السودان: ربيع بنكهة التفكيك!
22 رمضان 1433
طلعت رميح

اندلعت المظاهرات فى السودان، فانطلقت التحليلات والتصريحات تتحدث عن بدء الربيع العربى فى السودان، او وصوله اخيرا الى الخرطوم. واذ تحركت الخرطوم الرسمية تتحدث عن "ظروف خاصة" لتلك المظاهرات وان البلاد فى مامن عن "موجة الثورات التى تجتاح الاقليم"، وعن دور مشبوه لعناصر وايادى اجنبية خلف ما يجرى، رد اخرون عليها بحشد كل مساوئ نظم الحكم فى العالم -وربما فى التاريخ ايضا -والصاقها بالحكم وثورة الانقاذ والحركة الاسلامية،  للتشديد على رسالة الربيع وضروراته ضد الحكم الراهن.هنا يبدوا الغائب فى الحوار والفهم حول ما يجرى –ربما بقصد-هو تلك الوضعية الخاصة للظرف السودانى الراهن، وكذا ان احتمالات تفجر نزاع سياسى فى السودان، لن تاتى فى الاغلب بربيع عربى سودانى النكهه،بل بفوضى وتقسيم للسودان، وفى ذلك يبدو الملاحظ ان الحكم والغلبة فى الشارع السودانى  واعية بهذا الحال او بتلك المخاطر، مدعوميين برؤية ان السودان يتعرض بالفعل الى ضغط وتامر من قبل الجنوب او من خلفه، حتى ان حكم الجنوب تحمل الا يحصل على عائد نفطه عبر الانابيب الممتدة فى الشمال، حتى يوجه ضربة اقتصادية للحكم فى الشمال، وهو ما تحقق بالفعل ونتج عنه رفع الاسعار، الذى كان الدافع الاساس لهذا التحرك والغضب الشعبى الجماهيرى.

 

افتقاد البديل
واقع الحال ان كل القوى السياسية الرئيسية التى تتصدر حركة المعارضة فى الاحداث الراهنة فى السودان، سبق ان وصلت الى الحكم، وسبق ان جربها اهل السودان ولم تقدم شيئا حقيقيا، بما يطفىء بريق قيادتها لفعل ثورى. حزب المؤتمر الشعبى بقيادة الدكتور حسن الترابى هو حزب تشكل نتيجة انقسام الحزب الحاكم بعد ثورة الانقاذ، واهل السودان تشربت عقولهم بفكرة ان الترابى كان هو الحاكم الفعلى للسودان لسنوات طوال خلال حكم الانقاذ.وحزب الامة بقيادة الصادق المهدى، هو نفسه الحزب الذى سبق ان حكم السودان او قاد وزارتها فى فترات عديدة اخرها الفترة ما بعد نجاح ثورة 84 وحتى ما قبل الانقاذ، ويذكر اهل السودان كيف انهارت البلاد خلال تلك الفترة حتى ان تمرد الجنوب بات يهدد الخرطوم ذاتها.وهكذا الحال بالنسبة لكل الاحزاب والجماعات الرئيسية الناشطة فى البلاد الان، اذ كلها تقريبا كانت احزاب حاكمة ولم تنجح فى تغيير اوضاع السودان لا على صعيد تحسين اوضاعه الاقتصادية ولا فيما يتعلق بحل مشكلة الجنوب.وهنا قد يجادل احد بحق ويقول، ان احد سمات الربيع الراهن فى العالم العربى هو ان الثورات لم يكن لها قيادة معروفة مسبقا ولا حتى لاحقا، ولم تطرح سوى شعارات عامة غير واضحة، غير ان السودان يعيش وضعا مختلفا تماما، ليس على صعيد اهمية وجود قيادة سياسية للتحرك الجماهيرى، ولكن على صعيد النتائج المترتبة على مثل تلك الحالة فى دولة تعيش تحت ضغط مجموعات تفكيكية مسلحه منتشرة فى كثير من ارجاء السودان، ولان السودان يعيش تحت ضغط مؤامرة حقيقية متواصلة الحلقات، كان فصل الجنوب بدايتها، كما ان هذا الجنوب له قوات ومجموعات تقاتل ضد الحكم والدولة السودانية على ارض الشمال حاليا.لقد انفصل الجنوب، نعم، وبانفصاله كان هناك من زين له عقله تصور ان الشمال سيعيش بعد هذا الانفصال حالة حقيقية من الاستقرار والتنمية، بحكم توقف الاستنزاف البشرى والاقتصادى لدولة الشمال، الذى جرى خلال تلك الحرب التى دارت رحاها فى الجنوب.كما تصور البعض، ان انفصال الجنوب سينهى دور الحركة الشعبية فى الضغط على الحكم فى الشمال، او ينهى دورها الضاغط دوما على كل كل الحكومات فى الشمال، بما كان يمثل عاملا حاسما فى كثير من التشقلبات التى جرت لكل الحكومات التى عرفها السودان منذ استقلاله، حتى يمكن القول بان ثمة حكمين فقط هما من صمدا لمدة اطول فى وجه معادلة ضغط الجنوب، اولهما حكم الرئيس الاسبق جعفر النميرى، الذى استقر حكمه بفعل توقيع وتنفيذ اتفاقية اديس ابابا مع المتمردين الجنوبين، وما ان جرى نقض هذا الاتفاق حتى انقلبت الاوضاع واطاحت به ثورة شعبية تحت ضغط هجمات متمردى الجنوب مرة اخرى.وثانيهما حكم الانقاذ، الذى انتهت خططه تجاه الجنوب على غير ما بدات، اذ بدات تجربة الانقاذ بشن حملة شعبية جهادية لحرب المتمردين، انجزت اهدافا مهمة اذ انهكت واضعفت قوة التمرد ولم يعد الا وجود هامشى فى خريطة الجنوب، غير ان التجربة انتهت الى الاقرار بانفصال الجنوب وهو ما لم تقر به اية حكومة سودانية سابقة منذ الاستقلال، وجاء نتاجا للاستجابة لضغوط الدول الغربية والنشاطات الكنسية التى وصلت الى مستوى هائل من معارك دارفور الى الضغوط الاقتصادية الى التهديد بالقصف الجوى الى المحكمة الجنائية الدولية، وانتهى الامر الى الموافقة على فصل الجنوب.

 

مظاهرات ام ثورة
 بدات الاحداث الراهنة باصدار الحكومة السودانية مجموعة من الاجراءات الاقتصادية لمعالجة العجز المفاجىء فى الميزانية، اذ تحركت تظاهرات طلابية توسعت لتشمل بعض احياء الخرطوم، ووصلت من بعد الى مناطق اخرى خارج العاصمة فى بعض الولايات.وقد لاحظ المتابعون ان تلك التظاهرات اخذت بفكرة تسمية ايام الجمع على ذات الطريقة التى اعتمدتها الثورات فى اليمن ومصر وسوريا.وقد ردت السلطات الامنية على تلك التظاهرات بطريقة الامن التقليدية سواء بالهراوات او القنابل المسيلة للدموع، او بالقبض على نحو 1000 من المتظاهرين والناشطين ومن بينهم قيادات حزبية معارضة من تلك الداعمة لتلك المظاهرات.وقد دخل الاعلام على خط مواجهة التظاهرات، وكان البارز دخول الرئيس السودانى بنفسه ودون مواربة على خط التنديد بالمتظاهرين حتى وصفهم بشذاذ الافاق، فى مقابل تحرك احزاب المعارضة بالدعم والتاييد للمتظاهرين.وقد بدى للمتابعين للمظاهرات ان الغطاء السياسى لها كان اكبر من حجمها، وانها جرت وفق تكتيكات جديدة على مثل هذا النوع من الاحتجاجات فى السودان، بما يشير الى نمط من التخطيط مشابه لما جرى فى بعض ثورات الربيع خاصة مصر، التى اعتمد المتظاهرين فيها خططا لانهاك رجال الشرطة، وهو ما جاء فى السودان مختلفا عن حالات الثورة الجماهيرية السودانية التقليدية التى كانت تعتمد اسلوب "النزول الكثيف" من قبل الجمهور فى الشارع، دون مغادرة الميادين والطرق، واغلبها كان يتوجه لحصار المؤسسات الرسمية حتى "يسقط النظام"،فذلك ما جرى ثورة رجب (ثورة عام 1984 )على جعفر نميرى، وقبلها فى ثورة عام 1964 ضد الفريق عبود..الخ.

 

ومع هذا الاختلاف بين نوعية مظاهرات اليوم والنمط الثورى للتغيير فى السودان، اذا جاز القول، وفق السوابق فى هذا البلد، الذى اشعل ثورتين جماهيريتين حقيقيتين من قبل، حين كانت بقية الشعوب العربية "خاملة"، فالاهم الان ان الظروف التى ادت للمظاهرات الحالية، والاوضاع الراهنة تنذر بخطر لا بثورة وربيع وتغيير.
ولقد رات الدولة السودانية الامر على هذا النحو،ولذا قررت التراجع عن قرارات رفع الاسعار التى كانت مفجر الاحداث، وفى ذلك يبقى التشديد على خلفية تفجير الاحداث، الذى لم يكن الا خطة جنوبية بامتيار!
لقد نتج عن انفصال الجنوب، ان فقد السودان نحو ثلاثة ارباع موارد ميزانيته من العملة الصعبة، اذ الارض التى اقامت عليها حركة التمرد فى الجنوب الدولة الجديدة، كانت تنتج نحو ثلاثة ارباع النفط السودانى المصدر.ووفقا لتلك الوضعية، لم يعد السودان ينتج الا نحو 115 الف برميل يوميا، وهو ما يغطى احتياجاته اليومية من الطاقة.

 

لكن الاخطر ان دولة الجنوب، بدات فى شن حرب اقتصادية على السودان، حين استغنت عن عائدات نفطها عبر الانابيب المارة بارض السودان، حتى تحرمه من عائدات رسوم العبور التى تقدر بنحو 30 % من ميزانية السودان بعد انفصال الجنوب، ومن بعد تحركت قواتها المسلحه لتعتدى على ارض السودان وتحتل منطقة هيجليج التى هى ما تبقى للسودان من حقول انتاج النفط، وقد تعمدت قوات الجنوب تخريب المنشات فى هيجليج قبل الانسحاب تحت الضغط العسكرى لجيش السودان، امعانا فى حرمان السودان من كل مصادر العملة الصعبة لتغطية ميزانيته.
كانت تلك هى الخلفية الحقيقية التى انتجت الاحداث والمظاهرات، وهى ذات الاوضاع التى تعكس خطة جنوبية (امريكية –غربية فى واقع الحال ) للاستمرار فى الضغط على الحكم فى السودان حتى اسقاطه، والانتقال الى مخطط تفكيكه.

 

تفكيك لا ثورة
 فى النظر الى معطيات الحالة السودانية، يمكن القول بوضوح ان احداث عنف جماهيرية واسعه وعميقة فى هذا البلد، لن تؤدى فى الاغلب الا الى حالة تفكيك، وان التغيير لن ياتى بربيع لوحدة السودان، بل سيكون طريقة اخرى جديدة لاكمال مخططات فصل الجنوب وتفكيك دارفور، واسقاط البلاد فى حالة نزاع مدمرة لن تتوقف الا بتفكيك البلاد وفقا للمخطط المعلن، بفصل دارفور والشرق وعزل الوسط الى مجرد جزيرة تعلوها دولة تتمدد فى داخل الحدود المصرية.من جانب تجرى الاحداث نتيجة لمخطط واضح من الجنوب ومن وراؤه، ومن جانب اخر، فان اضعاف الحكم فى الخرطوم وانهاكه لن يصب الا فى مصلحة قوى التمرد التى تمسك بالسلاح فى دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الازرق، وان اشتعال الاحداث فى بلد جرت كل وقائع ثوراته فى الخرطوم، لن ينتج عنه الان اى تغيير حقيقى فى اوضاع السودان او فى الظروف والاوضاع الجارية فى عموم البلاد.وهنا يبدو التذكير واجب بان قوى حزبية شمالبية من تلك الداعية للثورة الان، كانت قد اقامت مع تمرد الجنوب ما سمى بتحالف جوبا قبل انفصال الجنوب مباشرة، وان قوات التمرد فى كثير من مناطق السودان الان صارت تتواجد على ارض جنوب السودان، وتمارس نشاطها انطلاقا من اراضيه والعودة اليها، وهو ما يعنى ان ثمة اختلاطا كثيف الاوراق بين احداث الخرطوم الجارية واحدث الجنوب والاعمال الجارية لاكمال مخطط التفكيك.وهنا يبدو اسقاط حكم البشير فى هذه المرحلة خطوة فى طريق التفكيك..لا خطوة فى عالم ربيع الخرطوم او الربيع العربى او اى ربيع اخر الا  ربيع الجنوب ومخططاته.