فتنة المناصب في العراق اليوم
15 ذو القعدة 1433
د. جاسم الشمري

تقلبات الإنسان في هذه الحياة بين الفقر والغنى، والصحة والمرض، والقوة والضعف، والأفراح والأتراح، والعلم والجهل، والسلام والحرب، والحياة والموت، كل هذه التقلبات هي في حقيقتها فتن لابتلاء الناس وامتحانهم هل يفلحون، أم يفشلون؟!

معاجم اللغة العربية ذكرت العديد من المعاني لكلمة (الفتن)، حيث ورد في (تاج العروس) للزَبيدي (35/489): الفَتْنُ: (الإِحْراقُ) بالنَّارِ. يقالُ: فَتَنَتِ النَّارُ الرَّغيفَ: أَحْرَقَتْهُ.
والفِتْنَةُ: (إِعْجابُك بالشَّيءِ)، وهي (الضَّلالُ)، و(الإِثْمُ والمَعْصيَةُ)، وهي (العَذَابُ).
وهي أيضاً: (الجُنونُ كالفُتُونِ، والمالُ، والأوْلادُ، واخْتِلافُ النَّاسِ فِي الآراءِ).

والعراقيون فُتنوا بعد عام 2003، بمئات الفتن الظاهرة والباطنة، فمنهم من اجتاز هذه الابتلاءات بنجاح وسلام، وهم الغالبية العظمى من الناس، ومنهم من فشل أمامها، وهم القلة القليلة، وهذه تشمل بعض المواطنين، وغالبية الذين دخلوا في ما يسمى "العملية السياسية".

والفتن السياسية برزت في جانبين رئيسيين هما: المظاهر والسلوك.

والمظاهر كانت كثيرة وبرّاقة، ومنها الرواتب الخيالية، والجواز الدبلوماسي الأحمر، والسجاد الأحمر، والقصور الفخمة، والطائرات الخاصة، والحمايات المشددة، والطعام المعد بإشراف طبي، والفحوصات الطبية الدورية، والأرصدة المفتوحة في البنوك الأجنبية، وغيرها الكثير من المغريات التي خربت نفوس وعقول ودين وتربية أغلب هؤلاء الساسة.

أما في الجانب السلوكي فإننا نجد العجب العجاب، حيث ضُيعت الأمانة، وانتُهكت الأعراض، وقُتل الأبرياء، حتى إن القاتل لا يعرف لماذا ارتكب جريمته بالمغدور به؟! ومُلئت السجون السرية والعلنية بالمغلوب على أمرهم، وأَكل أغلب رجال العملية السياسية وأتباعهم المال الحرام، وكان لبعضهم سجون خاصة، وعصابات إجرامية تُنفذ الاغتيالات المخطط لها مسبقاً لتصفية الساحة من الخصوم، وغيرها المئات من صور الظلم والإساءة والخراب!

ومع كل هذه الجرائم لا يتمكن القضاء العراقي، غالباً، من تحريك ساكن، أو تسكين متحرك؛ لأن السياسة سيطرت على الدائرة القانونية في البلاد، بل إن العديد من المجرمين المطلوبين للعدالة يجلسون اليوم في مجلس النواب، ومنهم من يحلم أن يكون رئيساً للوزراء في المرحلة المقبلة، ومنهم من نهب وسرق مليارات الدولارات عبر مشاريع وهمية، وحراسات غير حقيقية، وغيرها الكثير من صور النهب والسلب، التي لن تفلت من حساب العدالة العراقية في مرحلة التغيير المرتقب.

والفتنة الأشد أن أغلب قيادات الأجهزة الأمنية، وهم عادة من التابعين لهذا الحزب، أو ذاك، يرتكبون جرائمهم باسم القانون، وحينما تحاول الحكومة تمثيل دور النزاهة والشفافية والمراقبة، فإن العقوبة لا توازي الجُرم المرتكب!

وجرائم تلك القيادات لم تتوقف عند ابتزاز أهالي المعتقلين، ولم يكتفوا بالأسماء الوهمية من الجنود، التي يتقاضون رواتبها المقتطعة من قوت الشعب العراقي، بل وصل الفساد إلى التلاعب بالحصص الغذائية للعسكريين في معسكراتهم.

وفي هذا الباب كشف مصدر في المحكمة العسكرية ببغداد، يوم 25/9/2012، أن" المحكمة العسكرية في بغداد- الكرخ أصدرت قبل يومين حكماً بالحبس البسيط لمدة شهرين بحق اللواء (هيني عبد الله خوشناو) قائد الفرقة الثالثة في الجيش الحكومي المتمركزة غرب الموصل؛ وذلك لتلاعبه بقوت المقاتلين"، وبيّن المصدر بأن " (خوشناو) ما زال يمارس أعماله في مقر الفرقة حتى اليوم، بعد إصدار المحكمة العسكرية الحكم عليه بالتهمة المتعلقة بالفساد"!

فكيف يمكن تفهم، هذا الفساد، وهذه المهازل، وهذه الجرأة التي تشجع ضعاف النفوس من الموظفين الحكوميين على تدمير البلاد، وإنهاك المواطنين؟!

السياسية في العراق اليوم، في غالبها، تنطبق عليها كافة معاني الفتنة في اللغة العربية، فهي احراق لثروة البلاد، وقمع لأهلها، وإعجاب كل الأطراف المشاركة بالمهزلة السياسية بنفسها، وهي إثم ومعصية؛ لأنها دمرت البلاد، ولم تقدم شيئاً للعراقيين، وجميع هؤلاء الساسة مختلفون في آراءهم وتوجهاتهم!

وهكذا ستستمر هذه الفتن طالما لا يجد هؤلاء الساسة الخاطفون للمركب العراقي من يوقفهم عند حدودهم. وستبقى البلاد واقفة على كف عفريت، كما يقال، إلى أن تنطلق شرارة الثورة الشعبية التي ستقول لساسة المنطقة الخضراء: توقفوا عن ارتكاب المزيد من الجرائم الظاهرة والباطنة.
وهذه الساعة هي قاب قوسين، أو أدنى بإذن الله.

[email protected]