أبناؤنا المرفهون !
19 ربيع الثاني 1433
أميمة الجابر

عجبا لهذا الزمان , عجبا له على كل مستوى , حتى أسرنا صار فيها كل غريب , الابناء يرتشفون الصفات المستغربة , ويخالطون مجتمعات بها من الخلل الكثير , فلا يستطيع آباؤهم كبح جماح سلوكهم , وإن حاولوا أصيب أبناؤهم بأمراض أخرى من الانطواء وضعف الشخصية وانتشار الأمراض النفسية !

أصبح الكثير من الأبناء يتقمصون شخصية الآباء في ظاهرها فحسب ,فيأمرون وينهون , ويصرخون في وجه الجميع , لكن عندما تريد أن تستخدم أحدهم في فائدة أو مصلحة يعتوره النفور , وينتابه الكسل والوخم , ويتنحى عن العمل .

فالأم تبذل طاقاتها وتحمل نفسها ألوان المعاناة حتى ينتهي ابنها من دراسته فتفرح بيوم تخرجه وفي اليوم التالي تبدأ تحمل هما جديدا فتتساءل يا ترى في أي عمل تضع ولدها وتبدأ تعرض على ولدها الاقتراحات لكيفية الحصول على الكسب الحلال لتؤهله لخطوة الحياة الطيبة ..

 لكنها سرعان ما تتحطم آمالها عندما تجد ابنها ملازما لثلاثة أشياء لا أكثر!! النوم الكثير , الجلوس أمام التلفاز , والخروج مع الأصحاب .!
فتمر الايام والشهور , وتبدأ الأم في الإلحاح ليتحرك ولدها للبحث عن أي عمل فلا تجد إلا ابنا يريد من يقدم إليه الطعام أمامه فيطعمه , ويقدم له ألوان الثياب الجديدة المختلفة , ويعطيه من المال ما ينفق , دون الشعور بأي مسئولية ملقاة عليه !

إن كثيرا من الأبناء قد عاشوا الحياة المرفهة المنعمة حتى غاصوا فيها غوصا , وحتى صار الإخشوشان بالنسبة لهم نوعا من دونية واستقباح !
وعندما تعرض عليهم بعض الأعمال يرفضون مجرد فكرتها مادامت تلك الأعمال قاصرة عن موجة الترف التي يركبها ليل نهار !

إن أصل المشكلة ترجع لنا نحن وأسبابها ترجع لطريقتنا في تربية أولادنا , فالخلل يتربى في الولد منذ أول يوم ينحيه أبوه عن تولي مسئوليات الأعمال,  والتهاون يبتدىء من أول موقف يجنب فيه الوالدان ابنهما عن الجهد والمشقة والكد والعمل .

إنني أم مثل تلك الأمهات ولست أتحامل على الأمهات لأني أعلم كثيرا مما يعانين مع سمات ذلك العصر الجديد بكل مافيه , لكنني أريد أوضح بعض المحاور المهمة كنماذج قد يكون لها دور فيما ينتاب أولادنا من كسل وقعود ربما يصل حد العجز عن الأداء , وهي نقاط تطبيقية حياتية مشتركة :

أولا: ما يمكنني تسميته بالأثر السلبي للحنان الزائد والتدليل لهؤلاء الأبناء منذ الصغر والذي يبدو عند كثير من الأمهات , فقد تثقل الأم على نفسها بقضاء حوائجها وطلباتها اليومية وتترك ابنها نائما في فراشه بحجة أنه ليس عنده الخبرة ولا المعلومات الكافية للتسوق أو لقضاء حاجيات البيت , وتتركه يكبر على انعدام تلك الخبرة , وما ينتج عنها من جهل في التعامل مع الناس أو في حسن اختيار مشترياته أو مثاله .

ثانيا : إهمال الاهتمام بهوايات الأبناء وما يتميزون فيه سبب آخر من اسباب العجز , فتنمية مهارات الطفل في إطار حرية منظمة تدفعه للعمل الجاد والمثمر وتنمي لديه فكرة تكبر معه يوما بعد يوم , فيأتيه يوم يصبح فيه متميزا في مجال من المجالات قد كون خبرات متراكمة فيه مع معلومات عنه , يستطيع بها أن يتقدم خطوات عملية , ومن الواضح هنا انني أتكلم عن الهوايات النافعة التي يمكن أن تكبر مع الإبن فينتفع هو بها وينتفع بها مجتمعه ( قرأت خبرا منذ أيام عن طالبين في كلية هندسة الإسكندرية في السنة الثانية اخترعا طائرة بدون طيار تتكلف عشر تكاليف غيرها من الطائرات وبها من الإمكانات ما يفوق غيرها , كل ذلك بإمكانات محدودة جدا )

ثالثا :  منع  الأبناء عن أداء بعض الأمور المعتادة التي يقوم بها الأب كإصلاحات المنزل , والقيام بحل المشكلات الفنية الطارئة فيه وعندما يتكلف الإبن بدور ما فيؤديه , ويجد تشجيعا ودعما نفسيا من ابيه يترك ذلك في قلبه حبا للأداء والإنجاز والعمل , أما منعهم عن مثل ذلك خوفا عليهم فهو أيضا نوع من خوف سلبي في غير مكانه .

رابعا : من المهم تشجيع الأبناء الذكورعلى الاهتمام بأخواتهم البنات مع إظهار شهامتهم ورجولتهم , فيكون مسئولا عنهن في اصطحابهن لقضاء لوازمهن , مع خدمتهن وحمايتهن لدفع الخوف عنهن والمحافظة عليهن فيستفاد من تلك الفرصة في تكوين نفسيته الرجولية وتعليمه المروءة والحرص على العرض وحماية الضعيف .

خامسا : التدرج في كل شيء حسن , فلا ينبغي أن نترك الابن صغيرا دون التوجيه ثم بعد الكبر ندفعه دفعا للالتحاق بأي عمل بل ونزجه فجأة فيشعر بالفشل وعدم القدرة على مواجهة المواقف , إن تعليم الأبناء تحمل المسؤولية يبدأ بإشراكهم تدريجيا في المواقف والقرارات , فنبدأ بتحميلهم لبعض المسؤوليات الصغيرة وبمرور الوقت يتحمل الأمور الكبيرة .

سادسا : إذا كان الابن مرتبطا بأصحاب له ولا يريد الانفصال عنهم فلا بد ههنا أن نحاول تغيير مسارهم جميعا , والالتفاف حولهم ورعايتهم مع ذلك الابن والاستفادة من ذلك بأن نحفزهم وندفعهم للاشتراك الجماعي في مشروع مشترك يحثهم على الإنجاز والعمل , ويمكن أن يكون ذلك مشروعا اقتصاديا أو صناعيا فيتعودون الكسب الحلال أو الاختراع المؤثر , مع متابعتهم ومعرفة السلبيات والإيجابيات من ذلك المشروع مما يقوي في نفوسهم حب العمل حيث أنهم صحبة متحابة .

سابعا : كثير من الأبناء ينتابه الخجل للحضور في المناسبات الاجتماعية رغم أن الطبيعي عند كثير من الأولاد الحضور في تلك المناسبات وسعادتهم بها , فتجد الأم والأب عند القيام بأي مناسبة يجتمع فيها الناس  يتحملون الأمر كله حتى المساعدة في إكرام الضيف أو استقباله وحتى توديعه , وهو خطأ , فإشراك الابناء في المحافل المشتركة نوع من تربيتهم , وإشراكهم في مجالس العلم كذلك , وفي الاحتفالات الأسرية واللقاءات , مع تحميلهم المسئولية في القيام بترتيبات ذلك الأمر , وقد كان سلف هذه الأمة يحضرون أولادهم مجالس النبي صلى الله عليه وسلم ليستفيدوا منها ويتأسوا من نبيهم  صلى الله عليه وسلم يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أخبروني بشجرة تشبه ..أو كالرجل المسلم , لا يتحاتُّ ورقها قال بن عمر : فوقع في نفسي أنها النخلة , ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم , فلمّا لم يقولوا شيئا قال صلى الله عليه وسلم " هي النخلة " فلما قمنا قلت لعمر يا أبتاه , والله لكن كان وقع في نفسي أنها النخلة فقال ما منعك أن تكلم ؟! قال لم أركم تكلمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا قال عمر لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا " رواه البخاري ومسلم . وكان عمره في ذلك الوقت احدي عشر عاما فكان أبوه يجلسه في مجالس الكبار ويحضر مناسبات المسلمين في المدينة فصار علما من أعلام المسلمين لما كبر .

ثامنا : النظرة السلبية للأبناء دائما على أنهم صغار , فلا نشركهم في أي مشكلة سواء أكانت اجتماعية أو اقتصادية عمت بالأسرة أو غيرها حتى عندما يصير أمامنا الابن شابا نخاف تكليفه بالمهام شفقة عليه !

إنه ينبغي على الأب أن يرفع من معنويات أبنائه دائما فيشعرهم بتقديره لهم وثقته بهم , وبقدراتهم , وبتميزهم , فيمدح أعمالهم وقدراتهم , خاصة أمام أفراد أسرته أو أصحابه فلهذا دور كبير في شعورهم بقدرهم مما يزيد ثقة الأبناء بأنفسهم ويقوي عندهم عزيمة الشعور بالمسؤولية وعندئذ يبذل الابن قصارى جهده لكي يكون عند حسن ظن أبيه والناس فيه .

تاسعا :  كثيرا ما يتلفظ الأب أو الأم أمام ابنه أو بنته فيقول أمامه أنت مستهتر أو أنت لا تستطيع تحمل أي مسؤولية , وهو خطا بين ظاهر , فتلك العبارات وحدها كافية بفقدان ثقة الأبناء في أنفسهم بل وقد تسبب كثيرا من الصدمات في نفوس أبنائنا , إن الابناء بحاجة إلى الدعم النفسي بأشكال مختلفة , كما أن العقاب اللفظي المنتقص من قيمتهم مؤثر سلبا في شخصية الأبناء .

عاشرا : من جانب آخر فالأب الواعي يحترم خصوصية ولده , فقد خلق لزمن غير زمنه روي عن على بن أبي طالب رضي الله عنه " الناس بأزمانهم أشبهُ منهم بآبائهم " فإن كنا نريد أن يكون ابننا مسئولا في هذا الزمان فعلينا تعويده على الصبر مع الحذر أن يكلف الأب ابنه فوق طاقته فلا يكلف ولده بما ينوء به ظهره الصغير , أو بما لا يفهمه عقله .

حادي عشر : إن كانت التربية مهمة عظيمة وغاية جسيمة فإنها لا تقتصر على اهتمام ورعاية وحماية بل تقع على الآباء مسئولية تربية الابن تربية إسلامية صحيحة مع مراقبة أخلاقه ومتابعة علمه والاهتمام بصحته الجسدية والعقلية والتركيز على الصعود على درجات السلم التربوي الإسلامي الصحيح حيث إنه بداية تأثيث الابن أثاثا متينا .

ثاني عشر : يؤكد علماء التربية وعلم نفس الطفل على أهمية تعليم الطفل كيفية التعامل مع مصروفه الشخصي بطريقة سليمة حتى لا ينشأ مدللا أو مسرفا فذلك يعوده ويمنحه القدرة على إدارة المال الذي لديه , فمن الجميل تعليم الطفل وتحفيزه على التصدق بجزء ولو قليل من مصروفه على فقير منذ الصغر فبذلك نربي في قلوب أولادنا مسئولية حمل هم مشاكل الفقراء وإعانة المساكين ثم بعد ذلك لابد من مكافأة الابن على أي سلوك حسن وينبغي أن لا تكون المكافئة دوما مالية حتى لا يعتاد الابن ذلك بل قد تكون رحلة مع الأبوين أو شراء شيئ له يحبه أو غير ذلك .

ثالث عشر :  إن تعويد الابن على تحمل المسئولية يربي عنده تحمل مسئوليه نفسه عندما يكون بعيدا عن عيون الأبوين وهذا ما افتقدناه في هذه الأيام فلا يستطيع الأبوان مراقبة الابن خارج البيت , لكن الابن المسئول قادر على حماية نفسه حيث أن إحساسه المسئولية أنعش تفكيره وأنضج عقله رغم صغر سنه فأصبح في صدره وازع داخلي يساعده على الوقاية قدر المستطاع من الانحراف .

رابع عشر : احترام رأي الابن يعتبر من بواعث تحمله للمسئولية فيجب إعطاؤه الحرية لاختيار خصوصياته , من ملابسة وأشيائه , وإبداء رأيه , بل ويجب عند اتخاذ قرار اسري معين أخذ رأي الابن ومناقشته في السلبيات والإيجابيات لذلك القرار وتحيته عند إبداء رأي جيد خلال الحوار .

إننا إن حكمنا على بعض الأبناء بالترفه والتدليل , فالبعض الآخر قد يعاني من وجه آخر عكسي , فيحمله أبوه أكثر من طاقته , ويهدر طفولته بغمسه في العمل من أخمص قدمه حتى رأسه , كما يخطف شبابه وطموحاته ,  كما في بعض الأسر عندما يحملون الأخ الأكبر مسئولية باقي إخوانه وأخواته بدافع الواجب أحيانا , هذا الابن لا يقوى على معارضة أهله ولكن تكون هذه المسئولية في كثير من الأحيان على حساب شخصيته الخاصة وأحلامه المستقبلية .

ليتنا نعلم أن الإدارة المنزلية هي اللبنة الأساسية في تشكيل وإعداد أبنائنا داخل الأسرة وهي التي تغرس فيهم اتجاها إيجابيا أو سلبيا فالاستمرار في التوجيه والتذكير منذ الصغر والتعليم والشرح والتبيين وإيجاد قدوات يقتدي بها الطفل في سلوكه أساس للانضباط الحقيقي الذي ينبعث وناتج عن التربية السليمة التي تثمر لنا جيلا يرفع لنا راية هذا الدين ويساهم في نصرة الإسلام والمسلمين .