10 رمضان 1433

السؤال

أنا شابٌ نشيط، لديّ خبراتٌ في الحرف اليدوية، وبارٌ بوالدي، ومؤهلي العلمي جيد جدًا. جميعُ أفراد عائلتي يعتمدون عليَّ، ولكني أردتُ أن أطورَ من نفسي، فاستقمتُ، وأردتُ أن أتوجه في طلب العلم الشرعي، فالتحقت بالجامعة، لكنني لم أكمل، وأحبطت، وتركتها. ورجعت لذنوبي، وصرت كسولاً، لا أعمل، ولا أحسن التعامل مع الناس بخُلُقٍ حسن، وتشتتُ، وتدهورت حالتي، وصارت أسوأ من السابق.
لا أعرف كيف أزكي نفسي، مع أن هناك منافسين كُثَّر، مع العلم أن في نفسي أن أحفظ القرآن، وألتحق بالجامعة الإسلامية، وأن اعتمد علي نفسي، لكنني أخشى من العُقَد، التي أصابتني في السابق أن تتكرر. أفيدوني حفظكم الله.

أجاب عنها:
همام عبدالمعبود

الجواب

أخانا الحبيب:
السلام عليكَ ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكَ، وشكر اللهُ لكَ ثقتكَ بإخوانِكَ في موقع (المسلم)، ونسأل الله (عز وجل) أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، آمين.. ثم أما بعد:
بداية اسمح لي أن أحييّ فيك أمورًا عدة قل أن تجدها في الكثير من شبابنا هذه الأيام، وهي: أولاً: "نشاطك" في زمنٍ قل فيه النشطاء وكثُرَ فيه الكسالى، ثانيًا: امتلاكك لـ"خبراتٌ" نافعة، في وقت يعيش فيه الكثيرون بلا أية خبرات يمكن تعود عليهم بالنفع، ثالثًا: "برُك بوالديّك"، في عصر طفح فيه العقوق حتى صار خُلُقًا للكثير من شباب الأمة، رابعًا: أنك "مؤهلٌ علميًا" بدرجة "جيد جدًا"، خامسًا: اعتماد "جميع أفراد عائلتك عليك"، وكلها صفاتٌ حميدة، ونعمٌ كثيرة، أدعوك لأن تشكر الله عليها، ليزيدك من فضله، وأحذرك ونفسي من كفر نعمه سبحانه وتعالى، قال جل شأنه في محكم التنزيل: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم -7].
أما عن رغبتك في "تطوير نفسك"، فهي رغبة محمودة، ونيةٌ مأجور عليها إن شاء الله تعالى، ويؤكد صدق نيتك أنك أتبعت هذه الرغبة الطيبة بخطوة عملية وهي أنك "استقمت"، فعن أبي عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي (رضي الله عنه)، قال: قلتُ: يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: (قل آمنت بالله، ثم استقم) [رواه مسلم في صحيحه].
ومما يدل على أن هذا ديدنك وخلقك، أنك أردت أن تطور استقامتك على طريق الإسلام، قررت أن تتوجه "في طلب العلم الشرعي"، لأنه كما قالوا (لا وصول إلا بالأصول)، من أجل هذا فقد "التحقت بالجامعة الإسلامية"، لتحصل العلوم الشرعية من مصادرها الأصيلة، وهو توجهٌ محمود.
غير أن ما استوقفني في رسالتك قولك: "لكنني لم أكمل، وأحبطت، وتركتها"، وهنا يجب أن يكون لنا معك وقفة، تتعلق بالطبائع البشرية، فالإنسان بطبعه لا يستمر على حال واحدة، وإنما يتقلب في أمورٍ عده، وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "إن لكل عمل شرّة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك" [أخرجه البيهقي]. فهذه سنة الله في خلقه، غير أن على المسلم الواعي أن يجدد النية، ويعاود العزم متى غالبه الكسل أو الإحباط أو الملل، وأن ينشط مجددًا، ولا يستسلم لليأس فإنه مقعد للهمم.
أما عن قولك "رجعت لذنوبي"، فعلى الرغم من قبح الذنوب والمعاصي، وخطورتها على قلب المسلم، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يبقى في الذنوب متى عاد إليها بحيل ومكر وخداع وتسويف شيطانه، لأن الأمر مرتبط بنقص الإيمان وزيادته، لأن الثابت عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وأعمال البر، وينقص بالمعاصي والذنوب، ومن ثم فإن أقصر الطرق للخروج من براثن الذنوب والمعاصي هي التوبة، والتوبة كما هو معلوم تقتضي (التوقف عن الذنب في الحال + الندم على ما فات + العزم على عدم الرجوع للمعصية + طلب السماح ممن أذنبت في حقه من البشر).
أما كل ما ذكرته في رسالتك من قولك: "صرت كسولاً"، و"لا أعمل"، و"لا أحسن التعامل مع الناس بخُلُقٍ حسن"، و"تشتتُ"، و"تدهورت حالتي، وصارت أسوأ من السابق"، فهذه كلها – أخي الحبيب- أعراضٌ وليست أمراض، نعم هي أعرض طبيعة لمرض "العودة إلى الذنوب"، والذي أسلفنا الحديث عنه، ومن الخطل أن نجتهد في البحث عن علاج لهذه الأمور، فإنه لا يجدي طالما بقي المرض الأصلي، والمتعارف عليه طبيًا أن إذا تم علاج المرض الأصلي فإن الأعراض المترتبة عليه تنتهي تلقائيًا، بينما تفشل كل محاولات علاج الأعراض في القضاء على المرض الأصلي المسبب لها.
وردًا على قولك: "لا أعرف كيف أزكي نفسي"، فإنني أقول وبالله التوفيق، أن تزكية التنفس تكون بأمرين اثنين لا ثالث لهما:
1- مقاطعة المعاصي والذنوب: وهو أمر يحتاج على معرفة بخطورتها، وعلم بوجوب مقاومتها، ونية صادقة على الترك، وعزم لا يلين على البعد عنها، وعدم العودة إليها، مهما كانت المغريات، ودعم للنفس حتى لا تضعف أما إغراءات الشيطان لها.
2- الإكثار من الطاعات وفعل الخيرات: قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود- 114]، وقال جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج- 77].

فإذا ما قاطعت المعاصي والذنوب، وأقبلت على الطاعات وفعل الخيرات تنهل منها قدر استطاعتك، فسيكون سهلاً عليك آنئذ أن "تحفظ القرآن"، وأن "تكمل دراستك بالجامعة الإسلامية"، وأن "تعتمد علي نفسك"، وساعتها لن يراودك الخوف من تكرار "العُقَد، التي أصابتك في السابق"، فتوكل على الله، اصدق الله نيتك يوفقك إلى كل خير، وكن مع الله يكن اللهُ معك، ومن كان الله معه فهو منصور، وشيطانه مقهور، أقبل على الله بالطاعات يقبل عليك برحمته، واعلم أن الله مع المتقين، وصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأميّ، وعلى آله وصحبه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.