصحاب هذا القول على أن من لبس السراويل عليه الفدية مطلقًا ما يلي:
1. حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق، وفيه أنه  صلى الله عليه وسلم  قال: " لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات...الحديث([41]).
2. ولأن ما وجبت الفدية بلبسه مع وجود الإزار، وجبت مع عدمه([42])، بمعنى آخر: أن من فعل هذا المحظور وهو لابسًا للإزار تجب عليه الفدية، فإذا وجبت الفدية مع لبس الإزار فكذا مع عدم لبس الإزار.
        وقد حدد السرخسي من الحنفية إيحاب الفدية على من لبس القمص أوالسراويل بأن يكون لابسًا لها اليوم كله فقال: "لو لبس قميصًا أو سراويل يومًا إلى الليل فعليه دم، وإن كان دون ذلك فعليه صدقة"([43]). وهذا القول أوجب دمًا الذي هو النسك كما في أية البقرة: ) فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ( ([44])، وهو ذبح شاة كما فسرها جمع من المفسرين([45])، وكما سبق ما نقلته عن الشيخ ابن عثيمين، وأوجب على من لبسه أقل من اليوم([46]) الصدقة، ولا أدري هل هي مطلق الصدقة أم ماذا يعني([47]) بها رحمه الله.
       وجاء عند المالكية([48]): "يجتنب المحرم أيضًا في حجه وعمرته مخيط الثياب لا خلاف في تحريمه على الرجال دون النساء، ولا خصوصية للمخيط بل كل ما أوجب رفاهية مخيطًا كان أو غيره وكذلك جلد الحيوان يسلخ فيلبس، أو ما لُبِد على شكل المخيط أو نُسج كذلك ولو طرح مخيطًا على بدنه من غير لبسٍ فلا فدية".
         وعليه فإن ثياب الإحرام والأُزُر التي يلبسها بعض الناس اليوم، وتكون مَخِيطَةً من الوسط بجمع طرفيها، أو فيها تِّكَّةٌ([49]) أو جيب لوضع حاجياته، وما أشبه ذلك لا تُعد من قبيل لبس المخيط، وهذا مما يعضد ما سبق ذكره من تحرير القول في مسمى المحيط([50]).

القول الثاني:
        وذهب الشافعية([51])، والحنابلة([52]) إلى أن من لبس السراويل مع انعدام الإزار فلا تجب عليه الفدية، لهذا العذر.
قال الإمام الشافعي –رحمه الله-: وإذا اضطر المحرم إلى لبس شيء غير السروايل والخفين لبسه وافتدى والفدية: صيام ثلاثة أيام، أو نسك شاة، أو صدقة على ستة مساكين، مدين بمد النبي  صلى الله عليه وسلم "([53]).
        وأصحاب هذا القول القائلون أن من لبس السراويل مع انعدام الإزار لا تجب عليه الفدية يعضدون قولهم  بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس  رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يخطب بعرفات يقول: "من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل للمحرم"([54]). 
        قال ابن قدامة في المغني: "وهو صريح في الإباحة، ظاهر في إسقاط الفدية؛ لأنه أمر بلبسه ولم يذكر فدية، ولأنه يختص لبسه بحالة عدم غيره فلم تجب به فدية، كالخفين المقطوعين، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما مخصوص بحديث ابن عباس رضي الله عنهما"([55]).

الخلاصة :

o  أوردت هذا الخلاف في هذه المسألة لما ذكرت أن غالب الناس اليوم يلبسون –فيما يلبسون- القمص، والسراويل، وإذا عُرف القول في لبسهما مع عدم وجود الإزار، وأنه عند الحنفية والمالكية عليه الفدية، ويجوز لبسها عند الشافعية، والحنابلة، وليس عليه فدية؛ عُلم –والله أعلم-أن لبسهما لمثل هذا الحالات يستوجب الفدية. وأما حجه من حيث الصحة فهو حج صحيح.

o  مرَّ معنا في هذه المسألة أن النهي الوارد عن لبس السراويل بسبب كونه مصنوعاً على قدر البدن، وعليه لو لبس المُحْرم ملابسه العادية (فانيلة مثلاً، أو سروالاً) ليس مخيطاً، وإنما أُبدل الخيط بمادة لاصقة تقوم مقام الخيط، فلا نقول عنه أنه لبس مخيطًا، فهذا مخرج فقهي شرعي إذا فعله الإنسان فلا شيء عليه –إن شاء الله-.
*  *  * *  *  *

__________________________

([1]) انظر: مقاييس اللغة، مادة (حرُم) (2/45)، ولسان العرب مادة (حرُم ) (12/119)، المصباح المنير، مادة (حُرم)، (1/131).
([2]) حاشية ابن عابدين (2/479)، شرح فتح القدير (2/429).
([3]) حاشية الدسوقي (2/3)، منح الجليل (2/230).
([4]) إعانة الطالبين (2/292)، فتح الوهاب (1/258). 
([5])  الروض المربع (1/467)، كشاف القناع (2/406). 
([6]) المصدر الميمي: هو ما بديء بميم زائدة، كالمضرب، والمقتل، فأصلهما: ضرب، قتل، فأدخلت الميم عليهما، ومثله ميقات، أصله وقت، يوقت، وقتًا، فأُدخلت الميم على هذا المصدر، والذي أصله موقات، فقيل ميقاتًا، فقلبت الواو ياء، مناسبة لكسر ميم المصدر، وسمي: مصدرا ميميًا. انظر: لسان العرب، مادة (وقْت)، (2/107)، وشرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب، لعبدالله بن يوسف بن عبدالله بن هشام، تحقيق : عبدالغني الدقر، الناشر: الشركة المتحدة للتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى ، 1984 م، (1/526).
([7]) الآية رقم (103)، من سورة النساء.
([8]) لسان العرب، مادة (وَقَتَ)، (2/107)، القاموس المحيط، مادة (وَقَتَ)، (1/208)، المصباح المنير، مادة (وَقَتَ)، (2/667).
([9]) انظر: أنيس الفقهاء (1/68)، المطلع (1/164).
([10]) أخرجه البخاري في كتاب الحج،  باب مهل أهل مكة للحج والعمرة (2/554)، رقم (1452)، ومسلم في كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة (2/838)، رقم (11).
([11]) أخرجه البخاري في كتاب الحج،  باب ذات عرق لأهل العراق (2/566)، رقم (1458)، ومسلم في كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة (2/840)، رقم (18).
([12]) بهذا للفظ لم أجد تخريجه، وإنما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، في كتاب الحج، باب من قال لا يجاوز أحد الوقت إلا محرم (3/411)، رقم (15464)، بلفظ: "لا يجاوز أحد ذات عرق حتى يحرم"، وأخرجه كذلك ابن أبي شيبه (3/411)، رقم (15463) بلفظ"لا يجاوز أحد الوقت إلا المحرم"، من حديث سعيد بن جبير. وانظر: نصب الراية (1/473).
([13])  فالحنفية يجيزون للحاج الإحرام من بيته، متمسكين بما أخرجه الحاكم في المستدرك عن علي  رضي الله عنه ، عند قول الله عز وجل: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)[البقرة آية 196]، أنه قال: "إتمامهما أن تحرم من دويرة أهلك". والحديث حكم عليه الألباني بنكارته، ، انظر: السلسلة الضعيفة (1/376)، رقم (210)، وانظر الكلام في الإحرام من بيته (دويرة أهله) في المغني (3/221).
([14]) أي: أن العبرة عندهم بالتلبية، وهي النية في الحج، فلو نوى الحج من بيته وتجاوز الميقات ليس عليه شيء، بينما لو تجاوزه وهو لابسا لملابس الإحرام ولم يلبي فإن عليه دم، فمدار الأمر على النية.
([15]) انظر: المبسوط (4/167-169)، بدائع الصنائع (2/164-165)، فتح القدير (2/426).
([16]) انظر: التاج والإكليل (3/43)، التلقين في الفقه المالكي (1/207-208).
([17])  روضة الطالبين (3/41)،  فتح الوهاب (1/264)، المجموع (7/148).
([18])  أي: لم جعلت عليه إهراق دم؟
([19])  الأم (2/144).
([20])  الروض المربع (1/465)، شرح منتهى الإرادات (1/526)
([21])  الإنصاف للمرداوي (3/427).
([22]) انظر المغني (3/221)، بتصرف.
([23])  انظر: لسان العرب، مادة (حظر)، (4/202)، أنيس الفقهاء (1/281).
([24]) البُرْنُس كل ثوب رأْسه منه مُلْتَزِقٌ به دُرَّاعَةً كان أو غيرها مما على شاكلتها،كالذي يلبسه المغاربة وغيرهم. انظر لسان العرب، مادة (برنس) (6/26).
([25]) أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب (2/559)، رقم (1468)، ومسلم في كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، وبيان تحريم الطيب عليه (2/833)، رقم (1177).  
([26]) انظر: التمهيد (2/254)، والاستذكار (4/14).
([27]) إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي الكوفي، الفقيه، ثقة إلا أنه يرسل كثيرًا، من الطبقة الخامسة، مات سنة ست وتسعين، وهو بن خمسين أونحوها. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (1/55).
([28]) مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (22/140).
([29]) بدائع الصنائع (2/184).
([30]) التُّبَّان بالضم والتشديد سَراويلُ صغيرٌ، مقدارُ شبْر، يستر العورة المغلَّظة فقط يكون للملاَّحين، (كالملبوسات الداخلية). انظر: لسان العرب، مادة (تبن)، (13/71).
([31]) مجموع الفتاوى (26/109).
([32]) شرح العمدة (3/34).
([33]) (7/229).
([34]) (3/231).
([35]) وبهذا يتضح جواز أن يلبس المحرم النظارة والساعة والحزام الذي يشد به إزاره ويحفظ فيه نفقته.
([36])  أخرجه البخاري، في كتاب الحج، باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين (2/654)، رقم (1744)، ومسلم في كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح وبيان تحريم الطيب عليه (2/835)، رقم (4).
([37]) المبسوط (4/126)، 
([38]) بداية المجتهد (1/239)، التاج والإكليل (3م141). 
([39]) الآية رقم (196)، من سورة البقرة.
([40]) الشرح الممتع (7/76)
([41])  أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب (2/559)، رقم (1468)، ومسلم في كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، وبيان تحريم الطيب عليه (2/833)، رقم (1177).
([42])  المغني (3/231).
([43]) المبسوط (4/126). 
([44]) الآية رقم (196)، من سورة البقرة. 
([45])كابن كثير في تفسيره (1/312)، وغيره.
([46]) وما يحتاجه هذا المار نقطة المراقبة أقل من ساعة.
([47]) أي صاحب المبسوط السرخسي. 
([48])حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني (1/694).
([49]) وهي رِبَاطُ السَّرَاويل. انظر لسان العرب، مادة (تكك) (10/406).
([50]) من أن المراد منه كل ما فُصل على البدن، وليس كل ما احتوى مخيطًا، انظر: ص (311-312).
([51]) الأم (2/203)، المهذب (1/208)، فتح الوهاب (1/262).
([52]) المغني (3/275)، الفروع (3/273)، الروض المربع (1/476).
([53]) الأم (2/203).
([54])أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب (2/559)، رقم (1468)، ومسلم في كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، وبيان تحريم الطيب عليه (2/833)، رقم (1177).
([55]) المغني (3/275).