الحج .. تجارتنا الرابحة .. ماذا تنتظر ؟
2 ذو الحجه 1432
سلوى المغربي

كلنا يكدح ويلهث في دروب الحياة , يكاد يقتلنا الظمأ ويشتد شوقنا لرشفة من الماء تبتل بها عروقنا , فإذا لاحت نسائم معين الماء اشتد سعينا لبلوغه وتلهفت أرواحنا للوصول إليه , فوا حر لهف قلوبنا للحج إلى بيت الله الحرام حيث تسكب العبرات وتكثر الأنات والتأوهات ضارعة أرواحنا لربنا سبحانه أن يغفر لنا الذنوب والهنات .

فما بال أقوام قد جمع الله لهم سبل الوصول إليه والقدوم عليه وهم يتأخرون عن أداء فريضته ؟! أما استبد بهم الشوق ليوم يرجعون فيه كيوم ولدتهم أمهاتهم ؟!! أما فاض بهم الصبر لطواف حول بيت الله العتيق ولصلاة في مقام إبراهيم ؟!

أما هطلت دموع عيونهم وقلوبهم عند رؤية الحجيج على جبل عرفات وتمنوا لو كتب الله لهم أداء تلك الفريضة وأذن لهم ربهم أن يكونوا من الوفد المصطفى للقدوم عليه ؟

فإذا كنت مسلما بالغا عاقلا مستطيعا فقد وجب عليك أداء فرض ربك وركن دينك , فلماذا تحجم وتمتنع , أتشغلك دنياك عن دينك ؟ ألم يصل إلى مسامع قلبك أن الحج – إذا اجتمعت لك شروطه – قد صار فرضا واجبا عليك وتأثم إذا قصرت فيه ؟

ألا تعلم أن تلك الفرصة التي سنحت لك ربما لا تتكرر لك ثانية أو ربما يحول الحول وتدور السنة وتكون أنت في باطن الأرض وقد أغلقت صحيفة أعمالك ؟

لماذا يؤجل بعضنا ويسوف أداءه للفريضة وهو يمتلك نعمة لا يمتلكها السواد الأعظم من المسلمين ممن يموت أحدهم وشوقه إلى الحج يلهب كبده ؟

وكيف تلقى ربك سبحانه وبم تجيبه عن عذرك فيما فرطت فيه بتقاعسك وتكاسلك

قال صلّى الله عليه وسلّم : " من أراد الحجّ فليتعجل" .[1]

ولقد جعل الله عز وجل حج بيته العتيق شرعة لأهل الإيمان به ، من لدن آدم عليه السلام إلى محمد خير الأنام صلوات الله عليه وسلامه , وجعل الكعبة المشرفة قبلة المسلمين في كل مكان تجتمع قلوبهم عليها في كل زمان، وجعل قلوبهم تهوي إلى حج بيته الحرام وكتب الحج في أشهر محددة بتوقيت معين وعبادة مخصوصة , فقال سبحانه "  الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ" 

والحج من أفضل الطاعات والقربات عند الله عز وجل، ومن أجل الأعمال الصالحة لمحو الذنوب ووسيلة للعفو والغفران وعودة صفحة الإنسان بيضاء خالية من سيئاته وفرصة عظيمة للعتق من النيران , فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "  من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه "  .[2]

 

وعن أم المؤمنين عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وأنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة " .[3]

 

وهو ركن من أركان بناء الإسلام من أنكره فقد كفر , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام" [4]

وسُئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟  قال: حج مبرور. [5]

وجوب حج البيت على الفور
جاءت الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بوجوب الحج على الفور مادامت توفرت وتحققت الاستطاعة , فعن ابن عباس- رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعارض له "  [6]

 

ويرجع سبب اختلاف العلماء في وجوب الحج على الفور أو إمكانيته على التراخي إلى اختلافهم في تحديد زمن نزول آيات الحج , "  فقيل في سنة خمس ، وقيل في سنة ست ، وقيل في سنة تسع ، وقيل في سنة عشر ، وأقربها إلى الصواب القولان الأخيران ، وهو أنه فرض في سنة تسع أو سنة عشر ,والدليل قوله تعالى : "  ولله على الناس حجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا "  ففي هذه الآية وجوب الحج وقد نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع ، فيكون الحج فُرض أواخر سنة تسع .[7].

 

أما قوله تعالى : " وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ " فقد ذكر المفسرون أنها نزلت في الحديْبيَّة سنة ست للهجرة - ولم يكن الحج قد فُرض بعدُ - فقيل أن المقصود بها الاعتمار وذكر الحج تبشيرا للمؤمنين بأنهم سيتمكنون من الحج فيما بعدُ  " أما آية فرض الحج على المؤمنين فهي آية " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا " فقالوا أنها أنزلت بعد ذلك سنة تسع أو عشر ولهذا كان أصح القولين أن فرض الحج كان متأخرا ومن قال إنه فرض سنة ست فإنه احتج بآية الإتمام ، وهو غلط ، فإن الآية إنما أمر فيها بإتمامها لمن شرع فيهما " [8]
والحج واجب على الفور كما قال بذلك أكثر علماء أهل الإسلام ، وأنه " لا يجوز للإنسان الذي استطاع أن يحج بيت الله الحرام أن يؤخره ، وهكذا جميع الواجبات الشرعية ، إذا لم تُقيد بزمن أو سبب ، فإنها واجبة على الفور " .[9]

 

وقد احتج بعض العلماء بالتراخي اعتمادا على تأخير النبي صلى الله عليه وسلم لحجته إلى العام العاشر استنادا لبعض لتفاسير والنظر إلى أعوام نزول الآيتين

 

بعض أسباب تأخر حج النبي صلى الله عليه وسلم :

- لم يكن في تأخيره صلى الله عليه وسلم للحج خوف فوات ، لعلمه صلى الله عليه وسلم من طريق الوحي أنه سيحج قبل موته ، لأن المانع في النهي عن تأخير الحج في حق الناس هو احتمال الفوات ، وقد قال الله تعالى لنبيه : ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ﴾

 

ـ  كان لتأخيره صلى الله عليه وسلم الحج من العام التاسع للعام العاشر العذر لكراهة الاختلاط في الحج بأهل الشرك، ولكي لا يشهد كل تلك المنكرات التي كانت من عادات حج الجاهليين , فقد  كانوا يحجون ويطوفون بالبيت عراة رجالا ونساء

 

وقد أرسل أبا بكر و علياً في العام التاسع ليحجا بالمؤمنين وليعلنا في الناس ألا يطوف بعد العام بالبيت مشرك ولا عريان؛ ونهى عن قول الشرك في التلبية فقد كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكاً هو لك تملكته وما ملك، قال تعالى: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً "

 

ـ لاشتغاله صلى الله عليه وسلم بالوفود وتمهيد قواعد الدين وتعليم العبادات والجهاد .

 

أدلة عامة على وجوب الإسراع بالعمل الصالح على الفور من الكتاب والسنة

الآيات الدالة على سرعة الإقبال على الله وطاعته كثيرة نذكر منها :

فقال الله عز وجل عن موسى عليه السلام  :" وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى " وقال عن آل زكريا عليه السلام " إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ " 

وأمر المؤمنين بالمسارعة والمسابقة فقال " وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ " وقال " سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ "

الأحاديث الدالة على الفور :

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أراد الحج فليعجل ، فإنه قد يمرض المريض ، وتضل الراحلة ، وتكون الحاجة " [10]

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "  تعجلوا الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له " [11] أي : ما يعرض له من مرض أو حاجة .

وفي أَثَرٍ صح سنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: "  من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه مات يهوديًا أو نصرانيًا "  ولم يصح بهذا المعنى حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
 

وليثق العبد أنه حين ينفق المال الكثير من أجل حجه واعتماره ، فقد وعده الله سبحانه أن يعوضه خيرًا مما بذل لأجل طاعته، قال تعالى:"  وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين "
وليتذكر أنه في ضمان الله وأمانه ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " ثلاثة في ضمان الله عزّ و جلّ رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله عز وجل , ورجل خرج غازيا في سبيل الله , ورجلٌ خرج حاجًّا " [12]
رزقنا الله وإياكم حج بيته الحرام عاجلا غير آجل وكتبنا من عتقائه الذين يباهي بهم ملائكته ويجعل لنا حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا , ورزقنا أن نقبل عليه بقلب خاشع خاضع منكسر مخلص مقبل غير مدبر ولا شحيح .

--------------------------------------------------------------------------------

[1] "  [رواه أبو داود 1732 وابن ماجه 2349 حسنه الألباني].

[2] رواه البخاري
[3] رواه مسلم

[4] رواه البخاري ومسلم
[5] رواه البخاري.

[6] رواه الإمام أحمد في المسند

[7] فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 11/10

[8] مجموع الفتاوى 26/7 .
[9] فتاوى ابن عثيمين 

[10] رواه الإمام أحمد

[11] رواه الإمام أحمد
[12]  صححه الألباني 3051 في صحيح الجامع.