تداعيات هزيمة "إسرائيل" وأمريكا في "اليونسكو"
1 محرم 1433
علا محمود سامي

اعتادت "إسرائيل" مدعومة بالولايات المتحدة الأمريكية استصدار قرارات ضد العرب وفلسطين تحديدا في المنظمات الدولية، وذلك بشكل دائم، وخاصة في كل ما من شأنه أن يدين واشنطن والكيان الصهيوني في مختلف المحافل الدولية.

 

غير أن القرار التاريخي الصادر عن منظمة الأمم المتحد للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو" بقبول فلسطين كدولة عضو بالمنظمة الدولية، يعد سابقة هى الأولى من نوعها خلال العقود الستة الماضية بأن يحقق العرب نصرا على أمريكا، حيث لم تترك الولايات المتحدة أي محفل إلا وتدين فيه العرب ، وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

 

غير أنه ، ومع هبات "الربيع العربي"، فقد كان الحال مختلفا، حيث هبت نسائم هذا الربيع على المنظمة الدولية ، بموافقة أغلبية الدول الأعضاء على قبول فلسطين عضوا بالمنظمة الدولية، في الوقت الذي لم تعبأ فيه المنظمة الدولية بحجم التهديدات الصادرة من واشنطن بوقف التمويل الأمريكي لهذه المنظمة، والمقدر بنحو 60 مليون دولار، كانت المنظمة الدولية على موعد لتسلمه مع حلول الشهر الجاري"نوفمبر".

 

إلا أن المنظمة الدولية كان لها رأي آخر في أنها رأت هذه المرة بأن تنحاز إلى الحقيقة والعدل، وتعلن العصيان لأول مرة عن بيت الطاعة الأمريكي، أو السير في فلك التهويد "الإسرائيلي".

 

على هذا النحو فهمت الدول الأعضاء بالمنظمة الأممية دورها الحقيقي الذي ينبغي أن يكون، ليكون داعما للحق والعدل، وليس إلى الزيف والتدليس ، على نحو ما يعرفه الكيان "الإسرائيلي" دوما بتشويه الحقائق، وما المؤامرات التي كان يدبرها في المنظمة الدولية عنا ببعيد بمحاولاته لضم مدينة القدس الشريف إلى آثاره المزعومة، علاوة على محاولاته السابقة بضم آثار فلسطينية أخرى، حيث نجح بدعم أمريكي وتآمر أممي في ضم هذه الآثار إلى تراثه المزعوم.

 

هذا التحول الذي صار في المشهد العالمي ، وخاصة الأممي منه يؤكد أن رياح "الربيع العربي" لم تتوقف فقط عند حدود دولنا العربية ، بل أصبحت نسائمه تهب على المنظمات الدولية، التي ظلت تعاني ردحا طويلا من الزمن تعاني من استبداد أمريكي ، وغطرسة إسرائيلية، إلى أن قررت التحرر من ربقة الهيمنة، وعولمة الاستعلاء. 

 

ولذلك أدركت الدول زيف ما كانت تنحاز إليه من قبل، ولم يعد يشغلها كثيرا تهديدات أمريكية أو تجاوزات إسرائيلية، وقرر بإرادتها أو بفعل المتغيرات الراهنة بعدما قررت الانحياز إلى الحقيقة والى الإرادة التي ينبغي أن تكون، في الوقت الذي ظهرت حقيقة الدول الكبرى ، وكشفت عن مئات المكاييل التي كانت تتعامل بها مع دولنا العربية والإسلامية،  بعدما أعلنت فيه أمريكا وإسرائيل بعدم تمويل المنظمة الدولية، في الوقت الذي رأى فيه المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية برنار فاليرو أن التصويت لصالح فلسطين كان غير مناسب ، كما أن المكان لم يكن مناسبا أيضا للسعي إلى انضمام فلسطين إلى عضوية "اليونسكو".

 

وفي هذا السياق ، تبدي فرنسا خشيتها من أن يكون قبول فلسطين عضوا بالمنظمة الدولية مانعا من قبول عضويتها في الأمم المتحدة، في الوقت الذي يتناسى فيه البعض أن "اليونسكو" واحدة من المنظمات الفرعية لمنظمة الأمم المتحدة، الأمر الذي يدحض أي ادعاء بشأن تبريرات الدول الكبرى ، بعدما تمكنت الدولة المحتلة من انتزاع حقها الطبيعي في الاعتراف بها دوليا، والتواجد في "فرعية" المنظمة الأممية.

 

والمتتبع لأهداف "اليونسكو" يجدها تتركز في نشر الثقافة والعلوم والتربية والثقافة، وهى المعاني التي تسعى إلى تسييدها المنظمة الدولية بدول العالم، ولذلك فعندما تهدد الولايات المتحدة الأمريكية ، أو تعلن صراحة بقطعها تمويلها عن المنظمة، فإن هذا الأمر يكشف للعالم أجمع أن هذه الدولة الكبرى ترفض سيادة قيم التعليم والتربية والعلوم والثقافة والتي قامت من أجلها "اليونسكو" بالأساس.

 

إن موقف أمريكا من المنظمة الدولية ليس بجديد عليها، فقد سبق لها مقاطعتها منتصف الثمانينات ، وعادت إليها في العام 2003، وذلك بعدما زعمت أن المنظمة الدولية تخوض حربا ضدها ، عقب تولي أحمد مختار إمبو، وزير التعليم والثقافة بالسنغال سابقا، إدارة المنظمة ، وهو الاختيار الذي جاء متمايزا ضد الرغبة الأمريكية في أن يتولى رئاسة المنظمة الدولية شخصية إسلامية.

 

وقتها زعمت الإدارة الأمريكية أن إمبو يضطهدها، ويعمل على تبني سياسة الدفاع عن حق التنوع والتعدد الحضاري في مواجهة خطر العولمة الأمريكية, وأنه يسعى إلى فتح أفق النقاش الحر حول حقوق الإنسان والسلام, ونزع السلاح, ووقف برامج التسلح النووي, والسعي إلي إقرار نظام دولي عادل ومتوازن للإعلام وحرية الحصول علي المعلومات لكل من يريد, دون احتكارها من دولة واحدة أو أكثر, وإشاعة التعددية الثقافية التي تحترم الهويات الثقافية, والتعامل مع ثقافات الشعوب كلها من منظور المساواة.

 

هذه القيم كلها لم ترق إلى الدولة التي تتدعي حماية كل هذه القيم، فعملت أمريكا على مقاطعة المنظمة الدولية، علاوة على ما سبق لها من تهديد قبل عامين بأنه في حال تولي شخصية عربية مسلمة رئاسة "اليونسكو" فإنها ستعمل على مقاطعة المنظمة، وبالتالي ستقطع عنها ميزانيتها ، والتي تمثل حوالي 25% من المنظمة الدولية، وذلك في إشارة إلى عدم تولي وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني رئاسة "اليونسكو".

 

وخلاف البعد السياسي في موقف أمريكا من قبول عضوية فلسطين بالمنظمة الأممية، فان أمريكا ترغب في أن تكون لها الذراع الطولي في المنظمة، بحيث تجعلها أداة طيعة لها ، فتعمل على ترويضها  وفق ما تذهب إليه من ثقافة ما يسمى ب"الكولا" أو العولمة التي تسعى إلى نشرها بدول العالم.

 

غير أن هذه المقاطعة يمكن أن تستفيد منها الدول الأوروبية تحديدا، وخاصة فرنسا، والتي تقع على أرضها "اليونسكو"، في ظل حماية باريس ذاتها لثقافتها من الأمركة، والغزو الذي يمكن أن تتعرض له من جانب واشنطن، وبالتالي فان فرنسا ستكون أكبر المستفيدين من الانسحاب الأمريكي من "اليونسكو"، بعدما استفادت من فترة مقاطعتها بأن جعلت اللغة الفرنسية هى اللغة الرئيسة في المنظمة، بعدما كانت الانجليزية هى اللغة الأساسية.

 

وفي حال تنفيذ أمريكا سعيها بوقف مساعداتها عن المنظمة، ومن ثم مقاطعتها، فإنها ستكون قد تعرضت لخسارة جديدة في معركة قادتها الدول العربية مدعومة بدول أخرى ، أصبحت تتنوق إلى الحق والعدل لقبول فلسطين عضوا في المنظمة، لتنكشف ازدواجية الدولة الكبرى تجاه قضايانا العربية والإسلامية من ناحية، علاوة على ما سيكون انسحابها بمثابة بروز قوي للدول الأوروبية في المنظمة الدولية، من ناحية أخرى، الأمر الذي حتما سيساهم في تعزيز تغيير موازين القوى بدول العالم، والذي لابد أن يكون مستفيدا منه العرب والمسلمون.