ثقافتنا !!
12 جمادى الأول 1433
د. صفية الودغيري

إننا اليوم في مرحلة نحتاج فيها إلى تكثيف الجهود لمواجهة ما يتعرض إليه عالمنا الإسلامي من تحديات خطيرة، وإنتاج ثقافة جديدة تناسب الواقع والمجتمع والأفراد، ثقافة متحركة تهَبُ الفكر والعقل الحرية والتقدير الكفيلان بضمان إنتاج وإبداع ما يناسب الحاضر المتقدم، لا الماضي المتخلف بسلبياته ونقائصه، وما يحقق أهداف الارتقاء بالمجتمعات بقيمها الدينية، والفكرية، والفلسفية، والأدبية، والفنية ...

 

وهي الثقافة المسؤولة عن الحفاظ على الإيمان ومقومات الدين وثوابته، ومبادئه وقيمه وأفكاره , والهوية والذات الإنسانية، وتصحيح الانحراف في الاعتقاد، والفهم، والممارسة، وبعث القيم الفكرية والإنسانية، والتصدي للذين يضطهدون الأفكار الحيَّة المعبِّرة عن هموم الناس وآلامهم، وعن آمالهم وأحلامهم، والذين يكتمون العطاء في الإنتاج والتفكير والإبداع .

 

وهي الثقافة الحرة المعبِّرة عن  تفكير الإنسان في  حفاظه على فطرته النقية، ومنهجه القويم، وتديُّنِه المستقيم، والتي تحافظ على الثوابت ثم تجمع بين الاعتدال والوسطية، وبين الأصالة والمعاصرة، والثابت والمتحرك في الفهم والممارسة، كما في المنهج والتخطيط،، ولا تخلط باسم الحرية بين المحافظة على الأصول الثابتة في الدين، وبين التقدم في طريق الإصلاح والتغيير، ولا تفرط في المحافظة على الهوية والشخصية الإنسانية إلى حد الغلو والجمود، ولا تفرط في التقدم بحركة الإصلاح والتغيير إلى حد الانفلات، وضياع الهويّة والشخصيّة الإنسانية .

 

والسير بهذه الثقافة اتجاه مستقبلنا الحضاري ليس سهلا يسيرا، ولا مفروشاً بالزهور،  بل تواجه تحديات كثيرة وجسيمة، وأخطر عقباتها ما يثيره أعداء مسيرتنا الحضارية المستقبلية من أسباب وموانع،  تدفعها إلى حالات التردّي والتراجع سنوات إلى الماضي في مواقفنا الدينية، والسياسية، والفكرية، والاقتصادية، من هنا يجب تنسيق العمل الثقافي داخل مجتمعاتنا، ووقاية المسيرة الثقافية من الانزلاق أو الاستجابة لما يحيط بأمتنا من ظروف وضغوط، بل لابدَّ لها أن تتصدَّر الصفوف الأمامية، وتنطلق من صميم منهجنا الإسلامي الذي جعلنا أمة وسطا، تدعو للاستقامة والعدل في التعامل مع بعضنا،

وحتى مع من هو مختلف عنا في الفهم والاعتقاد والتدين، والتعايش في محيط يسوده الأمن والسلام، والإحسان والمعروف للآخر كيفما كانت ديانته، أو مذهبه، أو عقيدته، أو أخلاقه، أو تفكيره، أو منهجه في الحياة عامة .

 

ولا بد لثقافتنا من صيانة وحماية من مظاهر الانفعال والتشنج الفارغ ، وأن يكون شعارنا دائما العلم والحكمة والتدبّر والتعقّل، والتخلي عن الشطط، والزلل، والانفعال في الاختيار واتخاذ القرار، كما في إصدار الأحكام،  حتى لا نسيء لهذه الثقافة ونجور عليها بنظرتنا المتخلفة في فهم الإسلام وكيفية ممارسته، وتبليغه للآخر والدعوة إليه، وفي تطبيق الشريعة عامة وتحكيمها في مناحي  الحياة .

 

وإعلاء صوت ثقافة الأمة جميعا لا ثقافة النخب فقط،  ويصير من أهدافها خدمة مصالح الجماعة والأمة، وضمان البقاء لما هو اصلح للإنسان ، وعلى اختلاف طبقاته وفئاته، فلا تكون وقفا على فئة واحدة لأنها الطبقة الرفيعة داخل المجتمع ، بل الجميع يمتلك أهلية الإنجاز، والعمل  الجاد، ومناقشة الأفكار التي تدافع عن حقوقها وتخدم مصالحها , نعم للعلم الشرعي أهله وثوابته وهم المرجعية الصائبة والمنطلق المستقيم , لكن لايمنع ذلك السؤال والفهم والبيان والمشاركة .

 

وأن تتحرك الأفكار وتنزل للشارع والأزقة والأحياء، كما تعلو منابر الجامعات والمساجد، وصالونات الطبقات المثقفة والعالمة، وأن تلج المنازل والبيوت والخيام، كما تلج القصور والبنايات الفخمة، وتحملها ذاكرة الإنسان المفكر في كل زمان ومكان، وتعبِّد الطريق أمامها لتنطلق ويظهر عطاؤها على المستوى الإنساني، وتسمو برجال الفكر المستقيم ليتحملوا مسؤوليتهم الكاملة عن سياسة الشعوب والمجتمعات، وبعث أهدافها ودوافعها الفكرية والإنسانية من مرقدها، وإنارة بصيرتها للدفاع عن حقوقها في الاختيار، وانتداب من يدافع عنها وينتصر لمصالحها، وقيمها الفكرية والدينية والإنسانية  .

 

ولكن نظرا لجمود الثقافة على تقسيم الشعوب والمجتمعات، إلى طبقات منهم الضعفاء والأقوياء، والمتخلفين والمتقدمين، والمتعلمين والجاهلين، أصبحنا عاجزين عن سياسة أفكار تخدم مصالحنا،  وأصبحنا أمام  تفكير مجنون  يتسابق ويتنافس لإثبات حقيقة غابوية هي: ثقافة البقاء للأقوى وليس البقاء للأصلح، فاختفت بالتالي الأهداف السماوية النبيلة، وحلَّت محلها الأهداف المادية والمصالح الشخصية، انتشرت فكرة التفريق الطبقي، وإشاعة التمييز العنصري والطائفي والمذهبي، وتقلصت فكرة التكافل والتعاون والاتحاد بين طبقات المجتمع وفئات الشعب، وتواري رجال الفكر النقي وأصحاب الأقلام الحرة، الذين يمتازون بجودة التفكير، وبراعة الفهم، وإنتاج الثقافة النافعة لتحديت العصر، وتطور البشرية، وإصلاح الإنسان، و تخلوا بالتالي عن رسالتهم السامية منهزمين أمام التحديات

 

من هنا فان الطريق أمام المثقفين في أمتنا شاق وطويل،  فعليهم أن يتجاوزوا الانعزال في أبراج عاجية، والتحرك في عالم الخيال،  ويصبح لهم  انتساب للثقافة في آفاقها الواسعة، ويفكروا بجدية في مشاكل العصر وهموم بلادهم، ولا ينحصروا  خلف أسوار اختصاصهم، محايدين ومقلدين لمن عاشوا في الماضي السحيق، بل عليهم التعبير عن  قضايا الأمة والإنسان المسلم في العصر الذي يعيشه، بمشاكله التي يعاني منها، وبتطلعاته للحياة الفضلى، ومعالجة مشاكل المجتمع وحلها، وتسخير أقلامهم وأفكارهم وكتاباتهم وحتى أصواتهم، واستيعابهم لمسؤوليتهم، وتصديهم للمخططات التي  تهدد ثقافتنا وتتجه بها نحو منحدر سحيق، وتجعلها تعاني من إثارة النعرات، والتعصّب المقيت الخالي من التفكير، الهادف لعزل الإنسان المسلم عن واقعه وبيئته ومجتمعه، وتقاليده وأعرافه، ودينه وأخلاقه، ويظل يعاني من تكرار الصور والمشاهد المؤلمة، المسيئة إلى هويته وشخصيته الإسلاميّة .

 

كما على المثقفين اليوم واجب المراجعة الجادة لواقعنا المتخلّف، وتصحيح مواطن الخلل والزلل، وجوانب الضعف والانهيار، والتنسيق بين فئات المجتمع وطبقاته لإعلاء الصوت الأصيل المعاصر، وصوت الإصلاح والتغيير لكل مساوئنا، وتقديم النموذج الصحيح للمثقف المسلم، الملتزم بهويته الدينية والثقافية، والمنفتح على ثقافات أخرى بالقدر النافع وموارد جديدة، تنأى به عن الجمود والتقليد الأعمى، وعن الشعور بالهزيمة والذوبان في الآخر، حتى لا يتحول لنسخة مكررة منه يحاكيه في حركاته، ولباسه، ولغته، وفي تفكيره وتحليله واستنتاجه، وفي مدنيته وحضارته، وفي دينه وهويته وأخلاقه...

 

وبهذا نحقق لثقافتنا الريادة الفكرية والاجتماعية، والاقتصادية، ونربي جيلا مثقفا، ناضجا، وجادا، ومؤهلا لحمل أمانة التقدم بثقافتنا الأصيلة والمعاصرة، وإحياء القيم التي تحفظ للإنسان كرامته، ولا تضطهد حريته وأمنه وسلامه، ولا تهدد مصالحه تحت طائلة الخوف والاضطراب النفسي