البيع باشتراط البراءة من العيب في الفقه الإسلامي وتطبيقاته المعاصرة
13 رجب 1435
د. إبراهيم عماري

مقدمة:

إن من أهم الالتزامات التي تقع على البائع التزامه بضمان العيب الخفي الذي قد يظهر في المبيع بعد البيع، ولكن قد يرغب العاقدان في تعديل أحكام ضمان العيب الخفي بخلاف ما هو مقرر شرعاً، إما بتخفيف الضمان أو إسقاطه كلية (الإعفاء من المسؤولية العقدية)، ويتخذ هذا التعديل صورة اشتراط البراءة من العيب، وصورة المسألة أن يقول البائع: بعت على أني بريء من كل عيب، أو بيع الشيء على أنه حاضر حلال، أو أنه مكسَّر محطَّم، أو مجموعة عيوب، أو كوم تراب، أو لا يصلح لشيء، أو لأجل الطرح.

 

فيقصد باشتراط البراءة إذن أن يشترط البائع على المشتري عدم ضمان العيب أو بعبارة أخرى الاتفاق على عدم ضمان العيوب الخفية. فلو قال البائع للمشتري بعتك هذه السلعة على أني بريء من كل عيب فيها ثم لما قبضها وجدها معيبة لا يكون له حق الرد ظاهراً كان العيب أو خفياً.

 

وقد تكون البراءة مقيدة بعيب أو عيوب معينة، وقد تكون مطلقة بحيث تشمل جميع ما يوجد في المبيع من عيوب، فإذا قيدت البراءة بما في المبيع من عيب موجود وقت العقد انصرفت إلى ما يشمله هذا القيد بصرف النظر عما إذا كانت براءة خاصة بعيب معين أو كانت عامة بحيث تشمل كل عيب موجود في المبيع وقت التعاقد.

 

ونحاول في هذا البحث أن نتكلم عن هذا الشرط بنوعيه، مستهلين ذلك ببيان معنى ضمان العيب ومشروعيته باعتبار أن اشتراط البراءة من العيب حكم من أحكامه، ثم نبين آراء الفقهاء في جواز اشتراط البراءة من العيب، وهل البراءة من العيوب تنصرف إلى الموجود منها حين العقد فقط أم تشملها وما يحدث قبل القبض، ثم نتحدث عن بعض التطبيقات المعاصرة لهذا البيع فنورد فتاوى عن الهيئات المالية التي أخذت بجواز اشتراط البراءة من العيب، وفي الأخير نتكلم عن عبارة مشهورة في كثير من المحلات التجارية الآن وعلاقتها بشرط البراءة ألا وهي البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل.

 

المطلب الأول: تعريف العيب ومشروعية الرد بالضمان.

الفرع الأول: تعريف العيب

في اللغة: هو الوصمة، وعاب لازم متعد وهو معيب ومعيوب ورجل عياب كثير العيب للناس. يقال: عاب المتاع يعيب عيباً؛ أي صار ذا عيب، وجمعه عيوب وأعياب وعيبه نسبة إلى العيب واستعمل العيب اسماً وجمع على عيوب والمعيوب ما كان العيب وضمانه(1). ويكفي القول بأن العيب هو النقيصة أو الوصمة أو ما يخلو عنه أصل الفطرة السليمة للشيء والعيب اليسير هو ما ينقص مقدار ما يدخل تحت تقويم المقومين والفاحش بخلافه وهو ما لا يدخل نقصانه تحت تقويم المقومين(2).

 

أما في الاصطلاح:
فقد عرفه ابن قدامة بأنّه: النقص الموجب لنقص المالية في عادات التجار؛ لأن المبيع إنما صار محلاً للعقد باعتبار صفة المالية، فما يوجب نقصاً فيها يكون عيباً، والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف أهل هذا الشأن(4).
وعرّف ابن رشد العيب الذي له تأثير في العقد بأنّه: ما نقص عن الخلقة الطبيعية أو عن الخلق الشرعي نقصاناً له تأثير في ثمن المبيع وذلك يختلف بحسب اختلاف الأزمان والعوائد والأشخاص(5).
وقال الدردير في الشرح الكبير: ورد – أي المبيع – لما العادة السلامة منه مما ينقص الثمن أو المبيع أو التصرف أو تخاف عاقبته(6).
وعرفه الغزالي بأنّه: كل وصف مذموم اقتضى العرف سلامة المبيع عنه غالباً.
وجاء في مغني المحتاج بأن العيب كل ما ينقص العين أو القيمة أو يفوت به غرض صحيح، إذا غلب في جنس المبيع عدمه(7).
وذهب الحنابلة إلى القول بأنّ حقيقة تتمثل في أنه هو الذي يترتب عليه نقصان عين المبيع حتى ولو لم تنقص به القيمة بل زادت أو نقصت قيمته في عرف التجار وإن لم تنقص عينه وقال في الترغيب وغيره: العيب نقيصة يقتضي العرف سلامة المبيع عنها غالباً(8).

 

هذا وقد عالج فقهاء الشريعة الإسلامية ضمان العيب الخفي تحت ما يسمى خيار العيب أو يقصد به حق المشتري في فسخ العقد وإمضائه إذا وجد في المبيع عيباً قديماً.
وكل من تعرض من الفقهاء لخيار العيب قال إن إطلاق العقد يقتضي سلامة المبيع من كل ما يؤدي إلى نقص في قيمته أو في منفعته. ما من عاقل يقدم على بذل ماله في مقام التعاقد المجرد عن القيد إلا بهذا القصد.

 

فاقتضاء السلامة في المبيع ضابط كلي يصح الاعتماد عليه لإثبات أن الاتفاق الذي تم بين المتعاقدين وقع على المبيع السليم لأن الأصل في المبيع السلامة وما يتعرض له من العيوب ما هو إلا استثناء من هذا الأصل(9).
وخيار العيب هو من قبيل إضافة الشيء إلى سببه ولقد عرف بتعريفات متعددة تصب جميعها في معنى واحد، وهو فوات مصلحة مقصودة على المشتري فيمكنه بذلك الرجوع على البائع إما للإمضاء أو الإلغاء.
وهذا الحق – الرجوع على البائع – يثبت بإيجاب الشرع لمصلة أحد العاقدين صيانة لحقوقه فيكون نتيجة لبعض عيوب الرضا من خلابة أو تدليس أو عيب أو تجزئة صفقة أو غيرها.

 

والأحناف يردون خيار العيب إلى قصد المتعاقدين الضمني ويعتبرونه ثابتاً بالشرع؛ لأن العيب هو نقص خلا عنه أصل الفطرة السليمة لأن مطلق العقد يقتضي وصف السلامة من العيوب فهو الأصل وكل واحد من المتعاقدين يأبى أن يغبن، هذا هو الأصل فلذلك كان هذا الخيار(10).
وعرفه ابن نجيم بأنه: ما أوجب نقصان الثمن(11).
وعبر عنه الجرجاني بأنه: أن يختار المشتري رد المبيع إلى بائعه بالعيب(12).
وجاء في تعريفات الشافعية، وعبروا عنه بخيار النقيصة، وهو المعلق بفوات مقصود مظنون فنشأ فيه من قضاء عرفي أو التزام شرطي أو تغرير فعلي(13).
ويطلق على خيار العيب هذا في مذهب الإمام مالك: خيار النقيصة أو العهدة، حيث يرى الإمام مالك أن العيب إذا حدث عن المشتري في مدة معينة يكون ذلك دليلاً على وجوده في المبيع وقت أن كان في يد البائع، فيتحمل البائع عهدته ويكون مسؤولاً عنه؛ لأن ضمان المبيع يتعلق بالبائع في هذا الزمن.
هذا وقد انفرد الإمام مالك بالقول بالعهدة دون سائر الأمصار وسلفه في ذلك أهل المدينة والفقهاء السبعة وغيرهم(14).
والذي يلاحظ من هذه التعاريف أن الفقهاء ساروا على اتجاهين في تعريفهم للعيب، وذلك حسب المعيار الذي يعتمده الفقيه عند تعريفه للعيب، حيث إن بعض الفقهاء يعتمد معياراً مادياً يعرف العيب من خلاله بأنه: ما يوجب نقصاً في القيمة في عرف التجار.
والبعض الآخر يعتمد معياراً شخصياً يعرف العيب من خلاله بفوات جزء من المنفعة أو الغرض الذي يبتغي المشتري تحقيقه من المبيع، فكل ما أخل بهذا الغرض أن منع تحقيقه فهو عيب.
وجاء التعريف السابق للإمام النووي شاملاً لكلا المعيارين، فلم يقتصر على المعيار المادي الذي هو ما كان يوجب نقصاً في القيمة في عرف التجار فقط بل يسانده أيضاً المعيار الشخصي الذي يهتم بالغرض الذي من أجله أقدم المشتري على الشراء والفائدة التي يرجوها من المبيع، فكل ما أوجب نقصاً في القيمة أو العين أو أخل بالغرض المقصود اعتبر عيباًن ولهذا يترجح هذا التعريف على غيره لكونه جاء جامعاً للمعيارين.

 

خيار العيب عند الفقهاء المعاصرين:

لم يختلف الفقهاء المعاصرون في تعريفهم لخيار العيب كما ذكره الفقهاء المتقدمون رحمهم الله، فجاءت عباراتهم متفقة المعنى وإن اختلفت في المبنى، غير أن المعاصرين جنحوا لبيان خيار العيب باعتباره حقاً، فذكر الشيخ علي الحفيف في بيان مفهوم خيار العيب ما نصه: هو ما يكون للممتلك من حق في فسخ العقد أو إمضائه بسبب عيب يجده فيما تملك(15).

 

وسبب ثبوت ذلك الحق هو أن السلامة من العيوب من مقتضيات العقد لتوقف الانتفاع الكامل عليها، وهو مقصود العاقدين من العقد، فإذا فاقت لوجود عيب انعدم الرضا بالمحل فوجب أن يرجع إلى رضا العاقد به بعد ظهور العيب حتى إذا رضي أمضى العقد، وإذا أبى أبطله، ولذلك شرع، فسببه ظهور عيب بالمحل(16).

 

والذي يلحظ من خلال ما ذكره الشيخ على الخفيف أنه عرّف خيار العيب باعتباره حقاً يثبت التخيير للمشتري بين الفسخ والإمضاء.
وقريب من هذا التعريف ما ذكره الشيخ عيسوي أحمد عيسوي بقوله: خيار العيب هو أن يكون للمتملك الحق في إمضاء العقد أو فسخه إذا وجد عيباً في محل العقد ولم يكن على علم به وقت العقد(17).

 

كما ذكر الشيخ مصطفى الزرقا في بيان تدليس العيب وهي الحالة التي يكون للبائع علم بالعيب وأخفاه عن المشتري فيقول: وفقهاء الإسلام مجمعون على أن تدليس العيب يوجب للمتعاقد المدلس عليه حقاً في إبطال العقد. سمي خيار العيب وليس معنى ذلك أن المشتري ومن في معناه لا يثبت له خيار العيب إذا لم يكن البائع عالماً بالعيب عند البيع، بل الخيار يثبت شرعاً للمشتري ولو لم يكن البائع عالماً به عند البيع(18).

 

وهو ما أشار إليه علي مرعي بقوله: والمتتبع لكلام الفقهاء في خيار العيب يمكنه أن يبين معنى هذا الخيار بأنه عبارة عن حق يثبت للعاقد بمقتضاه عند إطلاعه على عيب يجهله بالمعقود عليه ولاية فسخ العقد وإمضائه(19).

 

ونلحظ الرؤية التنظيرية التي سار عليها المعاصرون في بيان خيار العيب باعتباره حقاًن وليس بيان خيار العيب من حيث شروط الثبوت كنقص القيمة وغيرها(20).

 

الفرع الثاني: مشروعية الرد بضمان العيب

من أهم ما يستدل به على مشروعية وجوب الضمان على البائع وإباحة الرد بالعيب ما ورد من أدلة عامة توجب النصح وحسن المعاملة بين الناس ووجوب التحلي بالصفات والأخلاق الفاضلة التي يجب أن يتخلق بها المؤمن من الصدق، والأمانة، والنصح، وكلها تتطلب الصراحة وعدم الغش في التعامل، وتفرض على من يبيع سلعة معينة أن يظهر حقيقتها للمشتري، وألا يخفي شيئاً على من يتعامل معه.

 

وليس الأمر مقصوراً على تلك الأدلة فحسب، وإنما توجد أدلة أخرى تؤكد مشروعية هذا الضمان، نورد بعضاً منها فيما يلي:

أولاً من الكتاب: دلت عليه آيات كثيرة، منها:
1 – قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29].
وجه الاستدلال بالآية: أنه إذا وجد في المبيع عيب يمنع المشتري من الاستفادة من المبيع، فكأن المشتري قد دفع ثمناً دون مقابل للبائع الذي أخذ الثمن، وكان يفترض فيه أن يسلم المشتري مبيعاً كاملاً سليماً غير معيب؛ فكأنه أكل مال المشتري دون وجه حق (دون مقابل) وهذا يعد من باب أكل مال الغير بالباطل المنهي عنه شرعاً، لا فرق في ذلك من أن يكون البائع عالماً بالعيب فيدلسه ويكتمه عن المشتري، وهذه حيلة تدخل في عموم الأخذ بالباطل المنهي عنه.
أو لا يكون عالماً بوجود العيب، وهنا تختل المعاوضة التي هي أساس التراضي في عقود المعاوضات؛ لأن التراضي وقع على بيع شيء سليم، وعليه فإن رد البائع للمشتري ما يقابل العيب من شأنه أن يعيد التوازن لهذه المعاوضة، وعدم رده شيئاً للمشتري يعد من قبيل أخذ أموال الناس بالباطل.

 

2 – قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1].
وجه الاستدلال بالآية: أن الوفاء بالعقد يعني الإتيان به وافياً لا نقص فيه، وذلك بتنفيذه تنفيذاً سليماً بحسب ما اتفق عليه، وتسليم المعقود عليه للمتعاقد الآخر وافياً غير منقوص وخالياً من العيوب، فهذا إلزام من الشرع على البائع أن يسلم المبيع للمشتري خالياً من العيوب؛ لأن تسليمه له معيباً يؤكد أن البائع لم يقم بالوفاء بعقده الذي أبرمه مع المشتري. والذي التزم بموجبه أن يكون المبيع خالياً من العيوب؛ فإن لم ينفذ هذا الالتزام كان مخلاً بالعقد ومقصراً في الوفاء بعقده، وهذا مخالف لصريح أمره تعالى بالوفاء بالعقود(21).

 

ثانياً من السنة النبوية:
ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من اشترى شاة محفلة فوجدها مصراة فهو بخير النظرين ثلاثة أيام(22).
وجه الاستدلال: أن النظرين المذكورين هما نظر الإمساك والرد، وذكر الثلاثة في الحديث ليس للتوقيت؛ لأن هذا النوع من الخيار ليس بمؤقت بل هو بناء الأمر على الغالب المعتاد؛ لأن المبيع إن كان به عيب يقف عليه المشتري في هذه المدة عادة فيرضى به فيمسكه أو لا يرضى به فيرده.
والسلامة من مقتضيات العقد لأنه عقد معاوضة، والمعاوضات مبناها على المساواة عادة وحقيقة، وتحقيق المساواة في مقابلة البدل بالمبدل والسلامة بالسلامة فكان إطلاق العقد مقتضياً للسلامة، فإذا لم يسلم المبيع للمشتري يثبت له الخيار؛ لأن المشتري يطالبه بتسليم قدر الفائت بالعيب بحكم العقد وهو عاجز عن تسليمه فيثبت الخيار(23).
وإثبات النبي صلى الله عليه وسلم الخيار بالتصرية تنبيه على ثبوته بالعيب ولأن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب(24).

 

ثالثاً: من المعقول:

بالإضافة إلى الأدلة السابقة، فإن العقل يقضي بضمان البائع للعيب الخفي الذي يجده المشتري، كما يقضي كذلك بإعطاء الحق للمشتري في أن يختار بين إمساك المبيع وبين رده بالعيب حيث يأبى العقل إلزام المشتري بالمبيع الذي وجد به عيباً لما في ذلك من إلحاق الضرر به.
كما أن عقد البيع من عقود المعاوضة التي تبنى على المساواة بين العوضين والعقد يقتضي سلامة هذا وذاك. فإذا سلم المشتري الثمن كاملاً وجب أن يسلمه البائع عوضاً (بدلاً) كاملاً. بمعنى أن يسلمه مبيعاً كاملاً سليماً غير معيب.
والسلامة شرط ضمني في العقد يجب الوفاء به كما يجب الوفاء بالشرط الصريح، كما أن اشتراط السلامة إنما هو تأكيد لمقتضى العقد(25).

 

المطلب الثاني: موقف الفقه الإسلامي من اشتراط البراءة من العيب وبعض الأحكام المتعلقة به

الفرع الأول: آراء الفقهاء في جواز اشتراط البراءة من العيب

ذهب الحنفية إلى أن البيع بشرط البراءة من العيوب جائز مطلقاً سواء علمه البائع أم لم يعلمه وسواء سمَّى العيوب أم لم يسمها إلا عيب الاستحقاق (أي لو ظهر غير حلال أي مسروقاً أو مغصوباً يرجع عليه المشتري)(26).
وهذا ما نصت عليه المادة (342) من مجلة الأحكام العدلية: إذا باع مالاً على أنه بريء من كل عيب ظهر فيه لا يبقى للمشتري خيار العيب. وهو رأي أبي ثور، وروي ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر.

 

واستدلوا على ذلك:
بما روته أم سلمة رضي الله عنها، قالت: أتى (رجلان يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بينة إلا دعواهما فقال) إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما حقي لك فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إذ فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحالا(27).
ويقول الكاساني بعد ذكر هذا الحديث: وعلى هذا إجماع المسلمين من استحلال معاملاتهم في آخر أعمارهم في سائر الأعصار من غير إنكار(28).
كما استدلوا بأن البيع بهذا الشرط إبراء والإبراء إسقاط لا تمليك، والإسقاط لا تفضي الجهالة فيه إلى المنازعة، وبما أن المشتري قبل هذا البيع بكل عيب يظهر به فلا خيار له بالرد(29).

 

أما المالكية: فذكروا رأيين:
الأول: أن البائع في غير الرقيق لا تنفعه البراءة مطلقاً. أما في الرقيق فيبرأ البائع عن كل عيب لا يعلم به وطالت إقامته عنده (قدروها بستة أشهر) بحيث يغلب على الظن أنه لو كان به عيب لظهر له. وشرط البراءة باطل والعقد صحيح، هذا ما رجحه الدسوقي في حاشيته(30).

 

الثاني: أن البائع يبرأ من كل عيب لا يعلمه. وهذا هو الراجح في مذهب الإمام مالك(31).
وحجتهم في ذلك: قصة عبد الله بن عمر مع زيد بن ثابت، فقد روى الإمام مالك في الموطأ: أن عبد الله بن عمر باع غلاماً له بثمانمائة درهم وباعه بالبراءة. فقال الذي ابتاعه – وهو زيد بن ثابت – لعبد الله بن عمر: بالغلام داء لم تسَمِّه لي، فاختصما إلى عثمان بن عفان فقال الرجل: باعني عبداً وبه داء لم يسمه، وقال عبد الله: بعته بالبراءة.
فقضى عثمان بن عفان على عبد الله بن عمر أن يحلف له لقد باعه العبد وما به داء يعلمه فأبى عبد الله أن يحلف وارتجع العبد فصح عنده فباعه عبد الله بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم(32)، ووجه الاستدلال بهذا الأثر: أنهم اتفقوا على جواز البيع بشرط البراءة من العيب؛ لأن عثمان لم يحكم بفساد الشرط عند رفع النزاع إليه، ولكنه أراد التثبت من عدم علم عبد الله بن عمر بالعيب قبل التعاقد فدل ذلك على أن البائع إذا اشترط البراءة ولم يعلم بالعيب صح الشرط وبرئ، وإن علم فكتمه لم يصح الشرط ولم يبرأ(33).

 

وفي الموطأ للإمام مالك؛ قال مالك: ومن باع عبداً أو وليدة من أهل الميراث أو غيرهم بالبراءة، فقد برئ البائع من العهدة كلها من كل عيب، ولا عهدة عليه إلا أن يكون علم عيباً فكتمه، فإن كان علم عيباً فكتمه لم تنفعه البراءة، وكان ذلك البيع مردوداً(34).

 

وذهب الشافعية: في الأظهر أن البائع يبرأ من كل عيب باطن في الحيوان لا يعلمه دون ما يعلمه. ولا يبرأ عن عيب بغير الحيوان، كالثياب والعقار مطلقاً، ولا عن عيب ظاهر بالحيوان علمه أم لا، ولا عن عيب باطن بالحيوان علمه والمراد بالباطن ما لم يطلع عليه غالباً(35).
احتج الشافعية لمذهبهم بأن قبول المشتري البيع على هذا الشرط إبراء للبائع من ضمان العيوب التي قد توجد في المبيع، وهو عنده، وهذه العيوب مجهولة للمشتري؛ لأن الفرض أنه غير عالم بها والإبراء من المجهول لا يصح شرعاً لأن الإبراء تمليك، وتمليك المجهول لا يصح باتفاق. وخرج عن هذا الأصل صورة واحدة وهي ما إذا كان العيب خفياً بحيوان، ولم يعلم به البائع للدليل السابق في قصة عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت التي رواها الإمام مالك في الموطأ؛ إذ دل قضاء سيدنا عثمان على صحة البراءة من العيب في بيع العبد، إذا لم يعلم بعيبه البائع، وقيس بالعبد سائر الحيوانات(36).
يقول الإمام الشافعي مبيناً الفرق بين الحيوان وغيره: ولأن الحيوان يفارق ما سواه؛ لأنه يتغذى بالصحة والسقم، وتحول طباعه، وقلما يبرأ من عيب يظهر أو يخفى، فدعت الحاجة إلى التبري من العيب الباطن فيه؛ لأنه لا سبيل إلى معرفته وتوقيف المشتري عليه(37).

 

وعند الحنابلة ثلاثة أقوال(38):
الأول: البيع بشرط البراءة من العيب جائز مطلقاً كالحنفية. مستدلين بحديث أم سلمة السابق ووجه استدلالهم منه: أن البراءة من العيوب المجهولة جائزة؛ ولأنه إسقاط حق لا تسليم فيه، فصح من المجهول، كالعتاق والطلاق، ولا فرق بين الحيوان وغيره، فما ثبت في أحدهما ثبت في الآخر، وقول ابن عثمان قد خالفه ابن عمر، وقول الصحابي المخالف لا يبقى حجة(39).
الثاني: لا يبرأ البائع من العيوب إلا أن يعلم بها المشتري؛ لأن العيب لا يثبت مع الجهل.
الثالث: يبرأ البائع من كل عيب لا يعلمه، بدليل القصة السابقة بين عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم(40).
واختار ابن قدامة وغيره أن من باع حيواناً أو غيره بالبراءة من كل عيب أو من عيب موجود، لم يبرأ من الضمان، وسواء علم به البائع أو لم يعلم(41).
واتفق جمهور الفقهاء غير الحنفية أن عقد البيع مع شرط البراءة من العيوب صحيح والشرط باطل، ولا يمنع الرد بوجود هذا الشرط؛ لأن ابن عمر في الأثر السابق باع بشرط البراءة فأجمعوا على صحته ولم ينكره مُنكِر(42).

 

الترجيح:

بعد التأمل في آراء الفقهاء في بيان حكم البيع بشرط البراءة من العيوب، والأدلة التي استند إليها كل فريق فيما ذهب إليه، فإن الرأي الأولى بالأخذ هو الرأي القائل بجواز البيع بشرط البراءة من العيوب، إذا كان البائع لا يعلم بالعيب، فإن كان عالماً به وكتمه فإنه لا يبرأ، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: موافقة هذا الرأي لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً)(43). وشرط البراءة من العيب إذا كان البائع لا يعلم بالعيب، فإنه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً فيصح.

 

ثانياً: أن الفقهاء أوجبوا على البائع أن يبين العيب مهما كان نوعه إذا كان يعلمه، وهذا مقتضى الأخوة الإسلامية ومقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(44)، مستدلين على قولهم هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً وفيه عيب إلا بينه له)(45)، فلا يبرأ من العيب إذا كان يعلمه، وإن كان لا يعلم به فإنه يبرأ.

 

ثالثاً: موافقته لقضاء عثمان بن عفان (بين عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، حيث إن ابن عمر) قد اشترط البراءة عند بيعه، فامتنع ابن عمر، فحكم عليه عثمان بالرد، فدل ذلك على أن البائع إذا اشترط البراءة ولم يعلم بالعيب صح الشرط وبرئ، وإن علم فكتمه لم يصح الشرط ولم يبرأ.

 

الفرع الثاني: بعض الأحكام المتعلقة باشتراط البراءة من العيوب

المسألة الأولى: هل البراءة من العيوب تنصرف إلى الموجود منها حين العقد فقط أم تشملها وما يحدث قبل القبض؟
في هذه المسألة رأيان للفقهاء:
الأول: للشافعية ومحمد بن الحسن: أنه لا يدخل في البراءة إلا العيب الموجود وقت العقد وفرعوا على ذلك أن للمشتري الحق في أن يرد البيع بعيب حدث قبل القبض وبعد العقد؛ لأن المتبادر من شرط البراءة هو انصرافه إلى الموجود حين الشرط فقط، فيقتصر عليه ويبقى ما عداه على الأصل(46).

 

الثاني: للحنفية وأبي يوسف: أنه يدخل في البراءة العيب الموجود وقت العقد، والحادث قبل القبض، وفرعوا على ذلك أنه ليس للمشتري الحق في أن يرد بعيب حدث قبل القبض؛ لأن الغرض من شرط البراءة هو إلزام البيع بإسقاط حق المشتري في وصف السلامة، وهو يتناول الموجود حين العقد والحادث قبل القبض(47).

 

المسألة الثانية: شرط البراءة الخاص
وصورته أن يشترط البائع على المشتري براءته من معين ويسميه له، أو من عيوب محددة بالذات، فالأمر لا يخلو إما أن يكون قيد البراءة بعيب قائم حالة العقد. فهذا لا يتناول العيب الحادث بعد البيع وقبل القبض بلا خلاف؛ لأن اللفظ المقيد بوصف لا يتناول غير الموصوف، وإما أن يكون أطلق هذه البراءة إطلاقاً، فيدخل فيه العيب القائم والحادث عند أبي يوسف، وعند أحمد لا يدخل فيه الحادث، وله أن يرده، وإن كان قد أضاف البراءة إلى عيب يحدث في المستقبل بأن قال: على أني بريء من عيب يحدث بعد البيع فالبيع بهذا الشرط فاسد(48).

 

وتصح البراءة عند الأحناف سواء شرط براءة نفسه؛ أي شرط كونه غير مسؤول عن العيوب التي تظهر في المبيع كأن يقول: بعتك هذه الدار على أني بريء من كل عيب، أو على أنها كوم تراب، أو بعتك هذه الدابة على أنها محطمة أو مكسرة.
أو شرط براءة المبيع كأن يقول بعتك هذا الحيوان على أنه بريء من كل داء.

 

وعند الحنابلة: إذا اشترى سلعة وشرط على المشتري أن يبرأ من عيب معين بها، كأن قال له: بعتك هذه الدابة على أنني بريء من جموحها، أو بعتك هذه الناقة على أنني بريء من عصيانها، فإن الشرط فاسد وللمشتري ردها بذلك العيب، وإذا سمى البائع العيب، ووافق المشتري عليه وأبرأه منه، فليس للمشتري رده بعد ذلك لأنه قد علم العيب ورضي به(49).

 

أما المالكية: لا يعتدون بالشرط إذا لم يبين البائع للمشتري العيب على وجه الخصوص وبصورة نافية للجهالة(50). هذا ويحرم على البائع أن يكتم عيباً يعلمه بالمبيع للحديث السابق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً وفيه عيب إلا بينه له).
وشرط البراءة الخاص ما هو إلا صورة من صور تخفيف أحكام الضمان سواء تعلق الأمر بتخفيف أسباب الضمان أو مدى التعويض.

 

المطلب الثالث: التطبيقات المعاصرة للبيع بشرط البراءة من العيوب

الفرع الأول: الهيئات المالية التي أخذت بجواز اشتراط البراءة من العيب

ذهبت كثير من الهيئات المالية إلى الأخذ بجواز اشتراط البائع وقت البيع.
فجاء في نص فتوى الهيئة الشرعية في مصرف قطر الإسلامي(51):
تعلمون فضيلتكم أن بيوع المرابحة تتضمن أن يكفل المصرف البائع السلعة من العيوب الخفية، وعلى هذا فقد درج المصرف على التعامل بالسلع الجديدة تقليلاً لمخاطر العيوب الناشئة عن كون البضاعة قديمة ومستعملة، حيث تنقص المصرف المهارات الفنية الكافية للكشف على كافة أنواع السلع والآلات والاطمئنان لسلامتها، كما لا نطمئن إلى كون السعر المطلوب يمثل القيمة الفعلية للبضاعة، وقد تقدم إلينا أحد عملائنا الجيدين يطلب منا القيام بشراء سيارات مستعملة وبيعها له مرابحة على أن يعفينا من مسؤولية العيوب الخفية. فهل تصح عملية المرابحة والحالة هذه؛ أي حالة تنازل المشتري عن حقه برد البضاعة بالعيب الخفي؟

 

الجواب: بخصوص سؤالكم عن بيع السيارات لأحد العملاء بشرط عدم مسؤولية البائع وهو المصرف عن العيوب الخفية، أفيدكم بأن هذه المسألة يقال لها عند الفقهاء (مسألة البيع بشرط البراءة من العيوب). وهذه اختلف فيها الفقهاء على أربعة أقوال:
-    الأول: وهو مذهب الشافعي في القول الراجح عنده ورواية أحمد أن الشرط والعقد صحيحان، وأنه لا يبرأ إلا من العيوب التي كان لا يعلم بها، فإذا علم البائع بالعيب فيجب أن يبينه للمشتري؛ فإن لم يبينه كان هذا من قبيل التدليس، فللبائع في هذه الحالة الخيار في الرد بالعيب، واتفق الإمام مالك مع هذا الرأي، ولكن في الرقيق خاصة.
-    الثاني: وهو مذهب الحنفية والشافعي في قول وأحمد في رواية أن الشرطة والعقد صحيحان، وأن البائع يبرأ من كل عيب قائم وقت العقد، سواء كان يعلم به البائع أو لا.
-    الثالث: وهو قول مالك فيما عدا الرقيق، والشافعي في قول، وأحمد في رواية أن العقد صحيح والشرط باطل.
-    الرابع: وهو قول الظاهرية والشافعي في قول وأحمد في رواية أن العقد فاسد.

 

وخلاصة نص الفتوى أن هناك أربعة أقوال في المسألة، والراجح هو القول الأول بأن العقد صحيح والشرط صحيح، وأن البائع يبرأ من كل عيب قائم في وقت العقد لم يعلمه. أما إذا علمه وأخفاه فللمشتري الرد بالعيب، وذلك لما روي أن عبد الله بن عمر (باع زيد بن ثابت) عبداً بشرط البراءة من العيوب بثمانمائة درهم فأصاب به زيد عيباً فأراد رده على ابن عمر فلم يقبله فترافعا إلى عثمان، فقال عثمان لابن عمر: تحلف أنك لا تعلم بهذا العيب؟ فقال: لا. فرده عليه فباعه ابن عمر بألف درهم.

 

وبناء على ذلك فإن للمصرف في هذه الحالة أن يشترط لنفسه البراءة وخصوصاً وهو لا يعلمها والمشتري يعلم المبيع أكثر منه، إذ هو الذي طلب من المصرف شراء السيارات له، وهو ما أشارت إليه الفتوى رقم 1076.
وأجازت الهيئة المذكورة سابقاً أيضاً أن يوقع العميل إقراراً يخلي بمقتضاه مسؤولية المصرف من العيب الخفي، فجاء في نص الفتوى(52).
نرجو بيان الوجه الشرعي في العملية التالية: استورد المصرف كمية من البضاعة بموجب مرابحة مع أحد العملاء، وعند وصول البضاعة إلى مرفأ الدوحة أرسلنا أحد الموظفين بمرافقة الواعد بالشراء لمعاينة البضاعة وتسليمها له، ولكن العميل رفض فتح الحاويات والصناديق؛ لأنه يريد الاحتفاظ بها في الصناديق حتى يأتي وقت حاجته لها، بالإضافة إلى أنه يوجد مكان لوضع البضاعة عند فتح الصناديق، وحيث إن مثل هذا التصرف من قبل المشتري يترك المصرف تحت طائلة المسؤولية إلى وقت لا نعلمه وقد يطول كثيراً، فهل يجوز لنا أن نقبل إقراراً يوقعه العميل للمصرف يخلي بموجبه المصرف من مسؤولية العيب الخفي، علماً بأن المصرف على استعداد لأن يكون مسؤولاً عن العيب الخفي لو تم معاينة البضاعة عند استلام وتسلم الصناديق؟

 

الجواب: العيب الخفي ربما لا يظهر إلا بعد فترة قد تمتد قليلاً، وقد يلحق البضاعة ما يُعد عيباً بسبب التخزين، لذا يجب تسليم البضاعة وتخلى مسؤولية المصرف من العيب الخفي، ويتفق على تحديد مدة بعدها تخلى مسؤولية المصرف من أي عيب قد يظهر، وقد اتفق لأن تكون هذه المدة خلال (3) أيام من تسلم البضاعة، وهو أيضاً ما أخذت به هيئة الفتوى للبنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار(53).
كما أخذ بيت التمويل الكويتي بمذهب الحنفية في جواز البراءة من العيوب مطلقاً وأجازوا ذلك، سواء أشاهد المشتري البضاعة أم كانت موصوفة وصفاً يزيل الجهالة المؤدية للنزاع، في الفتوى رقم (61).

 

وفي الفتوى رقم (66) أيضاً ورد السؤال التالي:
السؤال: هل يجوز أن يشتري بضائع موجودة مثلاً على باخرة بالبحر مع شهادة من الناقل، وهل يجوز بيعها وهي في نفس الحالة باعتبار الناقل هو الوكيل، ثم بعد أن بعت البضاعة هل يشتري العميل البضائع كما هي مثل ما اشتريتها أم أكون أنا المسؤول.
خصوصاً إذا قبِل شراءها بالبحر كما هي بسعر محدد ويكون السعر أعلى من ذلك إذا أراد شراءها بالمخازن حيث يراها وذلك لأخذه المخاطر، أي أنا أشتري البضاعة على الباخرة دون فحص بعشرة دنانير أو أخذها بعد الفحص بأحد عشر ديناراً فما الحكم؟ وهل يجوز لي أن أبيعها إلى شخص آخر؟

 

الجواب: هذه المعاملة جائزة لأن فيها إبراء من كل مشتر لبائعه عن العيوب. واشتراط القبض قبل البيع فيه خلاف للإمام مالك إلا في المطعومات والأخذ بمذهب مالك فيه تيسير على الناس، ولا سيما في البضائع ذات الحجم الكبير التي يتعسر قبضها ثم نقلها مرة بعد أخرى إلى المشترين الجدد، مع أن النادر تعرضها للمخاطر.
لكن لا بد من سبق الملك وتحديد مراحل انتقاله للفصل بين ضمان البائع وضمان المشتري. على أن الأفضل للخروج مع الخلاف عدم الإقدام على بيع البضاعة قبل قبض المالك الأول سواء أكانت من المطعومات أم من غيرها – وهذا رأي جمهور الفقهاء – علما بأن قبض الوكيل بمثابة قبض الأصيل.

 

وفي سؤال لمجموعة دلة البركة على شرط عدم التحمل في وثائق التأمين الإسلامية وهو السؤال رقم (118) كان الجواب في الفتوى رقم (4) وهو:
الجواب: (شرط عدم التحمل) في وثائق التأمين الإسلامية جائز شرعاً، ومع ذلك ترى اللجنة بالنسبة للأضرار الكبيرة المتجاوزة للحد الأدنى المتفق عليه أنه يحسن شمول التعويض لها كاملة دون أن يطرح منه ذلك الحد الأدنى، ولا ينبغي لشركات التأمين الإسلامية أن تستثني في هذه الحال جزءاً من الأضرار، بل تتجنب ذلك بقدر الإمكان وفي هذا الاجتناب ترغيب في التعامل معها وإظهار للفرق بينها وبين غيرها في التعامل على أساس العدل والإنصاف. وهذا أيضاً وفقاً لمذهب الحنفية.

 

الفرع الثاني: عبارة البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل

تميل بعض المؤسسات والمحلات التجارية إلى كتابة عبارة البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل على هامش الفاتورة التي يسلم أصلها للمشتري، أو كملصقة على الحائط خاصة في المواد الكهربائية، فهل هذه العبارة تأخذ حكم شرط البراءة من العيب فيجري فيها الخلاف السابق أم لا؟
عند التأمل في هذه العبارة يتضح أنها تقطع على المشتري حق الرد والاستبدال، أو الفسخ واسترداد الثمن الذي دفع، ولكن ليس فيها ما يفيد بعدم استحقاقه لأرش النقص الحاصل بسبب العيب، ولكون هذه العبارة يراد بها قطع حق المشتري في الاستبدال أو الفسخ واسترداد الثمن عند القائلين بعدم صحة شرط البراءة وعدم اعتباره، وذلك حق من حقوق المشتري أثبته له الشارع بموجب خيار العيب(54).

 

وقد أجمع أهل العلم على أن من اشترى سلعة ووجد بها عيباً كان عند البائع لم يعلم به المشتري كان له الرد(55)، حيث يقول ابن قدامة: أنه متى علم بالمبيع عيباً لم يكن عالماً به فله الخيار بين الإمساك والفسخ، وسواء كان البائع علم البيع وكتمه، أو لم يعلم، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافاً(56).

 

وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية عن ذلك فأجابت بقولها: إن بيع السلعة بشرط ألا ترد ولا تستبدل لا يجوز لأنه شرط غير صحيح، لما فيه من الضرر والتعمية، ولأن مقصود البائع بهذا الشرط إلزام المشتري بالبضاعة ولو كانت معيبة، واشتراطه هذا لا يبرئه من العيوب الموجودة في السلعة؛ لأنها إذا كانت معيبة فله استبدالها ببضاعة غير معيبة، أو أخذ المشتري أرش العيب، ولأن كامل الثمن مقابل السلعة الصحيحة وأخذ البائع مع وجود عيب أخذ بغير حق(57).

 

الخاتمة:

وبعد هذا العرض..
فلقد تناولت جانباً يتعلق بصورة البيع بشرط البراءة من العيب وتطبيقاته المعاصرة، وعالجته في مطالب ثلاثة، وتناولت مفردات لتوضيح مفهوم خيار العيب باعتبار أن هذه الصورة حكماً من أحكامه، ووقفت على اجتهاد الفقهاء في توضيح هذا المفهوم، حيث اتفقوا على معنى يبين حقيقته، عند التطبيق العملي له وحين فوات مصلحة مقصودة على المشتري، فيمكنه حينئذ الرجوع على البائع بالرد والفسخ، أو بالإمضاء والرضا مع الرجوع بأرش العيب؛ لأن هذا يعتبر كتمان للعيب الذي يخالف الفطرة السوية، إذ من فطرة الإنسان ألا يحب أن يجهل أو يجهل عليه، كما أن الإسلام يعده من الغش الذي ينتج منه أكل أموال الناس بالباطل، وهو حرام شرعاً، وقانوناً، وعرفاً وهذا ما رأيناه في مشروعية الرد بالعيب.

 

ثم خلصنا في المطلب الثاني أن شرط البراءة الخاص ما هو إلا صورة من صور تخفيف أحكام الضمان سواء تعلق الأمر بتخفيف أسباب الضمان أو مدى التعويض.
هذا التخفيف ذكره الفقهاء تحت اسم اشتراط البراءة من العيب، حيث توقفنا على اختلاف المذاهب في مدى جواز هذا الشرط، وقد رجحنا جواز هذا الشرط، إذا كان البائع لا يعلم بالعيب، والأسباب التي استندنا إليها في ترجيح هذا الرأي.
وعلى ضوء اشتراط البراءة في البيع تولدت وقائع صدرت لها فتاوى نشأت من التعامل مع المؤسسات المالية التي تتعامل مع الناس في إطار اشتراط الخلو من العيب.

 

_________________

(1)    القاموس المحيط للفيروزآبادي الشيرازي ج1/ص113، ط2، مطبعة الحلبي، مصر، 1952م.
(2)    لسان العرب لأبي الفضل جمال الدين بن منظور الأفريقي ج2/124، مادة عيب، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
(3)    المغني لموفق الدين ابن قدامة المقدسي ج2/230، تحقيق: د. عبد المحسن التركي، د. عبد الفتاح محمد حلو، ط1، هجر للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، 1408هـ.
(4)    شرح فتح القدير لابن الهمام ج6/327، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1424هـ.
(5)    بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد القرطبي، ج8/174، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
(6)    حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لمحمد بن عرفة الدسوقي، ج3/108، مطبعة الأزهر، مصر، 1230هـ.
(7)    مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لمحمد الشربيني، ج2/428، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
(8)    كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج3/215، مراجعة وتعليق: هلال المصيلحي، مكتبة النصر، الرياض.
(9)    حقيقة العيب الموجب للضمان وشروطه في عقد البيع، د. إبراهيم الصالحي، ط1، دار الطباعة المحمدية، مصر، 1988م.
(10)    تبيين الحقائق للزيلعي ج3/20، ط1، طبعة دار المعرفة، بيروت.
(11)    البحر الرائق شرح كنز الدقائق لأبي البركات عبد الله بن محمد والشرح لابن نجيم ج6/38، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1418هـ.
(12)    التعريفات للجرجاني ص 137.
(13)    مغني المحتاج للشربيني ج2/50.
(14)    بداية المجتهد لابن رشد ج2/144-146.
(15)    مختصر أحكام المعاملات الشرعية ص151، ط1، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1952م.
(16)    المرجع نفسه.
(17)    المدخل للفقه الإسلامي للشيخ عيسوي أحمد عيسوي، ص122، ط1، مطبعة دار التأليف، مصر.
(18)    المدخل الفقهي العام للشيخ مصطفى الزرقا ج1/466، ط1، دار القلم، دمشق، 1998م.
(19)    الخيارات في الفقه الإسلامي للدكتور علي مرعي ص85، ط1، مطبعة الإخوة الأشقاء، القاهرة، 1976م.
(20)    بحث بعنوان: خيار العيب وتطبيقاته المعاصرة للدكتور عبد العزيز خليفة الفصار ص 19، مجلة الحقوق، العدد 2، السنة الثانية، 28 يونيو 2004، مجلة عددية محكمة تنشرها الدراسات القانونية بجامعة الكويت.
(21)    ضمان عيوب المبيع في ضوء مقاصد الشريعة لسعد خليفة العبار ص472، ط1، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي، ليبيا، 1999م.
(22)    أخرجه أبو داود في سننه ج2/243.
(23)    بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الكساني ج5/274، ط2، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
(24)    المغني لابن قدامة ج6/225.
(25)    ضمان عيوب المبيع الخفية دراسة مقارنة بين القانون اللبناني والشريعة الإسلامية لأسعد دياب ص17، دار اقرأ، بيروت، لبنان.
(26)    رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) ج4/95، تحقيق: عبد المجيد طعمة الحلبي، ط1، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1420هـ، بدائع الصنائع للكاساني ج5/172.
(27)    أخرجه أبو داود في سننه ج3/301، وأخرجه أحمد في مسنده ج6/320، وأخرجه البخاري في صحيحه ج3/171.
(28)    بدائع الصنائع للكاساني ج5/173.
(29)    رد المحتار لابن عابدين ج4/95.
(30)    حاشية الدسوقي ج3/119.
(31)    القوانين الفقهية لابن جزي الغرناطي ص263، تحقيق: عبد الكريم الفضلي، المكتبة العصرية، صيدا، لبنان، 1423هـ.
(32)    أخرجه الإمام مالك في الموطأ ج2/613، وصححه البيهقي في سننه الكبرى ج5/328 وفي تعليق للفقهاء أن المشتري من ابن عمر هو زيد بن ثابت، وأنهما اللذان اختصما إلى عثمان، وقيل إن ذلك الداء زال عند عبد الله وصح منه العبد، وقال ابن عمر: تركت اليمين لله فعوضني الله، تكملة المجموع ج12/356 الشرح الكبير لابن قدامة ج11/256.
(33)    ضمان عيوب المبيع في ضوء مقاصد الشريعة لسعد خليفة العبار ص 704.
(34)    أوجز المسالك إلى موطأ مالك لمحمد زكريا الكاندهلوي ج12/344، ط1، دار القلم، دمشق، 1424هـ.
(35)    مغني المحتاج للشربيني 2/72-73.
(36)    التهذيب في فقه الإمام الشافعي للبغوي ج3/470-474، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997م، المذهب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي ج1/188، ط3، مطبعة الحلبي، مصر، 1396هـ.
(37)    المهذب للشيرازي ج1/188، مغني المحتاج للشربيني ج2/73.
(38)    المغني لابن قدامة ج4/129 الروض المربع لمنصور بن يونس البهوتي ص 278، مكتبة الرياض الحديثة، 1390هـ.
(39)    المغني لابن قدامة ج6/265.
(40)    الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 124، ط2، دار ابن الجوزي، 1416هـ، المغني لابن قدامة ج6/265.
(41)    المغني لابن قدامة ج4/129، المحرر في الفقه لعبد السلام بن تيمية الحراني ج1/326، ط2، مكتبة المعارف، الرياض، 1404هـ، الإنصاف للمرداوي ج4/129، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(42)    المغني لابن قدامة ج4/129.
(43)    أخرجه أبو داود في سننه ج3/304.
(44)    أخرجه البخاري ج1/14 رقم 13، وأخرجه مسلم ج1/67 رقم 45.
(45)    أخرجه ابن ماجه في سننه ج2/755 رقم 2246، والحاكم في المستدرك ج2/10 رقم 2152، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. تلخيص التحبير لابن حجر 3/22.
(46)    التهذيب للبغوي ج3/478.
(47)    رد المحتار لابن عابدين ج4/96.
(48)    بدائع الصنائع للكاساني ج5/276 لأن الإبراء لا يحتمل الإضافة؛ لأنه وإن كان إسقاطاً ففيه معنى التمليك، ولهذا لا يحتمل الارتداد بالرد، ولا يحتمل الإضافة إلى زمان في المستقبل نصاً، كما لا يحتمل التعليق بالشرط، فكان هذا بيعاً أدخل فيه شرطاً فاسداً، فيوجب فساد البيع، المرجع نفسه ص 277.
(49)    المغني لابن قدامة ج6/256.
(50)    أوج المسالك إلى موطأ مالك ج12/344 مواهب الجليل للحطاب ج6/406، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1416هـ.
(51)    فتوى رقم 1076.
(52)    فتوى رقم 1029.
(53)    فتوى رقم 959.
(54)    بحث بعنوان: البيع بشرط البراءة من العيب لعبد العزيز بن محمد العجيلان، بحث منشور بمجلة البحوث الإسلامية، العدد 52، 1418هـ، مجلة دورية تصدرها رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، الرياض.
(55)    الإقناع في الفقه الشافعي لابن المنذر، ج1/262.
(56)    المغني لابن قدامة ج6/225.
(57)    الفتوى رقم 17388، والتي نشرته صحيفة الرياض في عددها رقم 9821 الصادرة بتاريخ 16/12/1415هـ.