مرسي يعزز مدنية الدولة المصرية
23 ذو القعدة 1433
علا محمود سامي

مشهد الاحتفالية العسكرية والشعبية بانتصارات السادس من أكتوبر التاسعة والثلاثين أخيرا، وحضور الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي لها، كان ذات دلالات بالغة يمكن من خلال تحليلها لفهم ما يدور في أذهان أول رئيس مدني منتخب في مصر، وموقف المعارضين منه.

من أبرز هذه الدلالات تلك الرسالة التي أراد مرسي تعزيزها ، كما يصر على تأكيدها في جميع المحافل العربية والدولية التي شارك فيها أخيرا بأن مصر أصبحت دولة مدنية حديثة، والمدنية هنا لاتعني بالمفهوم العلماني والليبرالي اقصاء الشريعة الاسلامية من الحكم، ولكن هى النقيض للدولة العسكرية والثيوقراطية أو الدينية التي كانت شائعة في العصور الوسطى بدول أوروبا في الوقت نفسه.

ولذلك كان مرسي حريصا على أن تخرج الاحتفالية بهذه المناسبة في اطار من المشاركة الجماهيرية والعسكرية، إذ جاور الجنود جماهير الشعب المدنيين، في تأكيد لتلاحم الشعب مع جيشه من ناحية، وتعزيز مشاركة الرئيس المدني من غير خلفية عسكرية للمؤسسة العسكرية في مناسبتها الوطنية من ناحية أخرى، خاصة وأنها تأتي لأول مرة في تاريخها في ظل تولي شخصية مدنية رئاسة البلاد، وجاءت بعد أسابيع من الاطاحة بكبار القادة العسكريين وعلى رأسهم رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة المشير حسين طنطاوي ونائبه الفريق سامي عنان.
ولذلك كان مرسي حريصا على أن يشارك بهذه الاحتفالية مازجا فيها بين ما هو مدني وما هو عسكري، تأكيدا لعبارته التي يرددها دوما بأن مصر أصبحت دولة مدنية حديثة، وبالشكل الذي قد يودع بالجملة عودة مصر لأي حكم عسكري، حتى لوكان الحاكم من خلفية عسكرية.

وفي الوقت نفسه لم يكن خافيا على الرئيس مرسي وهو يعزز التواجد الجماهيري مع العسكري، أن يبرز دلالات هذا التواجد في رفع الروح المعنوية لأفراد وضباط المؤسسة العسكرية، بعدما نالها نصيب كبير من الشعار الشهير "الشعب يريد اسقاط المجلس العسكري"، بعدما كان هذا الشعار مشمولا بالنظام، وما تبع الاطاحة بكبار القادة العسكريين ببلاغات تقدم بها عدد من النشطاء ضد طنطاوي وعنان تتعلق بارتكاب جرائم قتل وفساد مالي.

وكما هو معروف في أوساط العسكريين فإن المساس أو التشهير بالقادة العسكريين أو حتى السابقين، يثير حالة من الاحتقان في أوساط هؤلاء، وهو الأمر الذي قد ينذر بخطر على تماسك نسيج هذه المؤسسة، وهو ما أدركه مرسي أيضا ، ولذلك كانت احتفالية ستاد القاهرة خلال ذكرى انتصارات أكتوبر موجهة الى رفع الروح المعنوية لأفراد هذه المؤسسة ، وفق الشعار الذي كان سيد الاحتفالية وهو "الشعب والجيش ايد واحدة"،والتأكيد على تلاحم الشعب وجيشه، واذا كان ذلك قد تحقق في 6 أكتوبر عام 1973، عندما وقف الشعب خلف جيشه، فان المؤسسة العسكرية وقفت داعمة لشعبها في 25 يناير عام 2011، حيث قامت الثورة ضد الاستبداد والفساد.

بهذه المعاني وغيرها من الوسائل التي تتحدث عنها المؤسسة العسكرية بتوفر خطط لرفع الروح المعنوية لأفرادها بعد انتهاء المرحلة الانتقالية ، وعودة الجيش الى ثكناته، يكون مرسي قد استهدف من الاحتفالية بأن يكون لها الكثير من الدلالات العسكرية، خلال الأخرى الجماهيرية، التي حرص خلالها على تقديم كشف حساب عن المائة يوم الأولى في رئاسته، وما تحقق منها من وعود، وما جرى فيها من اخفاقات.

غير أن اللافت الأبرز في هذا الكشف أنه حمل قدرا كبيرا من الشفافية، فلغة الأرقام التي تحدث عنها الرئيس مرسي لم تشمل تحقيقا لجميع القضايا التي وعد بها مرسي ناخبيه ابان جولة الاعادة، بل إنه ذكر تحقيق 70% منها من الناحية الأمنية، و40% من نظافة الشوراع وازالة المخلفات ، ما يعني صحة المكاشفة وتدقيق الشفافية، عكس ما كان سائدا بأن كل ما يجري فهو انجاز، لاتقل نسبته عن 90%، وبالاضافة الى هذا كله، فقد أعلن الرئيس تحمل المسؤلية كاملة عما تحقق منها ، وما تم الاخفاق فيها، خاصة واذا علمنا في خلفية ما لايتحقق بأنه جاء نتيجة الميراث التليد من الفساد والاستبداد الذي خلفه له سلفه المخلوع حسني مبارك.
ولكونها احتفالية جماهيرية بالأساس ، نظمتها القوات المسلحة في ذكرى مناسبة عسكرية أيضا، فقد حرص مرسي على أن تكون كلمته التي تجاوزت ساعة جامعة بين إبراز معانيها العسكرية من ناحية، وتقييم أدائه خلال الأيام المائة الأولى من رئاسته من ناحية أخرى.
غير أن هذه الدلالات وغيرها غابت بصورة مباشرة أو متعمدة عن أذهان من أخذوا يلوكون أحاديث الرئيس كعادتهم، ولايرون فيها انجاز، وراحوا يروجون حولها العديد من الشكليات، كأن الرئيس دخل ساحة الاحتفال مستعرضا بسيارة مكشوفة، وأن المناسبة دعيا إليها أحد قتلة الرئيس الأسبق أنور السادات، دون دعوة طنطاوي وعنان، ونسى هؤلاء أو تناسوا أن هؤلاء القتلة قضوا أحكامهم وزاد عليها النظام المخلوع سنوات من الاعتقال، وأنهم حضروا بصفاتهم الحزبية كغيرهم من ممثلي الأحزاب السياسية، كما أن مراجعاتهم الفكرية ورغبة الدولة في تحقيق مصالحة مع الجميع كانت وراء دعوتهم، في الوقت الذي تجاهل فيه غلاة الألسنة من العلمانيين والليبراليين أنهم هم الذين كانوا ينادون بضرورة ان يكون الرئيس لكل المصريين، وأن يعمل على إنهاء حكم العسكر ومحاكمة طنطاوي وعنان، فلماذا اليوم يأسفون لغيابهما عن مثل هذه المناسبة؟

أمثال هؤلاء أغرقوا أنفسهم في شكليات كعادتهم دائما، دون التعاطي مع مضامين خطاب الرئيس، والتي وإن كان أغفل فيها كشف حسابه خلال المائة يوم الأولى من رئاسة، لصدع هؤلاء رؤوسنا بأن مرسي تجاهل تقييم ادائه، لأنه فشل فيه، ولو لم يتحدث الرئيس عن تلاحم الشعب بجيشه، وتأكيده على أن المناسبة فرصة لاستحضار العزة والكرامة ما يتطلب من المصريين ضرورة الاصطفاف الوطني، وأنها تأكيد على مدنية الدولة بمفومها المناهض للعسكري ، لو لم يتحدث الرئيس عن كل هذا لقالوا ما قالوا بأن مرسي أغفل دور الجيش، وأنه راح ينتزع لنفسه بصمة من بصمات حرب أكتوبر.

لذلك فإن أمثال هؤلاء لن يعجبهم شيئا، ولن يرضهم الا أن يدفعوا بالخاسرين في الانتخابات الرئاسية، بدعوى أن الشعب المصري ضل طريقه لانتخاب مرسي، فقد أزعجهم وهالهم ما رد عليه الرئيس بشأن المزاعم التي يروجونها بتكلفه صلوات الجمع للرئيس، وجولاته الخارجية، وانه يحصل منها على مبالغ طائلة، وهو ما رد عليه مرسي بأن صلواته لا تكلف الدولة المصرية شيئا، وأنه لم ولن يتقاضي مليما واحدا جراء سفرياته الخارجية، داعيا الى محاسبته ماليا بعد خروجه من منصبه، وسعيه لتدويل السلطة، في اشارة الى تأكيده على تحقيق هذا الأمر، دون احتكار للسلطة.

هؤلاء لن يرضوا بشئ ، حتى لو جاراهم الرئيس بما يزعمون، والأفضل لمؤسسة الرئاسة وأجهزة الدولة المصرية بمختلف مؤسساتها أن تواصل جهودها لتلبية مطالب المواطنين البسطاء، دون النظر لأمثال هؤلاء الغلاة، وليواصل الرئيس مساعيه لبناء الدولة المدنية الحديثة، لتعبر بحق عن أول مشروع اسلامي في مصر يسعى الى التطبيق، ويتوق اليه المصريون.