جنة الدنيا ..
24 رجب 1433
د. خالد رُوشه

تتابع اكدار الحياة , حتى إنها لاتكاد تدع بينها وقتا لغير الكد أو الكدر , فمالاكدر فيه يملؤه الكد والتعب , وما لاحزن فيه يملؤه الهم في انتظار ما يكون في المستقبل , فاحزان متتالية ومكابدات متتابعة , وسعادة لاتدوم ..

 

فقط ماكان فيها لله هو الذي يقطع كدرها , ويجمل كدها , ويذهب آلام مكابدة عيشها , ويحيل أحزانها سعادة وهمومها أملا وضاء .
إنك لاتكاد تجد لحظات في الحياة صافية نقية مطمئنة إلا وهي محاطة برعاية الله سبحانه , بين جنبات الطاعة , وفي محيط الذكر النقي الخاشع , حيث تطمئن القلوب , وتهدأ العيون , وترتاح النفوس , ويحط الامل الصالح رحاله .

 

هذا وقت لا مال يرتجى , ولا إنسان يراءى , ولا متاع يبتغى , ولا جاه يتصارع عليه , فقط توبة وإنابة , وخشوع وخضوع , وذلة وتواضع للعلي الأعلى المتعال سبحانه .
تلكم هي جنة الدنيا لمن سأل عنها , وذاك هو خير نعيمها لمن بحث عنه , فكم من غني يبتغي شراء لحظة السعادة بشطر ماله ولا يستطيع  .

 

قال ابن القيم رحمه الله : ( اعلم أن القلب يسير إلى الله عز وجل ، والدار الآخرة ، ويكشف عن طريق الحق ونهجه ، وآفات النفس والعمل ، وقطاع الطريق ، بنوره وحياته ، وقوته ، وصحته ، وعزمه ، وسلامة سمعه وبصره ، وغيبة الشواغل والقواطع عنه ، وهذه الخمسةـ يقصد كثرة الخلطة ، والتمني ، والتعلق بغير الله ، والشبع ، وفضول المنام ـ تطفىء نوره ، وتعور عين بصيرته ، وتثقل سمعه ، إن لم تصمّه ، وتبكمه ، وتضعف قواه كلها ، وتوهن صحته ، وتفتِّر عزيمته ، وتوقف همّته ، وتنكسه إلى ورائه ، ومن لاشعور له بهذا فميت القلب ، وما لجرح بميت إيلام ، فهي عالقة له ، عن نيل كماله ، قاطعة له عن الوصول إلى ما خلق له ، وجعل نعيمه ، وسعادته ، وابتهاجه ، ولذته في الوصول إليه .

 

فإنه لا نعيم له ولا لذة ، ولا ابتهاج ، ولا كمال إلا بمعرفة الله ومحبته ، والطمأنينة بذكره ، والفرح والابتهاج بقربه ، والشوق إلى لقائه ، فهذه جنته العاجلة ، كما أن لانعيم له في الاخرة ، ولا فوز إلا بجواره في دار النعيم في الجنة الآجلة ، فله جنتان ، لايدخل الثانية منهما إن لم يدخل الاولى .

 

وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ يقول : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة .

وقال بعض العارفين : إنه ليمر بالقلب أوقات ، أقول : إن كان أهل الجنة في مثل هذا ، إنهم لفي عيش طيب .

 

وقال بعض المحبين : مساكين أهل الدنيا ، خرجوا من الدنيا ، وما ذاقوا أطيب مافيها قالوا : وما أطيب ما فيها ؟ قال : محبة الله ، والأنس به ، والشوق إلى لقائه ، والإقبال عليه ، والإعراض عما سواه ، أو نحو هذا الكلام ، وكل من له قلب حي يشهد هذا ، ويعرفه ذوقا .) مدارج السالكين