هل نحن بحاجة إلى إحياء ثقافة الحياة الأسرية ؟ 1-2
28 جمادى الأول 1433
يحيى البوليني

ربما كان الجيل الحالي أحسن حظا من الجيل الذي سبقه في نواح عدة أغلبها في مجال التقنية , فقد يُسر لهم اقتناء آلات وأدوات ومستلزمات يسرت لهم سبل الحياة بما لم يخطر على عقل وقلب أحد من أبناء الجيل السابق , لكن فارقا مهما وجديرا بالتوقف عنده حين المقارنة بين الجيلين , وهو أن الجيل السابق كان نصيبه أعظم بكثير في مجال الثقافة والتربية الأسرية والتدرب على تحمل المسئولية , وهي التي تعلمها بالممارسة والمشاهدة والتطبيق العملي قبل أن يدخل بنفسه في مضمار الاختبار الفعلي .

 

فغالب أبناء الجيل السابق – رجالا ونساء - قد نشأ في الأسر الكبيرة التي يجتمع فيها ثلاثة أجيال ,  والتي يتعلم فيها الناشئة أسس التربية السليمة تعليما غير مباشر , ويتدرب فيها الابن المقبل على الزواج أو المتزوج حديثا على تحمل المسئولية قبل وبعد زواجه , وتتدرج في تلك المعرفة بحكم مرور السنين وتراكم الخبرات ومهام الزوج والزوجة الذين يصبحان بمرور الوقت هما الجد والجد في أسرة كبيرة أخرى  .

 

ولكن الجيل الحالي من الشبان والشابات المقبلين على الزواج أو المتزوجين حديثا الذين لم يشهدوا تلك الأسر الكبيرة وتمت تربيتهم في أسرة صغيرة مقتصرة على زوج وزوجة وأبناء فقط , لذا هم يعيشون في مشكلة تربوية كبيرة , فمعظمهم يتعرضون لنقلة فجائية بين مرحلتين ليس بينهما أي اقتراب أو تشابه , مرحلتان تختلف فيهما نظرة المجتمع إليهما وتعامله معهما ,  بل وتختلف فيهما نظرة هؤلاء الأزواج والزوجات لأنفسهم , وحينها يشعر معظمهم بالغربة سريعا , ويتمنى كل منهما لو يعود لسيرته الأولى التي كانت أكثر راحة من تلك الجديدة , ويسعى كثير منهم للتخلص الفعلي من ربقتها

 

فما بين المرحلة التي يكون فيها الشاب أو الشابة مدللين في كفالة والديهم , لا يُكلفون – غالبا - بأي عمل , ومعظم أوامرهم ورغباتهم مجابة خصوصا البنات , يُلتمس لهم دوما الأعذار بدعوى صغر السن وحداثة الخبرة , لا يشغلون أنفسهم بشيء من مهام الأب وإلام , فالأب والأم يغدقان في عطائهما ويظنان أنهما يؤديان كل ما عليهما تجاه أبنائهم , بل وربما يتكفل الآباء بكل أو معظم نفقات الزواج نيابة عن أبنائهم الذكور ويظنون بهذا التصرف أنهم يحسنون صنعا .

 

وتأتي المرحلة الأشد والأصعب التي لا يفصل بينها وبين الأولى سوى ليلة واحدة يكون فيها العرس , فينتقل الزوجان الصغيران إلى مكان جديد بطبيعة جديدة لم يدركاها أو يستعدا لها من قبل , لينتظر كل منهما من الآخر أن يقوم بنفس المهام التي كان يقوم بها والداه , ويُفاجأ كل منهما أن الطرف الآخر لا يستطيع القيام بأية مهمة سوى انتظار ما يؤديه الآخر له , وربما يتعجب أحدهما من عدم قيام زوجه بتلك المهام , ولا عجب حينها فالآخر أيضا ينتظر نفس الشيء منه .

 

ومن هنا تنشأ مشكلة حديثي الزواج والتي ينتج عنها بحسب الإحصاءات الرسمية في معظم الدول العربية أن السنة الأولى للزواج هي أكثر سنة تقع فيها حوادث الطلاق .

ولهذا نحتاج جميعا إلى تعلم ثقافة أسرية ليست بالجديدة ولكنها قديمة ومفتقدة , يحتاجها الآباء والأمهات الكبار لتغيير بعض ما ترسخ في أذهانهم حول أفكار العطاء اللامتناهي واللامحدود بدعوى تجنيب الأبناء أية مسئوليات داخل المنزل  أو خارجه , ويحتاجها الآباء والأمهات أيضا لينقلوها لأبنائهم منذ صغرهم ويربوهم عليها , ويكثروا من تلك المعاني لاسيما في الفترات الأخيرة قبل زواج الأبناء وانتقالهم لبيوتهم الجديدة حتى لا تحدث لهم هذه الانتكاسات التي يكون من أهم أسبابها العطاء المسرف من الآباء والأمهات , وحتى لا ترتدي الجناية على الأبناء ثوب الحب والتعاطف .

 

وهناك العديد من الأسباب التي تدفعنا للقول بالحاجة إلى تعليم الحياة الأسرية لأبنائنا ولتغيير الثقافات السائدة الحالية في الكثير من البيوتات العربية والمسلمة :

-      تعدد مصادر التلقي وتنوعها وعدم الاطمئنان إليها

كان للتطور التكنولوجي الهائل الذي تميز به هذا العصر أثره الكبير في تنوع مصادر التلقي للأبناء وذلك منذ نعومة أظفارهم , فالطفل يتأثر بكل من حوله وما حوله وخاصة في سبيلين شديدي الخطورة على الأبناء وهما : جهاز التلفزيون - بما صحبه من انفتاح هائل على الثقافات والأفكار العابرة للمحيطات - مؤثر تأثيرا بالغا عليهم بما يبثه من أفكار وقيم بداية من قنوات الكارتون للأطفال مرورا بالمسلسلات والأفلام والبرامج للشباب , فلا يصح أن نعتقد أن غيرنا ينفق الملايين على هذه الأعمال ثم ينشئ قنوات لبثها مجانا دون أن يكون له هدف ورسالة يهتم بتوصيلها للنشئ الغض الذي لا يزال في مرحلة التكوين , والسبيل الثاني الانترنت بما صحبه من خروج كامل ذهني ومادي لمعظم الأبناء من تحت سيطرة أفكار الوالدين , بل ويستطيع كل منهم أن يتفاعل مع عالم خارجي مليئ بالمتناقضات الفكرية في حين يظن الأبوان أنه في غرفة مغلقة عليه وخاصة مع صغر حجم الأجهزة الحديثة مثل الهواتف النقالة المتطورة بسرعة شديدة والتي تستطيع أن تكون وسيلة شديدة الخطورة على التربية الأسرية .

-      ضيق وقت اللقاء الأسري عن ذي قبل
 عندما نقارن بين الجيلين نكتشف أن وقت اللقاء الأسري قد أخذ في التناقص بشكل حاد في هذه الأجيال عن الأجيال التي سبقتها , فشواغل الحياة الآن كثيرة جدا بما لا يسمح بوجود فترات طويلة للقاء والحوار , فالطالب منهك في مدرسته وخارجها بداية من مرحلة الطفولة التي اغتلناها بكثرة الواجبات المدرسية , والأب كنتيجة لضغوط الحياة وتسارعها لا يتمكن من المكث كثيرا في المنزل , أما الأم فربما ساهمت وسائل الاتصال الحديثة أيضا في انشغالها وتحتل الأعمال المنزلية من وقتها الكثير نتيجة عدم المساعدة من أبنائها – إلا أن يكون لديها من يخدمها – وتحتل الأجهزة التقنية مكانها كشريك دائم في اللقاء الأسري الذي لا يستمر للحظات حتى أثناء تناول الطعام , فنشرات الأخبار دائمة على مختلف القنوات والأحداث متلاحقة , والبرامج المسلية مستمرة , والمباريات على مدار الساعة , والهواتف لا تكف عن الرنين وتقطع كل حوار مما لا يسمح بوجود تفاعل مستمر وهادف وبناء بين أفراد الأسرة , وبالتالي لن يسمح هذا الوضع بنقل خبرات أو صقل تجارب أو عرض مشكلات وبحث سبل حلها بل لا يكاد ذلك الوضع يسمح بمجرد استماع كل طرف لغيره .

 

-      تقديم المعرفة الذاتية على المعرفة المكتسبة من الأسرة
ظل الأمر طبيعيا لفترة طويلة في السابق , فنتيجة لاحتكاك الأجيال الطبيعي يحدث التفاعل ويستفيد كل جيل بخبرات من سبقه , ولكن بظهور تلك الأجيال التي تطورت تقنيتها جدا فأصبح الفارق بينها وبين جيل آبائها شاسعا , وظهرت فجوة فكرية بينهما تزداد يوما بعد يوم , فقدم الأبناء معارف جيلهم ومكتسباته الثقافية من خلال تفاعلهم مع مجتمع خارجي مقارب لهم في السن والثقافة على المعارف التي يستقونها من والديهم  , بل وأصبحوا ينظرون إلى الأفكار والتصورات التي يطرحها الآباء بنظرة استعلائية متكبرة رافضة وربما معادية , وقدموا ثقافتهم التي اكتسبوها من أقرانهم دون وجود معايير ضابطة  على أية ثقافة أخرى , بل ويعتقدون أنهم بمجرد ضغطة على محرك البحث سوف يصلون إلى علوم وثقافات وخبرات أرقى بكثير من الثقافات البالية – في نظرهم – التي سيحصلون عليها من والديهم .

 

-      كثرة الضغوط على الأسرة كلها نتيجة ذهاب بركة الوقت
 تميز هذا العصر بأنه عصر لاهث , الكل فيه يجري غير منتبه لمن معه , فنتيجة لتغير أحوال الكثيرين في مخالفة النواميس الكونية في النوم والاستيقاظ كما قال الله سبحانه " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً "  , فكثر السهر بالليل واستبدل الليل بالنهار , وصار عدد غير قليل من الناس – إلا من رحم الله - يستيقظ قبل الظهر بقليل وربما يمتد نومه إلى ما بعده , مما جعله يفقد بركة النهار فلا يشعر إلا بانقضائه دون أن ينجز أي عمل , فيستمر في اللهث والمسارعة لكي يدرك يومه الذي لم يبدأ فعليا إلا قبيل المغرب مما ينزع عن الناس إحساسهم بالأيام وتسارعها ويشغلون عن كثير من المهام الأساسية لهم , ومنها بالطبع الاهتمام بتربية الأبناء تربية أسرية سليمة .

 

-      النظرة المادية الغالبة على هذا العصر
 أضحت النظرة المادية تحكم الكثير من الرؤى والأفكار , وصار كل شيئ قابلا للتقويم المادي , واختزلت معظم المشاعر الإنسانية في صورة رقمية , فالأب يقيس درجة اهتمامه بأبنائه وحرصه عليهم بتوفير احتياجاتهم المادية ,  ويقنع نفسه أنه طالما وفر لهم الحياة المادية الكريمة أنه قد أدى كل ما عليه , والأم تعتقد أنها طالما تعمل أو تساهم في تلبية متطلبات أبنائها وتهتم بشئونهم المادية أنها قد أدت كل ما عليها وأنها قد قامت بواجبها خير قيام , ومعظم الأبناء كذلك لا يرون في الآباء إلا ممولين مادين ولا يرون في الأمهات إلا مديرات منازل , وأضحت كثير من العلاقات الأسرية بل والإنسانية كلها تقاس بمعايير رقمية بحتة .