ما بعد الثورات العربية
14 ربيع الثاني 1433
د. محمد العبدة

ما بعد الثورات العربية (1)

نجحت ثورات عربية في اقتلاع الحكم الفردي المستبد، وإن كان نجاحا نسبيا ويصادف عراقيل كثيرة عند بعضها، وتصدر الاسلاميون النسب الأكبر في الفوز بالانتخابات وهذا يدعو للتأكيد على أن نجاح ثورة ما لا يعني نهاية الأمروكأن ذلك كان الغاية، والأصح أنها هي البداية، فربان السفينة لا يكفيه أن تقلع سفينته بل يجب عليه أن يراقب سيرها باستمرار من أجل تعديل الإتجاه من حين لاخر، ولإن الوعاء السياسي يستوعب نشاطات كثيرة مفيدة فإن نجاح الثورة يعني البناء الجديد بجميع جوانبه الفكرية الثقافية والسياسية والإقتصادية.

 

إن البناءات السابقة كانت في خدمة الدكتاتورية ،وللإستمتاع بخيرات البلاد وإنفاقها على شهوات الطغاة ومسراتهم. إن بقايا العهد البائد لن يكونوا (كومة) من الرجال سوف يمحوها ويفتتها مرور الزمن، ولكنهم سيحلمون بالعودة من النافذة وبطرق شتّى مثل إنشاء تكتلات سياسية تدعي الديمقراطية وتستفيد من الحرية المتاحة.

 

إن من عقابيل بعض الثورات أنها تحتضن أنصارها وأعداءها على السواء، وترفع شعارات موحدة ولكنها لا تستطيع أن تفرق بعد نجاحها بين من كان معها ومن كان عليها، فتأتي النتيجة طبعة هجينة من السياسة والثقافة. ومن عقابيل الثورات التي قد لا يُتنبه لها ان الثائرين الناجحين يتخذون الطرق نفسها التي درجوا على إدانتها في مواجهة الخصوم عندما كانوا في المعارضة.

 

ومن رحم هذه الثورات سيكون هناك ساسة يحكمون البلاد ، هم مطالبون بأن يقوموا بالواجبات ، وأن يعيشوا لأهداف كبرى وأهداف نبيلة ، وهم مدعوون دينيا وأخلاقيا لخدمة الأمة ، وهذا شيء طبيعي وهذا ماتعارفت عليه الأمم في بلدان أخرى ، وهو السياسي الذي ينشده الشعب ، السياسي الذي يخطط للأجيال القادمة، فالوطن ليس أرض الآباء وحسب بل هو أرض الأبناء أيضا ،الثورة لاتريد السياسي الذي يعيش من السياسة أي يستفيد منها لأهوائه الشخصية سواء كانت مالا أو جاها أو حبا للرئاسة أو انتقاما من خصومه. وإنما تريد السياسي الذي يعي مسؤوليته ولا يستسلم للضغوط التي يمكن أن تمارس عليه، ولا يورط نفسه مع قوى شيطانية تخادعه وتبعده عن هدفه، لا أعتقد أن هذا مطلبا صعبا أو من قبيل طلب المعجزات

 

ما المانع أن نرى السياسي الذي يمتهن السياسة كدعوة، أي أنه شغوف بها لخدمة المبادئ والقضايا الكبرى التي يؤمن بها، ولن ينجح أي إصلاح سياسي – مجتمعي إلا إذا انبثق من أعماق الإيمان بتحمل المسؤولية، وإذا كان العمل السياسي فيه جهد وتعب ومعاناة ويحتاج إلى بعد نظر ولكن هذا لا بد منه فإن خطأ الجاهل بالطب قد يودي بشخص واحد وأما الخطأ في السياسة فإنه قد يودي بأمة بأكملها، وذلك حين تنفصل السياسة عن الأخلاق والدين ويدير شؤونها الدجالون والمحتالون.

 

ليس مهما إحراز السلطة بأي وسيلة ولو كانت وسيلة شريرة والنظام العادل ينجح ولو في المستقبل ، ولذلك تحدث مؤرخو الحضارات عن سقوط الدول والأمم بسبب تدهور الأخلاق. 
نريد السياسي الذي يملك الشجاعة لأن يقرر ما يعتقده، وهذه صفة قل أن نجدها في السياسيين المعاصرين الذين يتخذون السياسة حرفة لمصالحهم حيث يتكلمون دائما بكلمات غامضة تصلح لكل زمان ومكان، وذلك لخوفهم أن يقال عنهم أن لهم فكرا معينا، هناك أوهام ذات ضجيج قد ترعب الجبناء ولكنها تذهب عندما تأتي الجسارة والإقدام وقول كلمة الحق. إن مايقال عن احتمال حرب أهلية في سورية هو من قبيل الأوهام ، وما يقال عن مشكلة الأقليات هو من قبيل الأوهام ، والجرأة في قول كلمة : لا تنهي هذه المغالطات

 

تريد الثورة السياسي الذي لا يكون أسيرا للشعارات التي ترفع للتوافق والمصالحة على حساب المبادئ والقيم الأساسية. تريد السياسي الذي ينتصر على أكبر عدو له ألا وهو الغرور والزهو بأعماله وهذا داء متفشٍ، وينتصر على السلبية في التصرفات حين لا  يدافع أن أي قضية هامة وهو يظن أنه ينأى بنفسه عن المشاكل.

 

ستفشل سياسة بلا تربية تغرس في المشتغل بها تفضيل مصلحة الدين ومصلحة الأمة على مصالحه الشخصية، وتغرس فيه الفضائل الأخلاقية التي تجعله سهلا ميسرا لأمور الناس.
ستفشل سياسة تؤدي بصاحبها إلى البعد عن العلم النافع ولو ساعة من ليل أو نهار بحجة انشغاله بالمباحثات والتنازلات.
ستفشل سياسة تريد قطف الثمرة قبل أوانها والقاعدة الفقهية تقول: (من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه)
ستفشل سياسة تخلي الساحة للفكر الصلب، فكر إجماع الأمة لصالح الفكر الرخو، فكر تضخيم مشكلة الأقليات والقوميات الصغيرة والطوائف الصغيرة ويصبح المجتمع مهددا بالتفتت والإنقسام ،ويكون ذلك لصالح الأعداء والشامتين .

مابعد الثورات العربية (2)

الحديث هنا عن أصناف من الناس يشككون في نجاح الثورات العربية التي قامت لمواجهة الإستبداد والفساد ، بعض هؤلاء يذكرون دليلا على مايرونه الأخطاء التي تقع هنا وهناك ، ويشعرون الآخرين أن الأمور لاتسير على مايجب أن تسير عليه ، وكأن هذا الصنف من الناس لايتوقع النجاح لأي عمل في البلاد العربية ، وكأن أحدهم يخاف من النجاح حتى لايفكر بما سيتحقق بعد النجاح .

 

وصنف آخر هو مسكون بنظرية المؤامرة فهو لايتخيل أن يكون هناك تحرك ليس وراءه الغرب ولسان حاله يقول : هل من المعقول أن تقوم ثورات وتغيير في الأوضاع الراهنة دون تدخل من الغرب . هؤلاء وإن كانوا لايملكون دليلا على أقوالهم ولكنهم يرتابون في أي تحرك سياسي كبير ، ونقول لهؤلاء : إذا كان الغرب هو الذي رعى وأيد الديكتاتوريات في العالم العربي ، وإذا كانت الحرية هي في النهاية لصالح الناس وصالح المسلمين ، فهل يكون الغرب وراء إعطاء الحرية للشعوب العربية ، إن هذا تناقض ووساوس . نعم الغرب أيد وساعد في إبعاد طغاة مصر وليبيا ولكن مصالحه الإقتصادية كانت هدفا له في ليبيا ، وفي مصر لم يرد الغرب أن يكون مع الرهان الخاسر ووقف مع الثورة ،ولكنه التف عليها عن طريق بقايا النظام ، وهنا يكون الواجب على من نجحوا في الإنتخابات أن يصححوا المسار وأن يعملوا بإخلاص لإنجاح الأهداف الكبرى لإقامة وتكريس الحرية السياسية .

 

وهناك صنف هم بسطاء يخدعهم الكلام عن ( الإمبريالية ) وأن أمريكا تحاصر الدول التي تتصدى لها ويظنون أن النظام السوري يتعرض لمؤامرة عالمية بسبب وقوفه في وجه أمريكا . ولايعلم هؤلاء أن هذا النظام لم يقاتل يوما العدو الصهيوني وهذا يرضي أمريكا ، ولو أرادت أمريكا إزاحة هذا النظام عن كاهل الشعب السوري لأزاحته بشتى الطرق والوسائل ، وهؤلاء البسطاء تؤزهم الدعاية الإيرانية وحديثها الكاذب عن مجابهتها لأمريكا، ونحن نعلم أن أمريكا تركت العراق تحت سيطرة ايران ، والخلاف هو حول النووي فقط .

 

هذا الصنف الذي تحدثنا عنه هم فئة قليلة لأن كثيرا ممن خدعوا في السابق بشعارات الممانعة والمقاومة قد عرفوا الحق ورجعوا إليه. ثم لنقل لهؤلاء جميعا : كيف كان المشهد العربي في الدول التي قامت فيها هذه الثورات ونجحت في العض ونأمل أن تنجح في الباقي ؟ ألم تكن هذه الأنظمة التي غادرت غارقة في الطغيان وإفساد البلاد سياسيا واقتصاديا وثقافيا ، والآن عادت الحرية والكرامة للإنسان وهذا هو طريق الإصلاح والنهوض . ومن الطبيعي أن تقع أخطاء وعوائق ، فالعيش تحت الإستبداد عشرات السنين يفسد الحياة الإجتماعية ، والحرية هي التي تسمح بتصحيح الأخطاء مادام هناك صحافة حرة تنتقد وهناك أحزاب تتنافس للحصول على صوت الناخبين ،
كيف يقدر الغرب أهمية هذه الثورات ولو كان من وجهة نظر خاصة وبعضنا لايقدر أهميتها مع أنها تعتبر مرحلة تشكل تاريخي في غاية الأهمية للقابل من الأيام ، ذلك لأنها تعني الإستمرار في الإصلاح وليست انتفاضة مؤقتة ، وهي ثورات تريد التغيير الى الأفضل وهذا مانتوقعه ، وهي ثورات شعبية وليست تابعة لفئة معينة أو لحزب معين .

 

إن الديكتاتورية لاتأتي بخير ، فقد يكون ( هتلر ) بطلا قوميا بنظر الشعب في عهده ، وأقام صناعات وهزم دولا ، ولكنه فشل في نهاية الأمر أمام ديمقراطية بريطانيا وأمريكا . وفي القرآن الكريم قال تعالى لموسى عليه السلام ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) فجعل سبب إرسال موسى هو طغيان فرعون ، وكذلك من الأسباب حاجة الناس إلى رسول يخلصهم من الظلم والضلال .
يعتقد الناس في بريطانيا أنه من الضروري من وقت لآخر تغيير الحكومة ، ليس الفاشلة فقط وإنما الناجحة أيضا ، لأنها ( مع الزمن ) إما أن تصبح غير فعالة أوأنها تصبح مغرورة .