الزهد ..مفاهيم أساسية (3)
2 صفر 1433
د. خالد رُوشه

6ـ مُتألم يا طالب الدنيا, مُتألم!!
إن كل من طلب الدنيا وسعى لها تعذب وتألم بها, فهم يتعذبون بالحرص على جمعها وبالتعب الشديد في تحصيلها ومقاساة أنواع المصاعب والآلام والمشاق في طريق جمعهم للمال والمتاع, فأنت تجد من حصَّلها يحكي ذكرياته فيقول: "لطالما تألمنا وتعبنا وتعذبنا حتى جمعنا المال", ولكنك تراه يظل متألمًا حتى يموت.

 

فلا تجد أتعب ممن الدنيا أكبر همه وهو حريص بجهده وقوته على جمعها.
* فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة, ومن كانت الدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له) (1).

 

قال ابن القيم (2) رحمه الله: "ومن أبلغ العذاب - لطالب الدنيا - تشتيت الشمل وتفريق القلب وكون الفقر نصب عيني العبد لا يفارقه, ولولا سكرة عشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب, على أن اكثرهم لا يزال يشكو ويصرخ منه, وفي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: ابن آدم, تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك, وإن لم تتفرغ لعبادتي ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك ) (3), قال رحمه الله : وهذا أيضًا من أنواع العذاب, وهو اشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومقاساة معاداة أهلها كما قال بعض السلف: "من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب", قال: ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث: هم لازم, وتعب دائم, وحسرة لا تنقضي؛ وذلك أن محبها لا ينال منها شيئًا إلا طمت نفسه إلى ما فوقه, كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديًا من ذهب لتمنى أن يكون له واديان, ولا يملا عين ابن آدم إلا التراب, ويتوب الله على من تاب ) (4)

 

7ـ أنت وما تحب:
إذا كان يوم القيامة جمع الله سبحانه بين كل إنسان وما كان يحب من دون الله سبحانه؛ فصاحب المال المحب له الذي أضاع عمره في جمعه يُجمع مع ماله الذي لم ينفقه في سبيل الله ولم يخرج زكاته, ويتمثل له ماله ثعبانًا يلدغه ويكوى بماله من وجهه وظهره.

 

ومن أحب صاحبًا واتبعه في غير مرضاة الله سبحانه جمعه الله معه يوم القيامة, فخسرا جميعًا, والذين توادوا في الدنيا على الذنب وتجمعوا عليه يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضًا.

 

قال الله تعالى: {الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ}
[الزخرف:67]
ويقول سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً. يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً}
                                                                                                                   [الفرقان: 27, 28]
وقال سبحانه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22, 23].

 

* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمثل لصاحب المال ماله شجاعًا أقرع يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول: أنا مالك, أنا كنزك, ويصفح له صفائح من نار يكوى به جنبه وجبينه وظهره ) (5)

* وعن عبد الله بن مسعود, وأنس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب ) (6)

8ـ الناس والدنيا:
الناس في الدنيا أربعة أصناف, كلها مذمومة إلا صنف واحد محمود:
فالصنف الأول:
نوع من الناس ضعيفو الثقافة, كثيرو الجهل, بالغو الغفلة, يصح أن نطلق عليهم "الجهلة", هذا النوع يغفل عن عاقبته ومستقبله الأخروي، وصارت حياتهم لا أمل لها ولا هدف إلا أن يعيشوا أيامهم في الدنيا فيجهدوا أنفسهم لأجل كسب المال, ثم لأجل القوت والطعام والشراب, فهم يأكلون ليكسبوا, ويكسبون ليأكلوا, فلا هم تنعموا في الدنيا ولا هم تعلموا الدين.

فإنهم يتعبون أنفسهم نهارًا ليأكلوا ليلاً, وهو حال لا ينتهي, وسفر لا ينقطع إلا بالموت, فتجده يفارق الدنيا كأنه دخل أرضًا لغيره, فظل يعمل فيها ويتعب نفسه, وإذا تعب أكل وإذا أكل قام واشتغل حتى إذا جاع أكل, ثم مات في مكانه وأُخذ ودفن وكأن أحدًا لم يكن!!

والصنف الثاني:
نوع من الناس رأى أن المقصود من حياته في الدنيا أن يتنعم بها, ورأى أن سعادته في أن يتمتع بما فيها من شهوات, فنسوا أنفسهم واهتموا أكبر اهتمامهم بالنساء والشهوات, وسعوا بجهدهم إلى حب النساء وعشقهن وأدمنوا ذلك.

وقد يستطيع أحدهم أن يصل لمراده وقد لا يستطيع، وبذلوا أنفسهم لأكل ألذ الأطعمة, وترى أحدهم يشتري بماله الآلات الحديثة التي يشاهد من خلالها متعته وشهواته, فيشتري الطبق الهوائي ليرى الفجور في قنواته المختلفة, ويشتري "الفيديو" ليرى الأفلام الإباحية, ويشترك في الانترنت ليتابع كل شهوة جديدة, ويتابع المجلات المصورة بالصور الخليعة, وإذا سألته قال لك: دعني أمتع نفسي, فصار شعاره في الحياة أن يمتع نفسه بما يشتهي سواء عنده: أرضي ربه أم سخط.

والصنف الثالث:
نوع من الناس ظنوا أن سعادتهم في الدنيا لا تتحقق إلا في كثرة المال وجمعه وادخاره؛ فسهروا ليلهم وتعبوا نهارهم في جمع المال والكسب, فهم يتعبون في السفر ليلاً ونهارًا ويترددون على الأعمال الشاقة, ويحرصون على جمع كل صغير من المال, ولا يستقلون مالاً يجمعونه, ولا ينفقون مما يجمعون من المال شيئًا أبدًا إلا بشق الأنفس شحًا وبخلاً أن ينقص ذلك المال, وتراهم شحيحين بخلاء بهذا المال حتى على أبنائهم وزوجاتهم ووالديهم, وهذه لذتهم في دنياهم, وهذه طريقتهم حتى يدركهم الموت فيترك ماله لورثته.
فيكون للجامع تعبه ووباله وللوارث لذته وكسبه, ومن عجب العجاب أن جامع المال ينظر إلى أمثاله ممن ماتوا وتركوا المال ولا يعتبر أبدًا ويظل على حاله, ويدفنهم بيديه, ويعود يبكي على درهمه الذي أنفقه, فعجبًا!!

 

الصنف الرابع:
نوع آخر ظنوا أن سعادتهم في الدنيا في الجاه والمكانة والمنزلة وطاعة الناس له, وتواضعهم له وتوقيرهم إياه, فجعلوا حياتهم كلها إلى اتساع جاههم ومكانتهم ومراكزهم وسلطانهم.

وكلما انقاد لهم أناس أكثر كانت سعادتهم أكثر, ويرون أن ذهاب حياتهم مع ذهاب مناصبهم وسلطانهم, فتراهم لا يتصورون أنفسهم أبدًا بغير سلطان أو إمارة, وهم في سبيل ذلك يستحلون الوسائل, ويعتبرون أن غايتهم تبرر وسائلهم, وهؤلاء يجمعون يوم القيامة كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم.

 

أما الصنف الخامس:
وهو صنف الصالحين فهم الذين اتخذوا الدنيا معبرًا إلى الجنة واتخذوا صالح الأعمال فيها وسائل إلى رضا الله سبحانه ورحمته, ولم يبالوا بالدنيا, فزهدوا فيها وتقللوا من الأخذ منها ولم يغرهم بريقها ولا زخرفها, فعاشوا أعزة باستغنائهم عن الدنيا وعن الناس وتعلقهم بالله الكبير المتعال.
قال سفيان الثوري: من سُر بالدنيا نُزع خوف الآخرة من قلبه.

 

9ـ مَثَلُ الحياة الدنيا:
قال الله سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45].

 

ذاك مثل الحياة الدنيا, ماء ينزل فيختلط بنبات الأرض ويتركه هشيمًا تذروه الرياح, آيات تلقي في النفس معنى الفناء وصورته ومثله ومعنى الزوال وقلة الدنيا وهوانها.

 

 

فالمال والبنون زينة الحياة, والإسلام لا ينهي عن المتاع بالزينة في حدود الطيبات, ولكنه يعطيهما القيمة التي تستحقها الزينة في ميزان الخلود ولا يزيد, إنهما زينة ولكنهما ليسا قيمة, فما يجوز أن يوزن بهما الناس, ولا يجوز أن يقدروا على أساسهما في الحياة, إنما القيمة الحقة للباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال والعبادات.
وإذا كان أمل الناس عادة يتعلق بالأموال والبنين, فإن الباقيات الصالحات خير ثوابًا وخير أملاً عندما تتعلق بها القلوب, ويناط بها الرجاء ويرتقب المؤمنون نتاجها وثمارها يوم الجزاء.  ( يتبع )
---------------------------------------

1- رواه الترمذي وابن ماجه, وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم 3313. وقال الإمام الألباني - رحمه الله ـ: "راغمة: أي مقهورة, والحاصل أن ما كتب للعبد من الرزق يأتيه لا محالة إلا أنه من طلب الآخرة يأتيه بلا تعب, ومن طلب الدنيا يأتيه بتعب وشدة" صحيح ابن ماجه جـ 2 ص393.
2- إغاثة اللهفان - ابن القيم ص 76
3- رواه الترمذي وقـال: حسن, ورواه ابن ماجه وابن حبان, وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم 3315
4- البخاري 6074 باب ما يتقى من فتنة المال, ومسلم 1048, باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثًا.
5- البخاري 1338, كتاب الزكاة, باب إثم مانع الزكاة عن أبي هريرة رضي الله عنه.
6- رواه البخاري ومسلم, البخاري برقم 5816, باب علامة الحب في الله, ومسلم برقم 2640, باب المرء مع من أحب.