29 ربيع الثاني 1434

السؤال

كان والدي يسافرُ كثيرًا ويتركنا ووالدتي، أحيانًا أسبوعين وأحيانًا أكثر، بحجة العمل، مع أنه يذهب بصحبة أحد رفاقه، الذين لا علاقة لهم بالعمل، وكانت والدتي تتشاجرُ كثيرًا مع والدي عند سفره، ولكن والدي كان يصرُ على الذهاب. مرت سنوات، ونحن على هذا الحال، ولكن عندما طفح الكيل بوالدتي، امتنعت عن النوم مع والدي، وأصرت على ذلك، حوالي تسعة أشهر، كان والدي يحاول خلالها الرجوع، ولكنها كانت ترفض. وبعدها بفترة علمنا أن والدي تزوج من أخرى، عندها زاد غضبُ والدتي، واستمرت في نومها بمفردها، رغم محاولات والدي الكثيرة، والتي باءت بالفشل، لكنها مع ذلك تقوم بخدمته؛ فتقدم له الطعام والشراب.
وسؤالي: هل تأثم والدتي على هجرها لوالدي؟، فهي ترى أنها قدمت له الكثير، وأرادت عصمته من الشر، وأنه قابل كل ذلك بالنكران، والزواج من أخرى، ووالدي يرى أنه لم يُخطئ، وأنه ليس الوحيد الذي يسافر. أتمنى أن أجد لديكم الإجابة، فأنا أخافُ على والدتي، من أن تكون مذنبه، أو أن تلعنَها الملائكةُ، مع أننا حاولنا معها مرارًا، ولكنها كانت تغضب وتبكي، لذا توقفنا عن ذلك، خوفًا عليها من أن يرتفع ضغطها، لأن عندها الضغط. فماذا أفعل؟. أفيدونا مأجورين. جزاكم الله خيرًا، ورفع قدركم في علييّن.

أجاب عنها:
همام عبدالمعبود

الجواب

أختنا الفضلى:
السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكِ، وشكر الله لكِ ثقتكِ بإخوانِكِ في موقع (المسلم)، ونسأل الله (عز وجل) أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، وأن يجعل في كلامنا الأثر، وأن يتقبل منا أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعلها كلها خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل فيها لمخلوق حظًا،...آمين.. ثم أما بعد:
بداية أوصيكِ ونفسي بتقوى الله (عز وجل)، في السر والعلن؛ ففيها النجاة والمخرج من كل ضائقة؛ قال تعالى: (وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، كما أوصيكِ بالاعتصام بالله (سبحانه وتعالى)، ففيه الهداية إلى أقوم الطرق، والعصمة من كل فتنة، قال تعالى: (وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، فاعتصم بالله، وفر إليه، استعن به على شياطين الإنس والجن، وعلى نفسك التي بين جنبيك.
أختنا الكريمة:
لفت انتباهي وأنا أقرأ رسالتك، ذلك القدر من الحب الذي تكنيه لأمك، والذي بدا لي من قولك: "طفح الكيل بوالدتي"، و"مع ذلك تقوم بخدمته؛ فتقدم له الطعام والشراب"، و"أخافُ على والدتي، من أن تكون مذنبه، أو أن تلعنَها الملائكةُ"، و"خوفًا عليها من أن يرتفع ضغطها"، وكلها كلمات تنبي عن برك بأمك، إشفاقكِ عليها، وخوفك عليها من أن تقع فيما يغضب الله، أو أن تستحق لعنة الملائكة، أسأل الله أن يجزيك عنها خيرًا، وأن يكتب لك هذه المشاعر والنوايا الطيبة في ميزان حسناتك يوم القيامة.. اللهم آمين.
وأما عن ردي على أسئلتك، فإنني أستعين بالله تعالى وألخصه في النقاط التالية:
1- وقوع الخلاف والتشاجر بين الزوجين، هو أمر ليس بالجديد، فغالب الأسر إن لم تكن جلها، بصيبها مثل هذا، بل أكد أجزم بأنه لا يخلو بيتٌ من الخلافات الزوجية، والتي هي في الأساس حصاد الضغوط اليومية والحياتية، التي يعاني منها كلا الزوجين، الرجل في عمله، من رئيسه أو مرؤوسيه أو زملائه، أو عملائه أو ....إلخ، والمرأة في بيتها، من الأولاد أو الواجبات المنزلية الشاقة التي تقوم بها، وخاصة في عالمنا العربي، من تنظيف الدار، وإعداد الطعام، وتسوية الفراش، وغسل الملابس وكيِّها، وقم الغرف، وترتيب الأسرة، و....إلخ. حتى إذا أنهت واجباتها، تكون قد وصلت للنهاية، وتكون قد أصيبت بالتعب والإرهاق، فضلاً عن أن الجميع لا ينتبه للتخفيف عنها ولو بكلمة، يطري فيها على جهدها الشاق في النظافة والترتيب، والثناء على طعامها طيب المذاق، وهذه آفة تقع فيها معظم البيوتات.
2- الحب بين الزوجين، قد يقل بمرور الأيام، ما لم يجد اهتمامًا به، تمامًا مثل النبات، يحتاج بعد زراعته إلى الاهتمام والسقي، والرعاية والري المنتظم، وإزالة الحشائش الضارة التي تنمو حوله، فتضعفه وتؤثر عليه بالسلب، ومشكلتنا في عالمنا العربي، الذي بَعُدَ عن دينه كثيرًا، وانشغل بدنياه كثيرًا، فصار الرجل يجري ليل نهار وراء جمع المزيد من المال، فمن تجارة إلى تجارة، ومن سفر إلى سفر، ومن صفقة إلى صفقة، وهكذا تتلقفه الدنيا، وتتلاطمه أمواج الحياة، حتى تستهلك وقته كله، فلا يبقى في خاطره أن يهتم بزوجته، أو أن يصحبها في سفره لتستمتع وتقضي أجمل الأوقات معه، بعيدًا عن الطاحونة التي تأخذها كل يوم في زحمة البيت والأولاد، لدرجة أنها قد تنسى أنها زوجة لرجل يحتاجها ليروي ظمأه، ويأنس بها، ويعف نفسه عن الوقوع في الحرام، الذي صار متاحًا في شوارعنا، ليل نهار.
3- الكثير من النساء الصالحات - ربما بسبب ما ذكرنا من انشغالها الدائم والمستمر في قضاء حاجيات البيت والأولاد- تقصرُ في حق زوجها، وتغفل عن مطالبه كرجل وزوج، وتنسى أنه يقضي أكثر من نصف عمره، في العمل، وفي الشارع، وفي السفر، وأنه يتعرض – بسبب هذا – لفتن كثيرة، من زميلات في العمل، أو الدراسة، أو رفيقات في السفر، ومن ثم فإنه عندما يعود لبيته يكون أحوج لزوجه من الطعام والشراب والراحة، غير أنه يصطدم بزوجة أرهقها القَمُّ والتنظيف، وأجهدها الطبخ والغسيل، وطحنها البيت بحاجاته التي لا تنتهي، والأولاد بمطالبهم التي ليس لها نهاية، فيأتيها وقد أضحت جثة هامدة، لا تقوى على ملاطفته وتلبية احتياجاته، ولها ألف عذرٍ وعذر.
4- ومشكلتنا كمسلمين الآن أننا لا نلجأ إلى الإسلام إلا بعد فوات الأوان، نصدر له المشكلات ونطلب منه الحلول العاجلة، رغم أننا لا نهتم في حياتنا بالالتزام بما أمرنا به من قواعد وأصول، نبني على أساسها حياتنا الزوجية، ولم نعبأ بتوجيهاته ونصائحه وتعليماته، فضلا عن أن غالبنا لا يراعي الوسطية والاتزان في حياته، ولا ينظم أموره ومهامه على أوقاته، ولا يربي أبناءه على الاعتماد على النفس، والمساعدة في أمور البيت، فلو كان كل واحد منا يساعد فيما يخصه فقط، لخف الحمل عن الأم، ولصار لديها من الوقت والجهد ما تعتني بزوجها، وتهتم بشئونه الخاصة، ولوجد الزوج راحته في بيته، فأحب المكث فيه، ما لم يكن مشغولاً بعمل حقيقي، ولوجد السعادة والهناء مع زوجه التي أحبها وقضى معها نصف عمره، ولما اضطر للنظر خارج داره، وسعى للزواج بأخرى.
ونصيحتي لوالديّك الكريميّن، يمكن رصدها في عدة نقاط هي:
1- ألا نبكي على اللبن المسكوب: فالزواج بأخرى صار واقعًا لا فكاك منه، ويجب التعامل معه على أنه حقيقة، ومن ثم فإن على الزوجة (والدتك) أن تتقي الله في زوجها، إن أرادت أن تبقى على ذمته كزوجة، فلا تهجر فراشه، ولا ترد طلبه ، ولا تكشر في وجهه، ولا تمتنع عن محادثته، وأن تعيش حياتها كما أمرها الله عز وجل.
2- ألا تفركه وأن تتذكر عشرته الطيبة: فبالتأكيد أن حياتهما الطويلة حفلت بالكثير من المواقف الطيبة، والذكريات الجميلة، والأيام التي لا تنسى، واللحظات السعيدة، إذ لا يعقل أن تكون حياتهما خالية من السعادة والهناء، فعليها أن تتذكر له الخير، وتنسي له الشر، حتى تدوم العشرة، وتستمر سفينة الحياة، إن لم يكن من أجلهما فمن أجل أولادهما الذين لا ذنب لهم في هذه الحياة، وهذه الخلافات، وهذه الفرقة التي تحيل البيت جحيمًا لا يطاق، وتوشك أن تهدم الدار التي تظلهم.
3- فإن كانت غير راغبةً في العيش معه كزوجة، وإن كانت قد قررت مقاطعته كزوج، فعليها أن تطلب الطلاق منه، فهذا مما يميز ديننا الإسلامي، وشرعنا الحنيف، أما أن يعيشا سويًا وكأنهما زوجين، فهذا أمر لا يجوز من الناحية الشرعية، ولا يصح من الناحية الواقعية. وحتى لا تعيش معه تحت سقف واحد، وهي تمنعه نفسها، فتهجر فراشه، فتستحق لعنة الملائكة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ: "إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا، بَاتَتْ تَلْعَنُهَا الْمَلائِكَةُ". قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: (حَتَّى تَرْجِعَ).
4- نختلف أو نتفق مع والدك، غير أن زواجه بأخرى، أمرٌ مشروع، فهو لم يرتكب فاحشة، ولم يعشق امرأة أخرى، ولم يضبط متلبسًا بفعل مجرم شرعًا، إنما تزوج زواجًا شرعيًا، على سنةِ الله ورسوله، الله يعلمها، وهو يعرفها، وإن كنا من الناحية الإنسانية نلومه على الزواج على السيدة التي "قدمت له الكثير"، وعاشت معه دهرًا من الزمان، غير أنه في النهاية تزوج زواجًا شرعيًا، أي أنه فعل حلالاً ولم يفعل شيئًا محرمًا، من ثم يجب علينا أن نتعامل مع الأمر على هذا النحو – على قسوته على الأم.
5- ونصيحتي لوالدك، أن يسعى بكل السبل على تعويض والدتك، عن السنوات التي مرت، فيهتم بها أيما اهتمام، فيقدم لها الهدايا، ويصحبها في بعض سفرياته، ويكثر الجلوس معها، ويكثر من الاعتذار لها، وتطييب خاطرها، وإن كان ميسورًا فليكتب لها دارًا، أو عقارًا أو يمنحها مالاً أو نحو ذلك، ليشعرها بأنه باقٍ على عشرتها، ومتمسكٌ بصحبتها، وليزيل الشكوك والمخاوف التي تنتابها على حياتها ومستقبلها، وأن يعوضها عما فقدته في مسيرة حياته، وعما قدمته له من مساعدات لينجح في عمله، فهذا مما يديم العشرة.
6- عليكم جميعًا أن تعلموا أن لزوجته الثانية عليه حقوق، فلا تضيعوها، ولا تدفعوه إلى إهمالها، بل الواجب عليكم – شرعًا – أن تساعدوه على البر بها، حتى لا يهملها، ويسيء عشرتها، فيستحق غضب الله عليه، فهي ليست مذنبة، حتى تعاقبوها، كما يجب أن تعاملوها على أنها زوجة أبيكم، وفي مكانة أمكم منه، فبهذا تستحقون الأجر والثواب، من الله عز وجل.
7- أنصحكم بالترفق مع أمكم ، وحسن معاملتها، وأن تتجنبوا ما يغضبها، فإن الغضب أساس المرض، وهو عدو مرض ارتفاع ضغط الدم، شفها الله وعافاها من العلل والأمراض، ورفع قدركم أجمعين، وجعلكم من الجنة في علييّن. اللهم آمين.