17 ربيع الأول 1434

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أنا فتاة مملَّكة من سنه ونصف، وخطيبي هو ابن عمي ومشكلتي معه أنه يرفض زيارتي والتواصل معي، بحجة أنه يريد كل شيء بعد الزواج، وأن إخوته كذلك كان شأنهم من قبل، وأنا تعبت كثيرا من تصرفاته وإهماله لي وعدم سؤاله عني، إلا إذا بادرت بالسؤال عنه، وحتى عندما أتصل به تارة لا يرد علي، وتارة لا يطيل في المكالمة، ويعتذر لي دائما بكثرة انشغاله وعدم قدرته على ترك عمله، مع علمي بأنه ليس لديه ما يشغله أو ما يمنعه من الخروج، وعندما أناقشه في موضوع تحديد موعد الزواج لا أجده يتحمس لذلك، ومع ذلك يبرر تصرفاته معي بأنها بدافع حبه لي، ولكنني بدأت أفكر في الانفصال عنه لأنه شخص متناقض، وغالبا ما يكذب في كلامه، فأرشدوني إلى حل مقنع وسليم.

أجاب عنها:
صفية الودغيري

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أختي السائلة الكريمة أشكرك ابتداء على حرصك واهتمامك بطرح مشكلتك، وطلب المساعدة في إيجاد حلول لها، أما بخصوص مشكلتك فتتمحور حول قضية واحدة جوهرية وهي: معاناتك من إهمال خطيبك وعدم تواصله معك وزيارته لك، وانشغاله عنك، وعدم اهتمامه بتعجيل موعد الزواج بك، وفقدان ثقتك بصدق كلامه وإخلاصه في تصرفاته، وهذا سيقودك إلى التفكير بالانفصال عنه.
والآن أنت تبحثين عن الحل المقنع والسليم، وهذا يعني أنك لست واثقة من قرارك واختيارك الانفصال عن ابن عمك وخطيبك، وعاطفتك ما زالت مرتبطة به، ولكن عقلك قادك إلى التفكير في أقواله وتصرفاته، فبدأت تشعرين بأنه ليس الشخص المناسب للزواج بك، لأنه من جهة هو متناقض ويكذب في كلامه، ومن جهة أخرىِ لم يمنحك الاحتواء العاطفي، وتحقيق التواصل والانسجام الذي كنت تحلمين به، وهنا أقول لأختي الكريمة:
أولا ينبغي أن تفرقي بين الخِطبة وعَقْد القران، فلو كنت في حالة المخطوبة فأنت بهذا أجنبيَّة عن خطيبك ولو كنت قريبته وهو ابن عمك، ولا يجوز لك في هذه الحالة لا الخلوة به، ولا التواصل معه كما هو متعارف عليه عادةً بين الخطيبين إلا بحضور أهلك، وهنا قد يكون ما حال بين خطيبك وبين محادثتك وزيارتك أنه يراعي هذا المانع الشرعي، وأمَّا لو تم عقد القران بينك وبينه وهو ما فهمته من رسالتك (قولك مملكة - يعني في فترة الملكة التي يسميها أهل الخليج كذلك بعد العقد) وهذا هو المقصود بقولك: "أنك فتاة مملكة من سنة ونصف"، فهذا زواجٌ شرعي وإن لم يتمَّ فيه البناء بعدُ، وفي هذه الحالة يجوز لك أن تتواصلي معه، وأن يكون بينكما زيارات وحديث مباشر، وهنا قد تبررين امتناعه عن زيارتك والتواصل معك بدافع العادات والتقاليد، وما تربى عليه داخل أسرته، فقد صارحك بأن إخوته هكذا كان شأنهم قبل الزواج.
وما شد انتباهي في مشكلتك أختي الكريمة: أنك لم تتعرَّضي لمدى تديُّن خطيبك والتزامه، بل ما كان يشغلك هو قلة زيارته وعدم تواصله معك، كذلك تحدَّثِ لنا عن الفجوة التي بينك وبين خطيبك، واعتبرته المذنب الوحيد الذي ساهم من جانبه في توسيعها وتضخيمها، ولهذا أنصحك أختي الكريمة بمجموعة أمور منها:
- أن تعيدي ترتيب أوراقك من جديد، وتفكري بحِكْمَة في علاقتك بخطيبك، ولا تستسلمي لعواطفك ومشاعرك فتقودك إلى تقييم تصرفاته وعلاقتك به بشكل خاطئ.
- أن تفرِّقي بين الخطيب القريب والخطيب الغريب عنك، فأنت اخترت قريبك وابن عمك وليس غريبا عنك ليكون زوجا لك، وهذا يجعل طبيعة علاقتكما مختلفة عن التي تجري بين الغرباء، فقد تعوَّد على أن يراك، أو يلتقي بك في مناسبات، أو لقاءات أسرية متكررة، وبالتالي أنتما تألفان بعضكما، وبالتالي فد تجاوزتما مرحلة الخطوبة التي يحاول كل شريك أن يقترب من الآخر ليتعرف عليه، لأنكما تعرفان بعضكما جيدا كقريبين قبل أن تكونا خطيبين، ولهذا لن تجدي من ابن عمك ذلك الشوق والحنين والرغبة الملحة للقائك والحديث معك، كما يحصل عادة بين الخطيب وخطيبته التي ليست من أقاربه.
- ثقي بنفسك وبخطيبك وأحسني الظن به، وتأكدي بأنه لو لم يكن يحبك لما أخبرك بذلك، ولما اختارك دونا عن بقية النساء، ولما تقدم لخطبتك من أهلك للزواج منك، أما تصرفاته معك فهي إنما تدل على أنه إنسان ملتزم بأصوله وتقاليده ومحافظ عليها، ولهذا لا يريد أن يتواصل معك كما يتواصل الخطيب مع خطيبته إلا بعد الزواج، وهذا لا يصدر إلا عن شخص يحترمك ويراك عزيزة وغالية، فيحافظ عليك ويتحمل مسؤولية حمايتك وصيانتك، والحفاظ عليك وعلى قوة علاقته بك، حتى تصيري زوجة له، وإلا ما يمنعه عن الاختلاء بك، أو الخروج معك، وزيارتك، واستغلال رغبتك في لقائه والحديث معه..
- غيِّري محور تفكيرك في اتجاه مخالف للاتجاه الذي تحدَّث لنا عنه، واهتَمِّي أكثر بما هو أصلح وأولى وهو: التفكير في كيفية توثيق علاقتك بخطيبك، وكيفية فهم طباعه وتصرفاته والتعود عليها، وكيفية احتواء أخطائه وسلبياته، وامتصاصها والتغاضي عنها، وكل ما من شأنه أن يكون سببا في توطيد التواصل بينكما بسلوكك وتصرفاتك وأقوالك التي تبرهن عن ذكائك وفطنتك في امتلاك عقل وقلب من اخترته أن يكون زوجا لك.
- أنت تمرين بفترة مُتْعِبة وصَعْبة بالنسبة لكما، ستتعرضان فيها لاختبارات للشخصية في سلوكها ومواقفها وتصرفاتها.. ولكنها من أجمل مراحل حياتكما، هي مرحلة البناء وحفر الأساسات، فبقدر ما ستتعبان حاليا سترتاحان بعد الزواج، وبقدر ما يكون بينكما من البعد وقلة الزيارات والمحادثات بهذه المرحلة، بقدر ما سيكون التواصل بينكما أقوى وأجمل بعد الزواج، أما لو استنفذتما كل طاقتكما ورصيدكما في هذه المرحلة ماذا ستتركان لتنفقان منه على سنوات طويلة من الزواج؟ فهذه العلاقة التي بينكما بهذا الشكل أراها هي صمام الأمان، وضمان سلامة البناء واستقراره، أمَّا إن كسرتما كل الحواجز والأعمدة فورًا دون التفكير ببناء الأساس، فإنه سينهار بسرعة.
- بالحياة هناك اختيارات ولا تملكين أن تحصلي على كل ما تحلمين به، فماذا تختارين لنفسك، هل علاقة الحب التي تحمل معها كل العواطف والمشاعر بقوتها وسرعتها، المتوهجة بمعسول الكلام، السابحة في بحر الأحلام، المتوهجة كالشمعة تضيء بسرعة ولكنها ما تلبث تنتهي كما بدأت بسرعة، وتكفيها نفخة واحدة تذهب بنورها؟ أم تختارين العلاقة المتزنة الرزينة، الهادئة والمتحركة على مهلها بثقة وعمق، والمتوهجة كالجمرة المتوقِّدة، التي من الصعب إطفائها؟
أعتقد أنك فهمت ما أرمي إليه، وأن العلاقة الجميلة، والتواصل المتين يبدأ بعد الزواج، حيث يكون الحب الصادق أقوى وأعمق بالاحتكاك بالمواقف والتجارب والخبرات، ويدوم معك ما دامتِ الحياة تنبضُ في قلبك.
- أحسِني استغلال فترات تواصله وحديثه معك وفترات زيارته، وأحسني إدارة الحديث بينكما حتى يستغرق وقتا أطول، ويجد منك ما يشجعه على استمرار الحوار بينكما، وهذا يحتاج إلى امتلاكك لرصيد من الثقافة والمعرفة العامة بشؤون الدين والدنيا، فيجد عندك دائما ما تفاجئينه به من جديد خبر، أو معلومة، أو إعلان، أو عرض مقترح، أظهري له أنك الأجمل بذكائك في التلقي والإنصات وأثناء الإلقاء والحديث.
- قد تقولين لي: ولكنه كثيرا ما يكذب علي، فكيف أصدقه أو أأمنه على نفسي بعد الزواج، وإذا كان يهملني الآن ولا يعبأ بتعجيل الزواج مني فكيف يهتم بي بعد ذلك، الجواب هو: تحتاجين إلى أن تستخدمي ذكائك وفطنتك وفراسة المرأة العاقلة في اختبار شريك حياتها، وعدم التدقيق في كل ما يقوله ويفعله، ومحاسبته على كل صغيرة أو كبيرة، بل تعَوَّدي على أن تكتسبي صفة العفو والسماح عند المقدرة، وصفة البذل والعطاء، والصبر وسعة الصدر بدافع الحب، إذا كنت حقا تحبينه، ومقتنعة بأنه على خلق ودين، والتمسي له الأعذار دائما فلعله لا يتعمد الكذب عليك، ولا يقصد إهمالك ولا عدم الاهتمام بالزواج منك، إنما تتوهَّمين ذلك، أو ربما يخاف على مشاعرك فيخفي عنك الحقيقة حتى لا يجرحك فتشعرين بتناقضه، ولا تنسي أن المرأة عندها رصيد العواطف أكثر من الرجل، ولهذا تفسرين تصرفاته وأقواله بشكل خاطئ بمقياس العاطفة.
- كذلك وأنت تُقَيِّمين خطيبك كُوني موضوعيَّة وعادلة، في الموازنة بين إيجابياته وسلبياته، وبين إيجابياتك وسلبياتك، وحاولي أن لا تضعي شخصيته تحت المجهر، لأنك لن تجدي رجلا خاليا من العيوب، سالما من النقائص، جميلا ورائعا في كل شيء، وأنت كذلك فيك الكثير من العيوب لو وضعت نفسك تحت المجهر وأخذ تحاسبين نفسك كما تحاسبينه، بل كلاكما فيه مواطن قوة وضعف، وأنتما معا تكملان بعضكما.
- والأهم من كل ما ذكرته لك أختي الكريمة هو: أن تحرصي على إقامة الأساس الذي تبنى عليه علاقة الزواج الناجح، وهو يقوم على تحري الحلال أولاً، وثانيًا: توظيف طاقتك في كسب مودة خطيبك واحترامه وحبه، وهذا يحتاج لجهدك وإصرارك على النجاح في إتمام الزواج، وثالثا: عليكِ أن تختاري بقلبك وعقلك، ما يدوم طوال العُمْر ولا يتغيَّر بسهولة، وما ينفع لبناء بيت تشيع فيه السكينة والمودة والرحمة، ويضمن لك ولزوجك وأولادك حياة هادئة ومستقرة، حياة طيبة كريمة، ولا تجعلي تفكيرك مقيدا بمرحلة الخطوبة وتقليد ما يجري عادة بين الخطيب وخطيبته، ولا تفكِّري فيما يلبي رغباتك اليوم، ولكن فَكِّري في مشروع حياتك القادمة كيف تحبي أن تكون، وكيف ينبغي أن تكون.
وختاما: لا تَدعي عواطفك تسيرك وتحكمك، وتذكَّري أنَّ الزواج لا يحكمه الحب فقط، إنما يحكمه مستوى ما يقدمه كلاهما من تنازلات وتضحيات في مواقف كثيرة يمر بها الزوجان، ومدى تحَمُّل كلاهما لمسؤولية التصرُّف واتِّخاذ القرار، وفكِّري بعُمْقٍ ورَوِيَّة، واستخيري الله كثيرًا، واسألي عن أحوال خطيبك وأخلاقه وسلوكه دينا ومعاملة، وقولا وفعلا من خلال المحيطين به والمقربين منه، واستشيري من تثقين برأيهم من أسرتك، أو من تطمئنين إليهم من أهل العلم والصلاح إن استطعتِ، ثم اعزمي أمرك واتَّخذي قرارَكِ، وتوكَّلي على الله، وسلِّمي أمرَك إليه، وتسلحي بالدعاء أن يدبر الله لك ما فيه الصواب، ويختار لك الأصلح، وأن يريك الحق حقا ويرزقك اتباعه، والباطل باطلا ويرزقك اجتنابه.
أسأل الله أنْ يرزقَكِ الحِكْمة والتوفيقَ والهِداية، وأن يُبعدَ عنك السوء والغواية، وأن يوفَّقكما الله وييَسِّر زواجكما، ويجمَع بينكما بالمودة وبالمحبَّة، ويرزقكما من خيرَي الدنيا والآخرة.