استراتيجية الثورة فى سوريا
2 رمضان 1433
طلعت رميح

تشهد الثورة السورية الاف الوقائع يوميا، من اعمال قصف وتدمير الى اعمال تظاهر وحراك ثورى الى شهداء بالعشرات الى بيانات وشرائط مصورة للجيش السورى الحر الى وقائع حياة اللاجئين السوريين، الى تصريحات وبيانات ولقاءات وقرارات عربية واقليمية ودولية من مجلس الامن، الى تصريحات وقرارات بشان تضييق الخناق الاقتصادى على نظام جن فصار يقود قواته المسلحه فى معارك ومجازر يقتل فيها ابناء شعبه يوميا.  واذ بدات ونمت وتواصلت واحتسبت الثورة وتطورت فى مواقعها وقوتها ومناطق اشتعالها وانجزت ما انجزت، ففى انتظار "النهايات" ممثلة فى معركة الحسم المنتظرة فى العاصمة دمشق، يبقى ضروريا مراقبة وفهم الرؤية الكلية لما يجرى.  ثمة ضرورة الان للتساؤل حول ملامح الخصوصية فى الثورة السورية، وما تختلف فيه عن ثورات الربيع العربى فى مصر وتونس وليبيا واليمن، لفهم ما يميزها على صعيد نظريتها وملامحها الخاصة. السؤال الجوهرى الذى تفرضه كثرة احتشاد الاحداث، هو ما الاستراتيجية الخطة والرؤية للثورة السورية. وبمعنى اخر كيف نرى هذا التطاول الزمنى فى الثورة، ولماذا لا يحدث فى سوريا ما حدث فى ليبيا او مصر او تونس او حتى اليمن والى متى تستمر الملامح التى نراها ونرصدها لتلك الثورة والى اين ؟. وكذا يبدو التساؤل ضرورى حول طبيعة تاثير الصراع الاستراتيجى الاقليمى والدولى على ثورة سوريا، اذ انتهى الزمن الذى تحسب فيه الامور من منظور التغيير الداخلى دون امساك بابعاد اقليمية ودولية.  نحن نسمع طوال الليل والنهار كيف ان روسيا والصين توقف الدور العسكرى الدولى عند حدود المتفرج وان ايران والحرس الثورى وميليشيات عراقية ولبنانية تلعب دورا مباشرا فى اعمال القمع الجارية ضد الشعب السورى فما تاثير ذلك على تلك الثورة. وبطريقة اخرى، ما هو التاثير الاقليمى والدولى لانتصار الثورة السورية.

 

ما المختلف عسكريا ؟
لا يعرف الشىء الا بضده كما الظلام والنور، ولا يعرف الشىء بدقه الا اذا ميز عن شبيهه مثل درجات الالوان.والثورة فى سوريا هى نقيض لحكم ديكتاتورى طائفى علمانى منغلق على نفسه، يسخر البلاد لتحقيق مصالح نخبة ضيقة، ولذلك تجرى وقائع الثورة لانهاء هذا الحكم واقامة حكم يمثل مصالح الشعب وهويته ويحقق له حريته فى التعبير عن تلك الهوية والمصالح.  لكن الوصول الى تلك الاهداف او تحقيق خطة الثورة هو فعل متعدد الملامح، ولا يجرى الا وفق ظروف خاصة بالبلد الذى تجرى فيه، ولذا اختلفت ملامح الثورة فى سوريا عن الثورات فى مصر وليبيا وتونس واليمن لاختلاف النظم ومكوناتها وطبيعة الجيش والدولة والفكر والرؤية التى تحكمها،  والعقيدة القتالية للجيش واجهزة القمع، ولاختلاف الظروف الاقليمية وطبيعة الدول المحيطة بها ولاختلاف الظروف الجغرافية للدول. .الخ.
لقد اختلفت الثورة السورية عن المصرية فى مسالة استخدام النظام للقوة العسكرية فى قمع الثورة، اذ لم يستخدم سلاح الجيش المصرى فى مواجهة المتظاهرين، ولذا لم يستخدم الثائرون السلاح فى مصر، وعلى العكس من ذلك كان استخدام النظام السورى لقوة الجيش هو ما دفع الثورة لاستخدام السلاح بالمقابل –اذ بقت المظاهرات تواجه القتل يوميا لستة اشهر دون امتشاق السلاح-وفى ذلك كان حاكما للتصرف الطبيعة المختلفة بين الجيشين المصرى والسورى على صعيد العقيدة القتالية لكل منهما، وهنا يبدو التساؤل المنطقى يدور حول استمرار قوة الجيش السورى على القتل بينما جيش القذافى لم يتحمل طويلا.

 

البعض ياخذ من ذلك ويقول ان النظام السورى مستقر اكثر. .وان الثورة لم تستطع هز قوة الجيش السورى كما جرى فى ليبيا. والحقيقة ان الامر ليس كذلك، فاذا كان معلوما دور التدخل العسكرى الخارجى فى كسر العمود الفقرى لجيش القذافى، فمن المعلوم ايضا، ان الجيش السورى هو من الاصل فى حالة عسكرية اقوى من جيش القذافى على صعيد التسليح، لنكون امام جيش اضعف تعرض لضربة قاضية (ليبيا) وجيش اقوى لم يواجه من جيش خارجى اقوى منه، بما زاد من استئساده على الشعب، غير ان هناك عاملان هما الاكثر اهمية فى تحليل ظروف الصراع العسكرى فى مواجهة الجيش النظامى السورى الموالى للاسد، اولها الطبيعة الجغرافية لسوريا، التى لا تحمل طابع الانفصال والتباعد بين المكونات السكانية (المدن والقرى) كما هو الحال فى ليبيا. الوضع الجغرافى فى ليبيا سمح بالاستيلاء على مناطق من قبل الثوار والاحتفاظ بها واقامة تحصينات قوية على اطرافها، دون قدرة من الجيش النظامى على الوصول اليها بسهوله، وقد جاء التدخل الخارجى للناتو عبر الطيران ليوقف تلك القدرة لجيش القذافى كليا، اذ كانت طائرات الناتو بالمرصاد للدبابات وطائرات الهليوكبتر والطائرات ثابتة الجناح لقوات القذافى فى كل تحركاتها. وذلك امر لا يتوفر للثورة السورية فى اى من المجالات. وثانيها طبيعة المكون الطائفى للجيش السورى ولاهم قطاعاته، بما يجعل قتال قياداته مرتبطا بتصور ان هزيمة الاسد تمثل نهاية وجودهم،  خاصة مع الضخ الطائفى الذى يتعرضون له من قبل قيادة النظام. هذا الحال لم يكن متوفرا فى ليبيا، واذ لم يخلو جيش القذافى من الحالة القبلية، الا ان البعد القبلى يظل اقل تاثيرا من تلك الحالة الطائفية فى التاثير على عقيدة وقيادة وقتال الجيش النظامى السورى، بل ان القبلية ذاتها قد توفر حالة عكسية للنظام وتثير التعدد والانقسام، وهو ما رايناه فى الحالة اليمنية التى انقسم فيها الجيش بين السلطة والثورة على اساس قبلى، بل كان الانقسام داخل قبيلة الاحمر التى ينتمى لها الرئيس نفسه.

 

تلك الطبيعه المختلفة لاوضاع الجيش السورى عن نظرائه فى تونس ومصر واليمن وليبيا، هى ما اطال المعركة، او هى ما جعلت الجيش الرسمى التابع للنظام محافظا على ولائه للنظام ومواليا للاسد لوقت اطول، كما لا يجب استبعاد تاثير وجود اعلى درجة من التجسس والتسلط داخل الجيش السورى، بما يطيل فترة التحول نحو الانضمام الى الجيش السورى الحر بحكم الاجراءات الامنية وبسبب التعرض الفورى للقتل فى حال اكتشاف اجهزة الامن محاولات اللحاق بالجيش الحر.

 

لكن من المهم الاشارة هنا والتشديد على ان مثل هذا الجيش، معرض اكثر من غيره الى حالات انهيار مفاجئة ويكون سقوطه اشبه بحالات تبخر المياه فى الهواء الطلق حين تنقطع صلته بالمركز او بحالة ومصدر القمع وحين يدب الياس فى صفوفه تنتقل العدوى بشكل يشبه الوباء. .الخ.
وعلى كل، فقد اثر هذا البعد على الثورة السورية، باتجاهين، اولهما الامساك بالسلاح، والثانى طول مدة العمل الثورى المسلح.

 

المختلف سياسيا
 تختلف الثورة فى سوريا سياسيا. .عن نظيراتها بالاجمال، مع ان كل تلك الثورات اشتعلت وصمدت تحت راية "الربيع العربى". فالثورة فى سوريا، تقاوم نظاما "جرى تجديده من الداخل للحفاظ عليه" ما بعد انتقال السلطة من الاسد الاب الى الابن. القصد هنا ان الثورة لم تنشب فى مواجهة نظام كان يعد لنقل السلطة من الشيخ الى الشاب، بما يحدث حالة اضطراب فى داخله ويعمق الرفض الشعبى له،  كما فى حالات مصر وليبيا واليمن، بل هى نشبت فى وجه نظام جرى تجديد صورته، بما جعل الثورة تحتاج الى "جهد ووقت" لانهاء خداع لعبة التغيير.النظام فى سوريا لم تتغير توجهاته الطائفية ولا السياسية ولا الاجتماعية – من الاب الى البن-وانما جرى تجديده من الداخل لتعزيز سطوته وسيطرته على الدولة والمجتمع، ولو كانت الثورة قد تفجرت فى مواجهة الاسد الاب فى ايامه الاخيره، لكانت عملية خلعه ايسر، كما هو حال الثورتين المصرية والليبية (واليمنية ايضا) اذ اشتعلتا خلال اهتزاز المرحلة الانتقالية من الاب الى الابن (جمال فى مصر وسيف فى ليبيا ).

 

وتختلف الثورة فى سوريا سياسيا عن ثورات الربيع العربى الاخرى، فى انها جرت فى دولة تغطى عسفها وظلمها وطائفيتها وديكتاتوريتها، بالحديث عن ممانعة ومقاومة عدو خارجى، هى فى حالة حرب معه بصورة نظرية. واذا كان الامر مجرد خطة دعائية ولعبة سياسية لتخويف الناس بالخارجى لتمكين الداخلى من البقاء –اذ ما علاقة الديكتاتورية والحكم الطائفى بالتصدى لعدو خارجى-فقد ترتب على ذلك تردد قطاعات من السكان وقت اطول عن اللحاق بالثورة، اذ بعض السكان احتاجوا الى صراع طويل ليكتشفوا خلاله زيف دعاوى النظام ومدى قمعه وديكتاتوريته.

 

وتختلف الثورة فى سوريا سياسيا عن نظيراتها، بانها تجرى فى بلد الحكم فيه مدرب على الاعيب وممارسات الحرب الاهلية وعلى العمل العسكرى الاستخبارى، وهو ما فرض معطيات سياسية على طبيعة المعركة التى احتاج فيها الثوار بمختلف انواع نشاطهم (حراك جماهيرى او عمل عسكرى) لوقت وتجربة وخبرات ميدانية لمواجهة تلك الخطط. كان ضروريا التحرك بخطى بطيئة وان بصمود بطولى وتضحيات نادرة، حتى لا تجهض الثورة مبكرا، وحتى لا تنجح خطة النظام فى استبدال الثورة بوتائر حرب طائفية هو الفائز فيها –اذا اندلعت لا قدر الله-لا شك فى ذلك.

 

خصائص الثورة
الاختلاف بين الثورة السورية وغيرها، فرض ملامح استراتيجية على تلك الثورة وحدد نمطا من جوانب نظريتها. فهى ثورة فرض عليها طول التضحية، بسبب طائفية الجيش الموالى للنظام ودرجة تسليحه واعداده، ولان النظام كان تجدد قبلها من الاب الى الابن، الخ، غير ان طبيعة الصراع الدولى والاقليمى على سوريا، واهمية هذا البلد وكونه خط التغيير قى الاقليم كله، هو ما جعل للثورة السورية نظريتها الخاصة ايضا.  الظروف الاقليمية والدولية هى الاخرى طبعت الثورة السورية بطابع طول مدة الثورة وشدة تضحياتها .

 

وفى وصف هذا التاثير نشدد على عدة نقاط :
1-    ثورة دون دعم خارجى عسكرى :احد اهم خصائص نظرية الثورة السورية انها ثورة تعتمد على الله ثم على نفسها وجهدها الداخلى الخاص تحت الحصار، دون تدخل خارجى عسكرى على غرار الحالة فى ليبيا. فمنذ بداية الثورة والمراقب الاستراتيجى المدقق يحذر من بذل جهد ضائع فى طلب التدخل الدولى، كما ان ما حقق التقدم للثورة فى الداخل هو هؤلاء الذين اعتمدوا على الله ثم على قدراتهم الذاتية دون انتظار لدور خارجى عسكرى. لم يكن من الصحيح بناء اية خطط للثورة على احتمالات التدخل الخارجى، لاسباب تتعلق بالظروف الدولية والاقليمية ولطبيعة الموقف الغربى من قوى الثورة فى سوريا، اذ تتخوف الدول الغربية من سيطرة نظام ثورى اسلامى على الحكم فى سوريا. هذا العامل مسئول عن كثرة وشدة التضحيات، اذ النظام يقتل بلا خشية من الملاحقة الدولية.

 

2-    وهى ثورة ضد دولة كبرى ودولة اقليمية لا الاسد فقط، فالثورة السورية لا تجرى ضد نظام الاسد فقط، بل هى تجرى ضد تحالف من نظام الاسد وايران وحزب الله وروسيا، اذ كل تلك القوى فى حالة تحالف ويعتبر اطاحة نظام الاسد بمثابة الضربة الاستراتيجية لها جميعا ولكل دولة على حده. ايران فى حالة تحالف مع نظام الاسد وحالة التحالف عميقة بسبب اعتبار سوريا بوابة التحالف مع حزب الله. وروسيا فى حالة تحالف مع نظام الاسد لاسباب عديدة،  بما يجعل تغيير النظام فى سوريا تغييرا لوضعية روسيا فى الاقليم واضرارا بمصالحها، ولذا تعيش الثورة السورية فى وضعية صراع مع نظام الاسد وايران وسوريا، او فى مواجهة اسناد ودعم ايرانى وروسى لنظام الاسد. هذا العامل يصعب طبيعة ظروف الثورة، ويظهر مدى بطولتها، وان ما حققته حتى الان، هو امر كبير وبطولى للغاية.

 

3-    وهى ثورة تفتح الطريق لتغيير استراتيجى اقليمى، فنجاح الثورة السورية ستكون له نتائج كبرى. فنجاح الثورة سيغير الوضع الاقليمى، اذ هى نقطة الوثوب والبداية الكبرى لكسر الهجوم الايرانى فى الاقليم. طرد النفوذ والدور الايرانى من سوريا يعنى خسارة كبرى لايران فى سوريا وهو يفتح الطريق لاعادة تشكيل توازنات جديدة فى كل من لبنان والعراق على حساب حلفاء ايران. انتصار الثورة السورية سيحدث تغييرا هائلا فى الاقليم.

 

4-    وهى ثورة تحدث تغييرا دوليا، اذ نجاح الثورة السورية وتحولها الى نمط يغير السياسات الداخلية والخارجية،  ياتى معه برياح تغيير للوجود العسكرى الروسى على الارض السورية ممثلا فى القاعدة العسكرية فى طرسوس. اذا انتهى وجود تلك القاعدة، فلا يبقى لروسيا اى وجود لاية قاعدة بحرية فى البحر المتوسط، وهذا امر مؤثر وخطير على الدور الروسى الدولى لا الاقليمى فى الشرق الاوسط، اذ لا مكان لاتصال روسيا بالمياه الدافئة الا عبر بوابة مرور البسفور والدرنيل التى تخرج منها السفن الروسية وتعود، ولا مكان لها فى البحر الابيض للتزود بالوقود او القيام باية اعمال اصلاح الا فى طرسوس. الضربة التى ستوجه لروسيا فى هذه الحالة لا تتعلق فقط بوجودها البحرى العسكرى فى البحر المتوسط، وانما بوضعها البحرى الدولى.

 

4 ثورات
تجرى فى سوريا اربعة ثورات فى ثورة واحدة. اولها الثورة ضد الديكتاتورية والظلم الاجتماعى. وثانيها ثورة ضد الحكم الطائفى البغيض. وثالثها ثورة الدور والنفوذ الايرانى فى سوريا والاقليم. ورابعها ثورة ضد الوجود الدور الروسى المتحالف مع الديكتاتورية والطافية الاسدية والايرانية.
هى اربع ثورات فى ثورة واحدة !