الدعوى الكيدية "دراسة مقارنة"
17 جمادى الأول 1433
د. خالد بن زيد الوذيناني

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن الشريعة الإسلامية جاءت بالإنصاف والعدل، فقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: من الآية90].
وحرمت الظلم والعدوان، لما روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا..."(1).
ومن ذلك تحريم الإضرار بالآخرين، والاعتداء عليهم، من خلال مخاصمتهم بالباطل، والادعاء عليهم بغير حق كذباً وبهتاناً، وما حرمت الشريعة الإسلامية الظلم والعدوان إلا لما فيهما من إلحاق الضرر بالأبرياء، واتهامهم بما هم برآءُ منه، وما يترتب على ذلك من إشغال للجهاز القضائي والجهات الحكومية ذات العلاقة بهذه القضايا، ولقد تعرض فقهاؤنا – رحمهم الله تعالى – لأحكام هذه الدعاوى الباطلة والكيدية فأبانوا حكمها، وعقوبتها، والتعويض عن الضرر الذي يلحق المدعى عليه بسببها، بما يكفل منعها أو الحد منها، وحفاظاً على النفوس والأموال، ومنعاً للظلم والعدوان، وردعاً للمعتدين.
ولقد رغبت في بحث هذا الموضوع تحت عنوان: "الدعوى الكيدية – دراسة مقارنة" مبيناً أقوال أهل العلم في هذه الدعوى، مع مقارنة ذلك بما جاء في الأنظمة العدلية السعودية في هذا الشأن.
والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يوفقني فيه للصواب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التمهيد: التعريف بمفردات العنوان
المطلب الأول: تعريف الدعوى لغة واصطلاحاً
الدعوى في اللغة: اسم من الادعاء(2)، وتجمع على دعاوَى بفتح الواو، وكسرها دعاوِي(3). قال ابن فارس (ت: 395): "الدال والعين والحرف المعتل أصل واحد، وهو أن تُميل الشيء إليك بصوت وكلام"(4).
والدعوى في اللغة تطلق على عدة معان منها:
1 – الطلب: تقول: ادعيته، أي طلبته لنفسي، ويُقال: لي في هذا الأمر دعوى ودعاوى أي مطالب(5).
2 – الدعاء(6): ومنه قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: من الآية10]. أي: دعاؤهم(7).
3 – التمني: تقول: ادعيت الشيء أي: تمنيته(8)، وفلان في خير ما ادعى أي: ما تمنى(9)، ومنه قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يـس:57]. أي: ما يتمنون(10).
4 – الزعم: يُقال: ادعيت الشيء، أي: زعمته لي حقاً كان أو باطلاً(11).
5 – الإخبار: يقال: فلا يدعي بكرم فعاله، أي: يخبر بذلك عن نفسه(12).
وحاصل ذلك أن الدعوى في اللغة تأتي على عدة معانٍ، تختلف بحسب الاستعمال، وسياق الكلام.
أما الدعوى في الاصطلاح:
فقد عرّف الفقهاء الدعوى بعبارات مختلفة، وسأقتصر على تعريف واحد من كل مذهب وذلك على النحو الآتي:
أولاً: تعريف الدعوى عند الحنفية:
عرف الحصكفي (ت: 1088) رحمه الله تعالى الدعوى بأنها: "قول مقبول عند القاضي يقصد به طلب حق قبل غيره أو دفعه عن حق نفسه"(13).
ويؤخذ على هذا التعريف ما يأتي:
1 – أنه قصر الدعوى على التصرف القولي، فلم يشمل الدعوى بالكتابة، أو الإشارة، مع أن الدعوى بهما تصح، فالتعريف غير جامع.
2 – أنه لا يشمل دعوى الوكيل، ونحو ذلك كالولي والناظر، حيث قصر الدعوى على صاحب الحق، فالتعريف غير جامع(14).
3 – أن التعريف يشمل يمين الاستحقاق، فإنه قول مقبول يقصد به طلب حق قبل الغير، فهو غير مانع(15).
ولتجنب هذا الاعتراض، أضاف بعض الحنفية قيد (غير حجة) في آخر التعريف، يخرج بها يمين الاستحقاق فإنه حجة(16).
ثانياً: تعريف الدعوى عند المالكية:
عرّف القرافي (ت: 684) الدعوى بأنها: "طلب معين أو ما في ذمة معين أو ما يترتب عليه أحدهما معتبرة شرعاً لا تكذبها العادة"(17).
ويؤخذ على هذا التعريف: أنه غير مانع من دخول الدعوى بمعناها اللغوي فيه، حيث خلا من ذكر قيد مجلس القضاء، وهو الفرق الجوهري بين الدعوى بمعناها الاصطلاحي، والدعوى بمعناها اللغوي، فالطلب خارج مجلس القضاء لا يعتبر دعوى شرعية(18).
ويمكن الجواب عن هذا الاعتراض:
بأن قوله في التعريف (معتبرة شرعاً) وصف عام يشمل جميع الشروط والأوصاف التي بموجبها تكون الدعوى معتبرة شرعاً، ومن ذلك أن تكون في مجلس القضاء(19).
ثالثاً: تعريف الدعوى عند الشافعية:
عرّف الرميلي (ت: 1004) الدعوى بأنها: "إخبار عن وجوب حق على غيره عند حاكم"(20).
ويؤخذ على هذا التعريف: بأنه لا يشمل دعوى منع التعرض(21)، وهي من الدعاوى المسموعة(22) عند الشافعية، فالتعريف غير جامع.
رابعاً: تعريف الدعوى عند الحنابلة:
عرّف ابن قدامة (ت 620) الدعوى بأنها: "إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو في ذمته"(23).
ويؤخذ على هذا التعريف ما يأتي(24):
1 – أنه أغفل ذكر مجلس القضاء، فلم يفرق بين الدعوى بمعناها اللغوي، والدعوى بمعناها الشرعي، فالتعريف غير مانع.
2 – أنه لم يشمل الدعوى التي يقيمها وكيل صاحب الحق، فهو غير جامع.
3 – أنه حصر الدعوى في نوعين هما: دعوى العين ودعوى الدين، والدعاوى لا تنحصر في هذين النوعين، فهو غير جامع.
التعريف المختار للدعوى:
بعد التأمل في التعريفات السابقة للدعوى، وما ورد عليها من الاعتراضات يمكن تعريفها بأنها: "مطالبة مقبولة بحق لشخص أو حمايته في مجلس القضاء"(25).
ويتميز هذا التعريف بما يأتي(26):
1 – أنه عبّر عن الدعوى بلفظ (المطالبة)، وهي عامة تشمل المطالبة القولية أو ما يقوم مقامها من الكتابة أو الإشارة، كما أنها تشمل مطالبة صاحب الحق أو وكيله، وتخرج بها الشهادة والإقرار فليس فيهما مطالبة.
2 – أنه قيّد المطالبة بأن تكون مقبولة أي شرعاً، بأن تستوفي شروطها، فخرج بهذا القيد الدعاوى الفاسدة، وهي التي لم تستكمل الشروط المطلوبة لصحتها.
3 – أنه قيد الحق بكونه لشخص ليخرج دعوى الحسبة.
4 – أن التعريف يدخل فيه جميع أنواع الدعاوى المعتبرة عند جمهور الفقهاء، بما في ذلك دعوى منع التعرض، التي يقصد بها حماية الحق.
5 – أنه يميز بين الدعوى بمعناها الاصطلاحي، والدعوى بمعناها اللغوي، فإنها في اللغة غير مقيدة بمكان معين، وفي الاصطلاح مقيدة بمجلس القضاء.

المطلب الثاني: تعريف الكيدية لغة واصطلاحاً
الكيد في اللغة: مصدر كاد، قال ابن فارس: "الكاف والياء والدال أصل يدل على معالجة الشيء بسدة ثم يتسع الباب، وكله راجع إلى هذا الأصل"(27).
فالكيد المعالجة، وكل شيء تعالجه فأنت تكيده، هذا هو الأصل في الباب(28).
ويأتي الكيد في اللغة على معانٍ متعددة منها:
1 – المكر والخبث(29)، قال تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} [الطور: من الآية42].
2 – التدبير بباطل أو حق(30).
3 – الحرب، يقال: خرجوا فلم يلقوا كيداً، أي حرباً(31).
4 – الاحتيال(32).
5 – الجود بالنفس، يقولون: هو يكيد بنفسه، أي يجود بها كأنه يعالجها لتخرج(33).
وحاصل ذلك أن الكيد في اللغة يأتي بمعنى الحيلة والمكر والخبث مع إرادة السوء(34).
أما الكيد في الاصطلاح:
فلا يخرج معناه عن المعاني اللغوية، فهو: المكر والحيلة والخديعة مع إرادة السوء(35).
ويراد بالدعوى الكيدية: مطالبة المدعي غيره بأمر لا حق له فيه، وبغير وجه حق مع علمه بذلك في مجلس القضاء(36).

المطلب الثالث: الفرق بين الدعوى الكيدية والدعوى الصورية
للوقوف على معرفة الفرق بين الدعوى الكيدية، والدعوى الصورية، لا بد من معرفة حقيقتهما، وقد سبق بيان المراد بالدعوى الكيدية، وأنها مطالبة المدعي غيره بأمر لا حق له فيه، وبغير وجه حق مع علمه بذلك في مجلس القضاء.
والمراد بالدعوى الصورية هي:
ما كان ظاهره الخصومة القضائية، وحقيقته الحيلة، للتوصل إلى أمر غير مشروع(37).
وبهذا يتبين لنا أن الدعوى الكيدية والصورية تتفقان في أمرين:
الأمر الأول: أن كلاً منهما ادعاء بالباطل، يراد منه الوصول إلى أمر غير مشروع.
الأمر الثاني: في الأثر المترتب عليهما، متى تحققت الكيدية والصورية فيهما، حيث يجب على القاضي ردهما، وعدم سماعهما، وتأديب المدعي فيهما(38).
وتفارق الدعوى الكيدية الدعوى الصورية في أمرين:
الأمر الأول: أن الدعوى الكيدية، يراد منها الإساءة وإلحاق الضرر بالمدعى عليه، بخلاف الدعوى الصورية، فهي حيلة تتضمن اتفاقاً بين المدعي والمدعى عليه لإلحاق ضرر بطرف آخر.
الأمر الثاني: أن التأديب في الدعوى الكيدية يقع على المدعي فقط، بخلاف الدعوى الصورية، فيشمل التأديب المدعى عليه إذا ظهر تواطؤه مع المدعي(39).

المبحث الأول: حكم الدعوى الكيدية
المطلب الأول: الدعوى الكيدية في الفقه
قبل بيان حكم الدعوى الكيدية في الفقه، نبين أن تحقق كيدية الدعوى يكون من خلال الأمور الآتية:
أولاً: اعتراف المدعي بأن دعواه كانت كيدية، وأن ما ادعاه باطل في حقيقته(40).
ثانياً: تكرار المطالبة من المدعي، في دعوى منتهية بحكم شرعي، مع علمه بذلك(41).
ثالثاً: الاعتراض على حكم مكتسب القطعية بقناعة، أو تدقيق من جهة الاختصاص، دون أن يُقدم وقائع جديدة، تستوجب إعادة النظر في الحكم(42).
والدعوى الكيدية هي: مطالبة المدعي غيره بأمر لا حق له فيه، وبغير وجه حق مع علمه بذلك في مجلس القضاء، فهي دعوى بالباطل، يقصد منها المدعي الإساءة وإلحاق الضرر بالمدعى عليه، ويظهر فيها الظلم والبهتان، وقد جاءت نصوص الشريعة بتحريم الدعوى بالباطل، ومن ذلك:
1 – ما روى ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع..."(43) الحديث.
2 – ما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع"(44).
وجه الدلالة من الحديثين:
أفاد الحديثان الوعيد لمن أنشأ خصومة في باطل، أو أعان على خصومة وظلم، مع علمه بذلك، مما يجعل هذا الفعل كبيرة من كبائر الذنوب.
وإذا تبين أن الدعوى الكيدية باطلة، لما فيها من الظلم، وإضاعة الوقت وإشغال الجهاز القضائي، لم يجز سماعها أو الالتفات إليها.

المطلب الثاني: الدعوى الكيدية في النظام
يظهر موقف نظام المرافعات الشرعية من الدعوى الكيدية، فيما جاء في لائحته التنفيذية(45) حيث نصت على أنه: "إذا ثبت لناظر القضية أن دعوى المدعي كيدية، حكم برد الدعوى".
وبهذا يتبين لنا أنه متى ما تحققت الكيدية في الدعوى، ترتب عليها الحكم بردها من قبل ناظر القضية.
ويكون الحكم برد الدعوى في القضايا الكيدية في ضبط القضية نفسها، التي حكم فيها برد الدعوى في الموضوع، ويخضع لتعليمات التمييز(46)، كما في اللائحة التنفيذية(47)، ونصها: "ويكون الحكم برد الدعوى والتعزير في القضايا الكيدية والصورية في ضبط القضية نفسها، وتخضع لتعليمات التمييز".
وما أقرّ به نظام المرافعات الشرعية ولائحته التنفيذية، جاء موافقاً لما تقرر عند الفقهاء من بطلان الدعوى الكيدية، وعدم سماعها أو الالتفات إليها.

المبحث الثاني: عقوبة الدعوى الكيدية
المطلب الأول: عقوبة الدعوى الكيدية في الفقه
نص فقهاء الشريعة على أن للقاضي إذا تبين له أن دعوى المدعي كيدية، يريد بها مجرد الإساءة والظلم، والتعدي، وإلحاق الضرر بالمدعى عليه، أن يعزره(48) ما يردعه ويزجره ويكف أذاه.
قال ابن فرحون (ن: 799): "من قام بشكيةٍ بغير حق أو ادعى باطلاً فينبغي أن يؤدب"(49).
وقال البهوتي (ت: 1051): "وإذا ظهر كذب المدعي في دعواه بما يؤذي به المدعى عليه عُزِّر لكذبه وأذاه للمدعى عليه"(50)، وقد تُرك للقاضي تقدير العقوبة التعزيرية بما يقتضيه اجتهاده من توبيخ للمدعي، وإغلاظ القول عليه، أو الضرب، والحبس، بحسب جسامة الضرر وحال المدعي، لأن المقصود من التعزير الزجر، وأحوال الناس مختلفة فيه(51).
وكذلك على القاضي مراعاة حال المدعى عليه، لأن التعزير يختلف بحسب القائل والمقول له، فقد يكون المدعى عليه من أهل الخير والصلاح، والدعوى عليه ليست كالدعوى على غيره، لا سيما في دعاوى التهم، وهي دعوى الجناية، والأفعال المحرمة، كدعوى القتل، والسرقة، والعدوان على الخلق بالضرب وغيره، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) الخلاف في عقوبة المتهم لغيره، ممن ليس من أهل تلك التهمة، حيث قال: "فقال مالك وأشهب: لا أدب على المدعي، إلا أن يقصد أذيته، وعيبه، وشتمه فيؤدب، وقال أصبغ: "يؤدب، قَصَدَ أذيته أو لم يقصد"(52).
وكذلك نقل الخلاف فيه ابن فرحون حيث قال: "واختلفوا في عقوبة المتهم له على قولين والصحيح منهما أنه يعاقب، صيانة لتسلط أهل الشر والعدوان على أعراض البرآء.. قال أصبغ: إن كان المدعى عليه من أهل الصلاح والبراءة أُدّب المدعي قصَد أذيته أو لم يقصدها"(53).
والتعزير أمر متقرر عند الفقهاء، والدعوى الكيدية معصية، والتعزير يُشرع في كل معصية لا حد فيها(54).

المطلب الثاني: عقوبة الدعوى الكيدية في النظام
أخذ نظام المرافعات الشرعية، ولوائحه التنفيذية، بما تقرر عند الفقهاء من تعزير من قام بشكيةٍ بغير حق، أو ادعى باطلاً حيث نصت اللائحة التنفيذية(55) على أنه: "إذا ثبت لناظر القضية أن دعوى المدعي كيدية حكم برد الدعوى، وله الحكم بتعزير المدعي بما يردعه".
وقد تركت اللائحة التنفيذية لناظر القضية تحديد نوع التعزير ومقداره بما يحقق الردع والزجر، وفقاً لما قرره أهل العلم من وجوه التعزير.
وتعزير صاحب الدعوى الكيدية يكون من قبل ناظر القضية نفسها، أو من يخلفه، حيث جاء في اللائحة التنفيذية(56): "يُقرر التعزير في القضايا الكيدية والصورية حاكم القضية، أو خلفه بعد الحكم برد الدعوى واكتسابه القطيعة".
ويكون سماع المطالبة بالتعزير؛ بعد الحكم برد الدعوى الأصلية، واكتساب الحكم القطعية، وفقاً لما جاء في الفقرة الثامنة من اللائحة التنفيذية للمادة الرابعة من نظام المرافعات الشرعية.
وجعل النظام في التعزير على الدعوى الكيدية ردعاً وزجراً لكل من أراد أكل أموال الناس بالباطل، أو الإساءة إلى أشخاصهم، بإقامة الدعوى بالباطل، وإشغال الجهاز القضائي، وفي هذا تحقيق لمقاصد الشريعة؛ من تحريم الظلم والاعتداء على الناس وتحقيق العدل.

المبحث الثالث: التعويض عن أضرار الدعوى الكيدية
المطلب الأول: التعويض(57) عن ضرر(58) الدعوى الكيدية في الفقه
إذا تكبد المدعى عليه أضراراً مالية، تتطلبها المرافعة القضائية، من نفقات أو مصروفات، أو أضراراً معنوية، وذلك بسبب إقامة الدعوى الكيدية ضده، وإلزامه بالدخول فيها، فهل يحق له المطالبة بالتعويض عما لحقه من أضرار؟
سوف أتناول حكم ذلك في فرعين:
الفرع الأول: التعويض عن الضرر المادي في الدعوى الكيدية:
من خلال التتبع لكلام أهل العلم، نجد نصوصاً لبعضهم صريحة في الدلالة على جواز المطالبة بالتعويض؛ لمن لحقه ضرر بسبب رفع الدعوى عليه بغير حق، ومن ذلك:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من غرم مالاً بسبب كذب عليه، عند ولي الأمر، فله تضمين الكاذب عليه بما غرمه"(59).
وقال البهوتي: "وإذا ظهر كذب المدعي في دعواه؛ بما يؤذي به المدعى عليه عُزِّر لكذبه وأذاه للمدعى عليه، قلت: ويلزمه ما غرمه بسببه ظلماً، لتسببه في غرمه بغير حق"(60).
وقال في موضع آخر: "وإن غرم إنسان بسبب كذب عليه، عند ولي الأمر، فله أي الغارم تغريم الكاذب لتسببه في ظلمه، وله الرجوع على الآخذ منه، لأنه المباشر... ومثله من شكى إنساناً ظلماً؛ فأغرمه شيئاً لحاكم سياسي... ولم يزل مشايخنا يفتون به، بل لو غرمه شيئاً لقاضٍ ظلماً كان الرجوع به عليه"(61).
وجاء في فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (ت: 1389) رحمه الله تعالى، في خطاب موجه لفضيلة رئيس محكمة الباحة بالنيابة: "بخصوص استرشادكم عمن يتعمد المشاغبة، والإضرار بغيره، عن طريق المداعاة، وما تستلزمه المداعاة من نفقات السفر والإقامة لها ونحوه.
ونفيدكم: أن للحاكم الشرعي الاجتهاد في مثل هذه الأمور، وتقرير ما يراه محققاً للعدل، ومزيلاً للظلم والعدوان، زاجراً من يتعمد الإضرار بإخوانه المسلمين، رادعاً غيره ممن تسوّل لهم أنفسهم ذلك، وفي مثل هذا قال في الاختيارات: ومن مطل صاحب الحق حقه حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد"(62).
وقال في موضع آخر: "... وذلك أن العلماء رحمهم الله نصوا على أن كل من غرم غرامة بسبب عدوان شخص آخر؛ أن ذلك الشخص هو الذي يتحمل تلك الغرامة"(63).
وقد جاءت نصوص الشريعة، من الكتاب والسنة النبوية، دالةً على مشروعية جبر الأضرار المادية بالتعويض المالي، وذلك لأن من ألحق ضرراً بغيره فهو ضامن لذلك، والضرر سبب من أسباب الضمان، ومن ذلك ما يأتي:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: من الآية194]، وقوله سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: من الآية126]، وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: من الآية40].
وجه الدلالة من الآيات:
ذكر أهل التفسير أن من معاني هذه الآيات، أن من أُصيب بمظلمة؛ فله أن ينال من ظالمه مثل مظلمته لا يتعداه إلى غيره، ويأخذ منه مثل الذي أُخذ منه(64).
وفي هذا تقرير لمبدأ التعويض القائم على العدل والإنصاف في استيفاء الحق.
ثانياً: من السنة:
1 – ما روى أنس بن مالك رحمه الله قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يدَ الخادم، فسقطت الصحفة، فانفلقت(65)، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَق الصحفة ثم جعل يجمع الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أُمُّكم، ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرَت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرَت"(66).
2 – ما روى حرام بن مُحيّصة الأنصاري عن البراء بن عازب قال: "كانت له ناقة ضارية(67) فدخلت حائطاً فأفسدت فيه. فكُلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل"(68).
3 – قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"(69).
فقد دلت هذه الأحاديث على مشروعية التعويض، وضمان من تسبب في إلحاق الضرر بالآخرين، صيانة لأموال الناس من الاعتداء، وجبر ما نقص منها بالتعويض.
ولأن عدم الالتزام بالتعويض يؤدي إلى كثرة الخصومات، والدعاوى الكيدية، وإشغال الجهاز القضائي بغير وجه حق، ومبدأ الإلزام بالتعويض من أقوى الوسائل في منع هذه الدعاوى أو الحد منها(70).
الفرع الثاني: التعويض عن الضرر المعنوي في الدعوى الكيدية:
المراد بالضرر المعنوي، أو الأدبي، هو ما يُصيب الشخص في شعوره، أو عاطفته، أو كرامته، أو شرفه، أو أي معنى من المعاني التي يحرص عليها(71).
والتعويض المالي عن الضرر المعنوي؛ لم يتكلم عنه الفقهاء المتقدمون، فهو مصطلح حادث.
جاء في الموسوعة الفقهية(72): "لم نجد أحداً من الفقهاء عبَّر بهذا – الأضرار المعنوية – وإنما هو تعبير حادث، ولم نجد في الكتب الفقهية؛ أن أحداً من الفقهاء تكلم عن التعويض المالي في شيء من الأضرار المعنوية".
وقد اختلف المعاصرون في حكم التعويض المالي عن الضرر المعنوي على قولين:
القول الأول:
عدم جواز التعويض المالي عن الضرر المعنوي، وبه قال طائفة من المعاصرين، منهم: الشيخ علي الخفيف(73)، والشيخ مصطفى الزرقا(74)، وغيرهما.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
أولاً: أن قواعد الفقه الإسلامي تأبى التعويض عن الضرر المعنوي، لأن التعويض بالمال يقوم على الجبر بالتعويض، وذلك بإحلال مال محل مال فاقد مكافئ، لرد الحال إلى ما كانت عليه، إزالة للضرر، وجبراً للنقص، وذلك لا يتحقق إلا بإحلال مال محل مال مكافئ له، ليقوم مقامه ويسد مسده، وكأنه لم يضع على صاحب المال الفاقد شيئاً، وليس ذلك بمستحق في الضرر المعنوي(75).
ثانياً: أن أخذ الإنسان للتعويض، عما لحقه من ضرر في عرضه، يعتبر من باب أخذ المال على العرض، وهذا غير جائز.
قال الحطاب (ت: 954): "ومن صالح من قذف على شقص، أو مال، لم يجز، وردّ، ولا شفعة فيه، بلغ الإمام أم لا... وجعله من باب الأخذ على العرض مالاً"(76).
ثالثاً: أن مبدأ التعويض المالي عن الأضرار المعنوية، له محذور واضح، وهو أن مقدار التعويض اعتباطي محض، لا ينضبط بضابط، بينما يظهر في أحكام الشريعة الحرص على التكافؤ الموضوعي بين الضرر والتعويض، وهذا متعذر هنا(77).
رابعاً: إن الضرر المعنوي، لا يجبره التعويض المالي، ولذلك وضعت الشريعة ما يناسبه من الزواجر التعزيرية، وهذا تعويض كاف، يُزيل آثار الضرر، ويشفي غيظ المتضرر، ويُزيل العار عنه، ويُعيد له اعتباره(78).
القول الثاني: جواز التعويض المالي عن الضرر المعنوي، وبه قال بعض المعاصرين منهم الشيخ محمود شلتوت(79)، والدكتور محمد فوزي فيض الله(80) وغيرهما، واستدلوا على ذلك بما يأتي:
أولاً: ما روى عبد الله بن سلام، في قصة إسلام زيد بن سعنة وفيها:
قال: زيد بن سعنة، فدنوت إليه فقلت له: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً من حائط بني فلان إلى أجل كذا وكذا؟ فقال: لا يا يهودي، ولكن أبيعك تمراً معلوماً إلى أجل كذا وكذا، ولا أسمي حائط بني فلان" قلت: نعم فبايعني صلى الله عليه وسلم، فأطلقت همياني(81)، فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا... فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار... فأخذت بمجامع قميصه، ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب بمطل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، قال: ونظرت إلى عمر بن الخطاب، وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره، وقال: أي عدو الله أتقول لرسول الله ما أسمع وتفعل به ما أرى؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته، لضربت بسيفي هذا عنقك، ورسول الله ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: "إنا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحُسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة(82)، اذهب يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعاً من غيره مكان ما رُعته"(83).
ووجه الدلالة من الحديث: ظاهر فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يزيد زيد بن سعنة عشرين صاعاً؛ تعويضاً بسبب الروع الذي سببه له عمر، والروع ضرر معنوي، فدل الحديث على جواز التعويض عن الضرر المعنوي.
ثانياً: ما جاء عن أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، في الشجة إذا التحمت ولم يبق لها أثر، بأن فيها أرش الألم، وهو ضرر معنوي، فيقال عليه غيره من الأضرار المعنوية، فيجوز فيها التعويض المالي.
قال الزيلعي في تبيين الحقائق(84):
"وإن شج رجلاً فالتحمت ولم يبق أثر، أو ضرب فجرح فبرأ، وذهب أثره، فلا أرش، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: عليه أرش الألم، وهو حكومة عدل، لأن الشين الموجب إن زال فالألم الحاصل لم يزل، وقال محمد: عليه أجرة الطبيب لأن ذلك لزمه بفعله،ف كأنه أخذ من ماله وأعطاه الطبيب".
ونوقش هذا التعليل: بعدم التسليم بأن الألم يعتبر ضرراً معنوياً محضاً، بل هو ناتج عن ضرر مادي، يسوغ التعويض عنه، باعتباره ضرراً مادياً يؤدي إلى خسارة مالية، لأنه قد يعطله عن العمل، وفيه أجرة للطبيب وثمنٌ للدواء(85).
ثالثاً: أن الواجب في الضرر المعنوي التعزير، ومن أنواعه التعزير بالمال وهو جائز شرعاً، والتعويض المالي عن الضرر المعنوي لا يخرج عن التعزير بالمال المتقرر شرعاً(86).
ونوقش هذا التعليل: بأن العزير بالمال يدخل في باب العقوبات، وليس من باب التعويض المالي عن الضرر، فالتعزير المالي خارج محل النزاع، إذ النزاع في تعويض المتضرر ضرراً معنوياً(87).
الترجيح: بعد النظر في أدلة الفريقين وما عللوا به، يظهر لي وجاهة ما استدلوا وعللوا به، فخلت أدلة القول الأول من المعارض القادح.
كما إن الحديث المروي في قصة زيد بن سعنة يعتبر أقوى أدلة القول الثاني وظاهره يُفيد جواز التعويض المالي عن الضرر المعنوي، ولذلك فالمسألة عندي تحتاج إلى تأمل، والله أعلم بالصواب.

المطلب الثاني: التعويض عن ضرر الدعوى الكيدية في النظام
أخذ نظام المرافعات الشرعية، ولوائحه التنفيذية ونظام قواعد الحد من آثار الشكاوى الكيدية والدعاوى الباطلة، ونظام الإجراءات الجزائية؛ بما تقرر عند الفقهاء من جواز مطالبة المدعى عليه بالتعويض، عما لحقه من ضرر الدعوى الكيدية، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: النصوص الواردة في نظام المرافعات الشرعية:
1 – فيما يتعلق بصور الطلبات العارضة، نص النظام على أن: "للمدعى عليه أن يقدم من الطلبات العارضة...
2 – طلب الحكم له بالتعويض عن ضرر لحقه من الدعوى الأصلية أو إجراء فيها"(88).
ومن خلال نص هذه المادة يتبين أن للحقوق الضرر في الدعوى حالين هما(89):
الحال الأولى: أن يكون الضرر الذي يطالب به المدعى عليه نشأ من الدعوى الأصلية نفسها.
وذلك كمن يقيم الدعوى مع علمه بكيديتها، ويسبب ذلك غرامة على المدعى عليه.
وقد نصت اللائحة التنفيذية(90) لهذه المادة؛ على أن المدعى عليه في هذه الحال لا يستحق التعويض إلا إذا ثبت كذب الدعوى.
الحال الثانية: أن يكون الضرر الذي يطالب به المدعى عليه نتج من إجراء في الدعوى كما لو أحضر الخصم عيناً لمجلس القضاء، بناء على طلب القاضي، ولم يثبت حق في ذلك، فيضمن الخصم أجرة إحضارها.
2 – فيما يتعلق بالحجز التحفظي، نص النظام على أنه: "يجب على طالب الحجز أن يقدم إلى المحكمة إقراراً خطياً من كفيل غارم صادر من كاتب العدل، يضمن جميع حقوق المحجوز عليه، وما يلحقه من ضرر إذا ظهر أن الحاجز غير محق في طلبه"(91).
ومتى ظهر أن الحاجز غير محق في طلبه، ورفع المحجوز عليه دعوى بالتعويض عن الضرر الذي لحقه من هذا الحجز، نظر الدعوى القاضي الذي أصدر أمر الحجز التحفظي، وفقاً للفقرة الأولى من اللائحة التنفيذية لهذه المادة، متى كان مختصاً بذلك اختصاصاً مكانياً(92).
3 – فيما يتعلق بالقضاء المستعجل، فقد نص النظام على أن: "لكل مدع بحق على آخر أثناء نظر الدعوى، أو قبل تقديمها مباشرة أن يقدم إلى المحكمة المختصة بالموضوع دعوى مستعجلة لمنع خصمه من السفر، وعلى القاضي أن يُصدر أمراً بالمنع إذا قامت أسباب تدعو إلى الظن أن سفر المدعى عليه أمرٌ متوقع وبأنه يُعرّض حق المدعي للخطر أو يؤخر أداءه، ويشترط تقديم المدعي تأميناً يحدده القاضي لتعويض المدعى عليه متى ظهر أن المدّعي غير محق في دعواه، ويُحكم بالتعويض مع الحكم في الموضوع، ويُقدّر بحسب ما لحق المدعى عليه من أضرار لتأخيره عن السفر"(93).
فقد اشترطت هذه المادة للمنع من السفر، أن يُقدم طالب المنع تأميناً يُقدره القاضي بوساطة أهل الخبرة، وفقاً للفقرة الرابعة من اللائحة التنفيذية لهذه المادة، وذلك لتعويض المدعى عليه، متى ظهر أن المدعي غير محق في دعواه، ويُقدم بشيك مصرفي محجوز القيمة، باسم رئيس المحكمة، ويودع في صندوق المحكمة، كما في الفقرة الخامسة من اللائحة التنفيذية لهذه المادة، ويقوم مقام إيداع التأمين، إحضار كفيل غارم مليء وتوكيل شخص بمباشرة الدعوى، كما في الفقرة السادسة واللائحة التنفيذية لهذه المادة.
ثانياً: جاء في نظام قواعد الحد من آثار الشكاوي الكيدية ما يفيد بجواز المطالبة بالتعويض إذا ظهر كذب المدعي في دعواه حيث نص على أن:
"من تقدم بدعوى خاصة وثبت للمحكمة كذب المدعي في دعواه، فللقاضي أن ينظر في تعزيره، وللمدعى عليه المطالبة بالتعويض عما لحقه من ضرر بسبب الدعوى"(94).
ثالثاً: جاء في نظام الإجراءات الجزائية:
"لكن من أصابه ضرر نتيجة اتهامه كيداً، أو نتيجة إطالة مدة سجن أو توقيفه أكثر من المدة المقررة الحق في طلب التعويض"(95).
وهذا النص النظامي يُقرر مبدأ التعويض عن الضرر الحاصل بسبب دعوى الاتهام الكيدية.

الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
وبعد أن انتهيت من هذا البحث المتواضع الموسوم بـ"الدعوى الكيدية دراسة مقارنة" توصلت إلى النتائج الآتية:
1-    التعريف المختار للدعوى هو أنها: مطالبة مقبولة بحق لشخص أو حمايته في مجلس القضاء.
2-    الدعوى الكيدية يراد بها: مطالبة المدعي غيره بأمر لا حق له فيه، وبغير وجه حق مع علمه بذلك في مجلس القضاء.
3-    الدعوى الصورية هي: ما كان ظاهره الخصومة القضائية، وحقيقته الحيلة، للتوصل إلى أمير غير مشروع.
4-    أن الدعوى الكيدية والدعوى الصورية، يتفقان في أن كلاً منهما ادعاء بالباطل، كما يتفقان في الأثر المترتب عليهما؛ من حيث ردهما وتأديب المدعي فيهما، وتُفارق الدعوى الكيدية الدعوى الصورية؛ في أن الدعوى الكيدية يراد منها إلحاق الضرر بالمدعى عليه، بخلاف الدعوى الصورية، فهي حيلة تتضمن اتفاقاً بين المدعي والمدعى عليه لإلحاق ضرر بطرف آخر، كما أن التأديب في الدعوى الكيدية يقع على المدعي، بخلاف الدعوى الصورية فيشمل التأديب المدعى عليه إذا ظهر تواطؤه مع المدعي.
5-    أن الدعوى الكيدية تتحقق كيديتها من خلال الأمور الآتية:
أ – اعتراف المدعي بأن دعواه كانت كيدية.
ب – تكرار المطالبة من المدعي في دعوى منتهية بحكم شرعي مع علمه بذلك.
جـ - الاعتراض على حكم مكتسب القطعية بقناعة أو تدقيق من جهة الاختصاص دون تقديم وقائع جديدة تستوجب إعادة النظر في الحكم.
6-    تحريم الدعوى بالباطل، لما فيها من ظلم وإشغال الجهاز القضائي، فلم يجز سماعها أو الالتفات إليها.
7-    يترتب على كيدية الدعوى في النظام ردها وعدم سماعها، ويكون الحكم برد الدعوى في ضبط القضية نفسها.
8-    نص الفقهاء على أن القاضي إذا تبين له كيدية الدعوى، فله تعزير المدعي بما يردعه ويزجره.
9-    أخذ نظام المرافعات الشرعية ولوائحه التنفيذية بما تقرر عند الفقهاء من تعزير المدعي بما يردعه، إذا تبين لناظر القضية كيدية الدعوى.
10-    نص الفقهاء على جواز المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي لمن لحقه ضرر بسبب رفع الدعوى عليه بغير حق.
11-    جاءت نصوص الشريعة من الكتاب والسنة النبوية دالةً على مشروعية جبر الأضرار بالتعويض المالي؛ لأن من ألحق ضرراً بغيره فهو ضامن لذلك.
12-    اختلف المعاصرون في حكم التعويض المالي عن الضرر المعنوي واستدل كل فريق بأدلة لها وجاهتها، والمسألة عندي تحتاج إلى مزيد تأمل.
13-    أخذ نظام المرافعات الشرعية، ونظام قواعد الحد من آثار الشكاوى الكيدية والدعاوى الباطلة، وكذلك نظام الإجراءات الجزائية بما تقرر عند الفقهاء من جواز مطالبة المدعى عليه بالتعويض عما لحقه من ضرر مادي بسبب الدعوى الكيدية.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________________
(1)    أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، صحيح مسلم (4/1994) رقم (2577).
(2)    انظر: مختار الصحاح (ص 591)، ولسان العرب (4/359، 362).
(3)    انظر: المصباح المنير (1/195).
(4)    مقاييس اللغة (2/279).
(5)    انظر: المصباح المنير (2/195، 196).
(6)    انظر: لسان العرب (4/359).
(7)    انظر: الجامع لأحكام القرآن (8/313).
(8)    انظر: المصباح المنير (1/195).
(9)    انظر: لسان العرب (4/362).
(10)    انظر: الجامع لأحكام القرآن (15/45).
(11)    انظر: القاموس المحيط (4/474)، ولسان العرب (4/362).
(12)    انظر: المصباح المنير (1/195)، ولسان العرب (4/362).
(13)    الدر المختار (8/285).
(14)    انظر: الادعاء العام وأحكامه (ص 34)، والدعوى القضائية (ص 64).
(15)    انظر: مسعفة الحكام (1/325).
(16)    انظر: مسعفة الحكام (1/325).
(17)    الفروق (4/72).
(18)    انظر: نظرية الدعوى للدكتور محمد ياسين (ص 80).
(19)    انظر: القواعد الفقهية المتعلقة بالدعوى (2/77).
(20)    نهاية المحتاج (8/333)، وانظر: مغني المحتاج (4/461).
(21)    دعوى منع التعرض هي: مطالبة واضع اليد على العين من عقار أو منقول المتعرض لها ومنعه من ذلك، وهي دعوى مسموعة عند جمهور الفقهاء.
انظر: البحر الرائق (7/331)، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص 696، 697)، والمغني (14/68)، والكاشف في شرح نظام المرافعات (1/171).
(22)    انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 696، 697).
(23)    المغني (14/275).
(24)    انظر: نظرية الدعوى (ص 83).
(25)    الادعاء العام وأحكامه (ص 41).
(26)    انظر المرجع السابق.
(27)    مقاييس اللغة (5/149).
(28)    انظر: مقاييس اللغة (5/149)، ولسان العرب (12/199).
(29)    انظر: مقاييس اللغة (5/149)، والقاموس المحيط (1/631)، ولسان العرب (12/199).
(30)    انظر: لسان العرب (12/200).
(31)    انظر: مقاييس اللغة (5/149)، والقاموس المحيط (1/631)، ولسان العرب (12/200).
(32)    انظر: القاموس المحيط (1/631)، ولسان العرب (12/199).
(33)    انظر: مقاييس اللغة (5/149)، والقاموس المحيط (1/631)، ولسان العرب (12/199).
(34)    انظر: لسان العرب (12/199).
(35)    انظر: المصباح المنير (2/545)، ولسان العرب (12/199)، ومعجم لغة الفقهاء (ص 386).
(36)    انظر: الكاشف شرح نظام المرافعات الشرعية السعودي (1/53).
(37)    انظر: الكاشف في شرح نظام المرافعات الشرعية السعودي (1/51).
(38)    انظر: نظام المرافعات الشرعية المادة الرابعة، والفقرة الخامس من اللائحة التنفيذية لهذه المادة. وسيأتي زيادة بيان لآثار الدعوى الكيدية والصورية في ثنايا البحث.
(39)    انظر: الكاشف شرح نظام المرافعات الشرعية (1/53).
(40)    انظر: الكاشف في شرح نظام المرافعات الشرعية السعودي (1/53).
(41)    انظر: قواعد الحد من آثار الشكاوي الكيدية والدعاوى الباطلة، المادة الثانية.
(42)    انظر: المرجع السابق، المادة الثالثة.
(43)    أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب: فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها (4/18)، ورقم (3597)، والإمام أحمد في المسند (2/92)، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الوكالة، باب إثم من خاصم أو أعان في خصومة بباطل (6/135، 136)، والحاكم في المستدرك في كتاب البيوع (2/32، 33)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(44)    أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب: من ادعى ما ليس له وخاصم فيه، سنن ابن ماجه (2/778)، رقم (2320)، والحاكم في المستدرك في كتاب الأحكام (4/111، 112)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(45)    انظر: الفقرة الخامسة من اللائحة التنفيذية للمادة الرابعة من نظام المرافعات الشرعية.
(46)    انظر: الكاشف في شرح نظام المرافعات الشرعية السعودي (1/54).
(47)    انظر: الفقرة السابعة من اللائحة التنفيذية للمادة الرابعة من نظام المرافعات الشرعية.
(48)    التعزير في اللغة: التأديب وأصله المنع والرد، وفي الاصطلاح: عرفه الحنفية بأنه: تأديب دون الحد. وعند المالكية: تأديب استصلاح وزجر على ذنوب لم تشرع فيها حدود ولا كفارات. وعند الشافعية: تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود. وعند الحنابلة: التأديب.
انظر: لسان العرب (9/184)، وفتح القدير (5/330)، وتبصرة الحكام (2/200)، والأحكام السلطانية للماوردي (ص 310)، وكشاف القناع (6/121).
(49)    تبصرة الحكام (1/36).
(50)    كشاف القناع (6/128).
(51)    انظر: فتح القدير (5/330)، وروضة الطالبين (11/144)، وكشاف القناع (6/124).
(52)    مجموع الفتاوى (35/397).
(53)    تبصرة الحكام (1/115، 116).
(54)    انظر: بدائع الصنائع (7/63)، وتبصرة الحكام (2/148)، والعزيز شرح الوجيز (11/287)، وكشاف القناع )(6/121).
(55)    انظر: الفقرة الخامسة من اللائحة التنفيذية للمادة الرابعة من نظام المرافعات الشرعية السعودي.
(56)    انظر: الفقرة الثامنة من اللائحة التنفيذية للمادة الرابعة من نظام المرافعات الشرعية.
(57)    التعويض في اللغة: العوض: هو البدل، والمستعمل التعويض.
وفي الاصطلاح: المال الذي يُحكم به على من أوقع ضرراً على غيره في نفس أو مال. وقيل هو: دفع ما وجب من بدل مالي بسبب إلحاق ضرر بالغير.
انظر: مقاييس اللغة (4/188)، والتعويض عن الضرر في الفقه الإسلامي (ص 155)، والموسوعة الفقهية الكويتية (13/35).
(58)    الضرر في اللغة: ضد النفع. وفي الاصطلاح هو: كل أذى يلحق الشخص سواء أكان في مال متقوم محترم أو جسم معصوم أو عرضٍ مصون. انظر: مقاييس اللغة (3/360)، والتعويض عن الضرر (ص 28).
(59)    الاختيارات الفقهية للبعلي (ص 165).
(60)    كشاف القناع (6/128).
(61)    المرجع السابق (4/116، 117)، وانظر: المرجع نفسه (3/419).
(62)    فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (12/345).
(63)    المرجع السابق (13/55).
(64)    انظر: الجامع لأحكام القرآن (10/201)، وتفسير ابن كثير (2/613).
(65)    انفلقت: الفلق بالسكون الشق، وقد دلت الرواية الأخرى على أنها انشقت ثم انفصلت. انظر: المصباح المنير (ص 481)، وفتح الباري (5/150).
(66)    أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب: إذا كسر قصعة أو شيئاً لغيره، وفي كتاب النكاح، باب: الغيرة، صحيح البخاري (2/744)، رقم (2481) و(4/1680) رقم (5225).
(67)    الضارية: المعتادة لرعي زروع الناس. انظر: لسان العرب (8/57).
(68)    أخرجه أبو داود في سننه واللفظ له، في كتاب البيوع والإجارات، باب: المواشي تفسد زرع قوم (3/829، 830) رقم (3570)، وابن ماجه في سننه في كتاب الأحكام، باب الحكم فيما أفسدت المواشي (2/781) رقم (2332)، ومالك في الموطأ، كتاب الأقضية، باب: القضاء في الضواري والحريسة (2/747) والحاكم في المستدرك (2/55) رقم (2303) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، على خلاف فيه بين معمر والأوزاعي، فإن معمراً قال: عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه، ووافقه الذهبي.
(69)    أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، باب: القضاء في المرفق (2/745)، من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه به مرسلاً. انظر: التلخيص الحبير (4/362)، ووصله الدارقطني في سننه (3/77) (4/228)، والحاكم في مستدركه (2/66) من طريق الدراوردي عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، وزاد فيه: "من ضارّ ضارّه الله، ومن شاق شق الله عليه". وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
كما أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/389)، وابن ماجه في سننه (2/784) عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس، وجابر الجعفي متهم، انظر التعليق المغني (4/228)، وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في المسند (5/409) من طريق إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن عبادة في حديث طويل وفيه: "وقضى أن لا ضرر ولا ضرار" وبهذا القدر أخرجه ابن ماجه في سننه (2/784)، وقال البوصيري: رجاله ثقات، إلا أنه منقطع. اهـ انظر: مصباح الزجاجة (2/221).
والحديث حسّنه النووي في الأربعين النووية وقال: رواه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوّي بعضها بعضاً.اهـ.
وللحديث شواهد وطرق كثيرة ذكرها الحافظ ابن رجب – رحمه الله – عند شرحه لهذا الحديث، انظر: جامع العلوم والحكم (2/207)، كما ذكر طرقه الألباني في الإرواء (3/408) وصححه.
(70)    انظر: التعويض عن أضرار التقاضي للدكتور اللاحم (ص 33).
(71)    انظر: الوسيط في شرح القانون المدني، للسنهوري (1/855).
(72)    الموسوعة الفقهية الكويتية (13/35).
(73)    انظر: الضمان في الفقه الإسلامي (ص 45).
(74)    انظر: الفعل الضار (ص 124).
(75)    انظر: الضمان في الفقه الإسلامي (ص 45).
(76)    مواهب الجليل (6/305).
(77)    انظر: الفعل الضار (ص 124).
(78)    انظر: التعويض عن الضرر (ص 35).
(79)    انظر: المسؤولية المدنية والجنائية، لمحمود شلتوت (ص 35).
(80)    انظر: نظرية الضمان للدكتور فوزي فيض الله (ص 92).
(81)    الهميان: كيس يُجعل فيه النفقة ويُشد على الوسط. انظر: المصباح المنير (2/641).
(82)    التباعة: المطالبة بالدين. انظر: لسان العرب (2/15).
(83)    أخرجه ابن حبان (صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان (1/521)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/40)، والحاكم في المستدرك (3/71) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(84)    (6/138).
(85)    انظر: التعويض عن الضرر (ص 37).
(86)    انظر: نظرية الضمان للدكتور وهبة الزحيلي (ص 25).
(87)    انظر: التعويض عن الضرر (ص 37، 38).
(88)    المادة الثمانون من نظام المرافعات الشرعية.
(89)    انظر: الكاشف في شرح المرافعات الشرعية السعودية (1/418، 419).
(90)    الفقرة الأولى من اللائحة التنفيذية للمادة الثمانين من نظام المرافعات.
(91)    المادة الخامسة عشرة بعد المائتين من نظام المرافعات.
(92)    انظر: الكاشف في شرح نظام المرافعات الشرعية السعودي (2/360).
(93)    المادة السادسة والثلاثون بعد المائتين من نظام المرافعات.
(94)    المادة الرابعة من نظام قواعد الحد من آثار الشكاوي الكيدية.
(95)    المادة السابعة عشرة بعد المائتين من نظام الإجراءات الجزائية.