نار الوساطة مع النظام ستحرقك إن لم تخرج منها
15 صفر 1433
مجاهد مأمون ديرانية

لقد أركبوك مركباً صعباً -يا أبا الوليد- حين وسّطوك فيما لا تصحّ فيه وساطتك، فاخرج منها قبل أن تتلوث بها، إني لك من الناصحين. إن لك في قلوب السوريين محبةً كبيرة فلا تُضِعْها، وإن لحماس مكانةً عالية فلا تَضَعْها. لقد سارت حماس وسط الألغام وعبرت ما مضى من الطريق الصعب بسلام، فلماذا تضيّعُ صبرَ وصمتَ عشرة شهور حين لم يبقَ لنظام الإجرام من العمر إلا أيام؟

 

“العربي” الذي وسّطك يعلم أن الخلاف بين الطرفين لا محل فيه لوساطة، ولو كان يحبك أو يحب حماس لما وسّطك، فاعصِه وأطع قلبك وعقلك فإنهما يهديانك إلى الحق إن شاء الله.
لقد علمتَ أن التوسطَ في هذه الأزمة نارٌ أحرقت كل من دخلها، فاخرج منها سِراعاً قبل أن تدركك النار، اخرج قبل أن تأكلك النار. لقد سبقك حسن صاحب حزب الله، فاحترق واحترق حزبه فهما اليوم رماد، لا رَدّه الله ولا رَدّ حزبه، لا بواكي لهما بعد اليوم. ثم تلاه المالكي، ولو أنه كان شيئاً لاحترق كما احترق صاحبه، ولكنه لم يكن إلا حطبة متفحّمة، لا رَدّه الله، لا بواكي له في الدنيا اليوم. أما حماس فإنها أمل الأمة وصاحبة السوابق والمكرمات، ولو أنها احترقت لبكتها مئة مليون عين، فلا تُبكِ العيون عليها ولا تقتحم بها النار من أجل نظام فاجر كَفّار.

 

عن أي حل سياسي تتحدث؟ لو كان الخلاف على مال لَحُلّ الخلاف بدفع المال، ولو كان الخلاف على أرض لَحُلّ الخلاف بِرَدّ الأرض، أمَا والخلاف على عشرة آلاف نَفْس بريئة أُزهقت بغير حق، فإن الخلاف لا يُحَلّ إلا بعودة كل نفس إلى صاحبها. أتملك أن تحيي الموتى؟ أمَا والخلاف على مئة ألف معذّب وأسير أُسروا وعُذّبوا بغير حق، فإن الخلاف لا يُحَلّ إلا بفكّ أسر كل أسير وبُرئه من كل سَقم وعاهة. أتملك أن تفك الأسرى جميعاً وأن تردّ عليهم ما نَهِكَه منهم الإجرام والتعذيب؟ منهم من فقد في التعذيب يده، أترد عليه يده التي قُطعت؟ منهم من فقد في التعذيب عينه، أترد عليه عينه التي قُلعت؟ وحرائر الشام… أما أتتك أخبار الحرائر؟ أترد على حرائرنا المسلمات العفيفات الشرف المسفوح؟

 

لا بل إن الخلاف أكبر من عشرة آلاف ومن مئة ألف وأكبر حتى من مليون ضحية، الخلاف على أعمار ثلاثين مليون نَفْس أفناها الأسدان المجرمان، الوالد والولد، في الذل والهوان. ثلاثون مليون سوري ضاعت أعمارهم في سجن الاحتلال الأسدي الكبير، ولن يُحَلّ الخلاف إلا بإعادة سنوات العمر الضائعة إليهم أجمعين. أتملك أن تعيد العمر الضائع إلى كل واحد من أولئك الملايين الثلاثين؟

 

حل سياسي؟ وما هو الحل السياسي يا أبا الوليد؟ عندما ترضى للقدس حلاً سياسياً سيرضى أهل سوريا لسوريا حلاً سياسياً مثله. عندما ترضى للفلسطينيين أن يتفاوضوا مع اليهود على حل وسط يُرضي الطرفين سيرضى السوريون أن يتفاوضوا مع عصابة الأسد على حل وسط يرضي الطرفين.

 

أليس ينبغي على الوسيط أن يفهم المشكلة قبل أن يتوسط لحلها؟ أما علمت أن الدم المُهراق لم يترك على أرض سوريا طرفين مختلفين، بل هما نقيضان ما عاد يصحّ اجتماعهما إلا إذا صحّ اجتماع الماء والنار أو صحّ اجتماع الليل والنهار؟ لقد أقسم الشعب الثائر بعرش الرحمن أنه لا يستسلم حتى يموتَ أو يسقطَ النظام، فإن كان الحل السياسي يتضمن فَناء الشعب أو سقوط النظام فإنه حل يَبِرّ بالقسم، فهاتِه، وإن يكن غيرَ ذلك فلن يَحنث ثوارُ سوريا بقسم أشهدوا عليه أهل الأرض وأهل السماء.

 

لا يا أيها الأخ الغالي؛ لم يعد الأمر إصلاحاً بين طرفين مختلفين، فإن الشعب الذي قدّم للقاتل الأب في ثلاثمئة من الشهور مئةَ ألف قربان بين شهيد وفقيد، ثم قدم مثلهم للقاتل الابن في ثلاثمئة من الأيام، هذا الشعب ما عاد يرضى بأقل من رأس رئيس النظام ورأس كل مجرم من مجرمي النظام؛ فإن كان الحل السياسي الذي تتحدثون عنه سيأتينا بهاتيك الرؤوس قبلنا الحل، وإلا فاتركوا أهل الشام الكرام فإنهم قادرون -بعون الله- على تصفية الحساب مع سلالة القتل والإجرام. لقد قطعوا الشوط الأطول من طريق الفداء وحدهم، ما كان معهم إلا الله، وما دام الله معهم فإنهم سيكملون وحدهم الطريق إن شاء الله.

 

 

(المحرر: بعد أن كتب الكاتب هذه المقالة، انهالت عليه رسائل النقد لحماس أو لـ"الإسلاميين" عموماً؛ فكتب المقالة التالية موضحاً)

 

 

حماس: كلمة حق وإنصاف

 

لم أعلم -حين نشرت أمس رسالتي إلى الأخ خالد مشعل- أيّ غضب كان مكتوماً محبوساً وراء الباب، وكأن الرسالة فتحت ذلك الباب فتدفق الغضب كالسيل، منه ما وصلني في رسائل شخصية ومنه ما نُشر تعليقاتٍ على المقالة، بعضها أنصف وبعضها ابتعد عن الإنصاف، فبدأتُ بالجواب عليها فُرادى، ثم رأيت أن الأمر يطول ويشقّ عليّ، فأحببت أن أنشر الجواب عاماً ليقرأه من شاء كما نشرتُ المقالة الأصلية نشراً عاماً فقرأها من شاء.

 

بعض الإخوة الذين علّقوا على المقالة بلغ بهم الانفعال مبلغاً حملهم على ذمّ كل فريق إسلامي في كل بلد عربي على الإطلاق، ولهؤلاء أقول: أرجو أن لا يدفعنا الغضب والضيق إلى ظلم غيرنا، فكما أننا نأبى أن نُظلَم فكذلك لا ينبغي أن نَظلم؛ ما أبشعَ أن ينقلب المظلومون ظالمين!

 

لقد كشفت ثورةُ سوريا المباركة مواقفَ الناس وميّزت الخبيث من الطيب، فرأينا أن مَن وقف معنا في كل مكان هم الإسلاميون والإسلاميون فقط؛ أليسوا هم مَن حشد لدعم الثورة السورية الحشودَ في الأردن ولبنان؟ أليسوا هم من تصدى كتّابُهم ونقابيّوهم لشبيحة النظام الأسدي في البلدَين وفي سائر البلدان؟ مَن وقف مع الثورة السورية في الكويت والسعودية والبحرين ومصر وتونس وليبيا والجزائر والمغرب غيرُ الإسلاميين؟ ومَن كان المدافعون عن النظام الأسدي سوى اليساريين والشيوعيين والبعثيين والقوميين؟

 

لقد أثبتت هذه الثورة المباركة -كما أثبتت أحداثٌ جِسام سبقتها- أن الأمة المسلمة جسد واحد، لا يُصاب منه عضو إلا انتفض نجدةً وانتصاراً له سائرُ الجسد، وأن الإسلاميين -على اختلاف أشكالهم وانتماءاتهم- هم طليعةُ الأمة في النجدة والانتصار.

 

أمّا حماس فما عرفناها -منذ عرفناها- إلا جماعة مجاهدة صابرة على الحق حين انفَضّ عن الحق أكثر الخلق، وما عرفنا أحداً من أصحابها، من أبي الوليد وغيره، إلا قدّم لله ولفلسطين أكثرَ ما يستطيع أن يقدمه امرؤ لأمته فيما نحسب، والله حسيبهم. فمِن أين جاءت هذه التهمة الغريبة التي قرأتُها في غير قليل من التعليقات: أنهم من الذين باعوا آخرتهم في سبيل دنياهم أو أنهم ركبوا مركب الثورة لمكاسب ومآرب ومناصب وامتيازات؟ وأيَّ كسب جَنَوه وهم مُشَرّدون مُشتّتون وقد كانوا يملكون -لو شاؤوا- أن يستقروا في أي بلد من أفضل البلدان؟ أمَا إن المكاسب تأبى إلا أن تَمُدّ أعناقها، ودونكم رجال “السلطة”، انظروا كم يملكون من الدور والقصور والسيارات والدولارات والشركات، ثم انظروا إلى رئيس وزراء الحكومة الشرعية (ويسمّونها “المُقالة” زوراً) في غزة: أين يسكن وما هي ثروات أبنائه؟ فأما مسكنه فلا يرضاه لنفسه من قرّاء هذه المقالة تسعةٌ من كل عشرة، وأما الأولاد فمنهم من يطارده اليهود ومنهم من سكن اللحود.

 

إن “حماس” تجتمع مع حزب الله في المصير بعد سقوط النظام السوري، لأنها لم تجد من يؤويها -للأسف- سواه، ومع ذلك انظروا إلى الفرق الهائل بين موقفها وموقف حزب الله: الحزب دعم نظام الأسد بكل شيء وحارب الشعب السوري بكل شيء، وحماس رفضت حتى أن تسيّر مظاهرة مؤيدة للنظام في مخيمات اللاجئين، ورفضت الاستجابة للطلب الإيراني والضغط الإيراني بإعلان موقف داعم للنظام. كم بين الفريقين!

 

لنعترفْ بالحق، فالحق ينبغي أن يُجهَر به: إن صمت حماس في الشهور الماضية هو بحد ذاته موقف إيجابي، فقد أبَتْ أن تقف مع النظام لا في السرّ ولا في العلن، وأصرّت على الحياد الظاهر لأنها لا تملك أكثر منه، وكنا نتمنى فقط أن تستمر على ذلك الموقف ولا تُعلن رأياً يوحي بأن النظام والشعب متساويان في الميزان. هذا هو ما أخذناه على الأخ أبي الوليد في الأسبوع الأخير وما وددنا أن لا يقوله ولا يفعله، وهو ما نتمنى أن لا يقوله ولا يفعله من الإخوة في حماس أحدٌ منذ اليوم.

 

* * *
يا أيها السادة: أنا لا أتكلف الدفاع عن حماس ولست واحداً من أهلها، ويشرّفني لو كنت كذلك، ولا يربطني بها سوى ما يربط بها أكثرَ القراء: حبّ وفخر ودعاء. لا أتكلف الدفاع عنها، ولكني لا أرضى لها الظلم كما لا أرضاه لثورتنا المباركة. ثم إن من حق اليتيم على اليتيم أن يكون الواحدُ منهما رِدءاً للآخر، ونحن وحماس في اليُتم سواء، فكما تخلى العالم عنا تخلى العالم عنهم، وكما تُركنا لنواجه وحدَنا نظامَ احتلال مجرم تُركوا هم ليواجهوا وحدَهم نظامَ احتلال مجرم، فلنكن لحماس ردءاً وناصراً ولنطلب منها أن تكون لنا ردءاً وناصراً، ولنجتمع كلانا ونضع اليد في اليد في مواجهة ظلم البُعَداء وتخلّي الأقرباء والأصدقاء. هذه دعوة للطرفين معاً، لحماس وللثورة السورية، المنصورتين جميعاً بإذن الله.

 

إننا نستسهل لوم حماس ولوم أبي الوليد، ولا نكاد نذكر أن الأمة تخلت عنه وعن قضيته وقضيتها الكبرى، قضية فلسطين، حتى إذا مُدَّت إليهم يدٌ بمساعدة لم يستطيعوا رفض المساعدة، ليس من أجل أنفسهم ولكن من أجل شعب يموت على عين الدنيا والدنيا صامتةٌ صمتَ سكّان القبور. أترون -لو أن المسلمين كَفَوا حماس مؤونتها- أن القوم كانوا وجّهوا وجوههم شطر إيران أو شطر نظام الأسد المجرم؟ لقد تخلينا عن القضية وتخلينا عن حماس طَوال السنين، ثم جئنا نلومهم اليوم! ألا يطلب بعضُنا اليومَ النجدةَ من أميركا، وأميركا هي العدو الذي غزا ودمر البلدَ الشقيق والجار القريب، العراق العربي المسلم، وقتل وشرد من أهله المسلمين ملايين؟ أليس ثوّار سوريا أعلنوا ذات يوم استعدادهم للتحالف مع الشيطان؟ إن الغريق يتشبث بيد الشيطان لو مدّ يدَه لانتشاله من الغرق الشيطان! ليس مَن يغلي في القدور كمن يشرب الماء والعصير.

 

يا أيها السادة: إنما نعتب على حماس على قَدْر المحبة، ولو شئتُ لأرسلت الرسالة إلى أبي الوليد من حيث لا يقرؤها أحد سواه، ولكنْ لِيعلمَ الناس أنّا نرجو من إخوتنا ما لا نرجوه من سواهم، فإنا قد نفضنا اليدَ من أدعياء المقاومة المزيفين وبقي الأمل معقوداً على المجاهدين الصادقين من أمثالهم. ولعلهم يخطئون ويزلّون فإن دروبَ السياسة مزالقُ الحكماء، وإنا لنختلق لهم العذر في المرة بعد المرة، ولكن ما كلَّ مرة تَسلم الجرّة، لذلك ننصحهم ونذكّرهم، وندعو لهم الله أن يسدد رأيهم وأن يدلهم على منهج الحق وطريق الصواب، وأن يثبّتهم عليه ويجزل لهم الثواب.

 

يا أيها الإخوة في حماس: هذا ما نرجوه منكم وهذا ما نرجوه لكم. غداً سيطوي التاريخُ الأسدَ المجرم ونظامَه الملوّث بدماء الشهداء، فاعملوا لذلك اليوم منذ اليوم لِنشتركَ معاً في قطف ثمار الانتصار، وتذكروا أن الطريق إلى القدس يمر من دمشق، والطريقُ مغلَقٌ لن يفتحَه إلا زوالُ بشار وحكم بشار.