فطام الكبار !!
16 ذو القعدة 1433
معتز شاهين

يبدأ الطفل حياته معتمدًا على غيره حتى في أبسط شئون حياته والتي لا يمكن أن يعيش بدونها ( كالمأكل والمشرب )، فهو يعتمد على الرضاعة من أمه كمصدر للغذاء، والطبيعي أن يُفطم الطفل بعد حولين من الرضاعة، ولكن للأسف الكثير من أطفالنا لم يُفطموا رغم تعديهم حولين الرضاعة بفترات زمنية فارقة.

 

فنجد الابن يعتمد على الآخرين في كل أمور حياته، فهو ينتظر المعلم لكي يقدم له المادة العلمية جاهزة ، والأب يقدم له ما يطلبه بكل سهولة ويسر، فهو قد انتقل من رضاعة الأم إلى نوع جديد من " الرضاعة " هي  الركون والاعتماد على المدرس إلى نوع ثالث من " الرضاعة " تجاه المجتمع كله، فهو يرى المجتمع ككل خادمًا له، يأبى حتى أن يمد يده ليأكل بنفسه بل ينتظر من يقدم له يد المساعدة في كل أمور حياته.

 

ويرى البعض من المربين أن تحمل الطفل للمسئولية منذ الصغر يسبب نوعا من الإرهاق الفكري والبدني للطفل، فهو طفل يجب أن يعيش طفولته بسعادة وسرور بدون منغصات أو تحمل لمتاعب الحياة، وهذا الاتجاه ما بُني إلا على فهم خاطئ لمفهوم المسئولية، فليس معنى أن يكون الطفل مسئولاً أن يكون طفلاً متجهمًا لا يلعب مع أصحابه ولا يلهو معهم، متفوق في دراسته لا يعرف شيئا سوى الاستذكار وتحصيل الدرجات ، والعمل الدءوب لتنفيذ ما يصدر إليه من تعليمات من قبل الوالدين.

 

ففي دراسة أعدتها أحدى المنظمات المجتمعية حول المسئولية؛ أكدت فيها على أن الشخص المسئول شخص متكيف مع نفسه ومع من يحيطونه، فهو يدرك المسئولية بشكل متزن، يعلم أن هناك مسئولية نحو نفسه ونحو الآخرين، فتجد أنه يعيش نوعا من السعادة الداخلية المبنية على اتساق ما هو بداخله مع مايعتقده نحو الآخرين.

 

ويرجع اهتمام أي والدين بذلك الموضوع لما لتحمل المسئولية من دور هام وكبير في اكتمال وعي الطفل، وإدراكه لحقيقة دوره في الحياة، مما يؤثر على نجاحه في حياته العلمية والعملية، وكذلك فتحمل الطفل للمسئولية تجعل هناك حائلاً بينه وبين الإصابة بأنواع من المشاكل النفسية أو العيوب في شخصيته؛ كالأنانية وحب التسلط أو حب الظهور وما نحوه من تلك الأمراض النفسية التي تعيق تواصله مع نفسه ومع الآخرين من حوله.

 

ويتبادر إلى أذهاننا سؤال .. هل الشعور بالمسئولية فطري أم مكتسب؟

 

بالطبع لا يولد الطفل عارفاً بالمسئولية وواجبه نحو الآخرين، وإنما يدفعه الوالدان دفعًا نحو تحمل مسئولياته، وقد يخطئ البعض حين يقول بأن الطفل حينما يكبر سيدرك مسئولياته ويتحملها بمفرده، فمن شب على شيء شاب عليه!!

 

ويقع كثير من الآباء والأمهات في خطأ ثان أكبر، حينما يظنون أن عدم تلبية رغبات الطفل الصغير في حمله ورعايته هي نوع من غرس المسئولية في نفسه، حتى يشب الطفل بعيدًا كل البعد عن التدليل، ونسوا قوله – صلى الله عليه وسلم – ( من لا يرحم لا يُرحم )، ففي دراسة أعدها " بترن سوروكن" العالم الاجتماعي المشهور قال فيها أن تنشئة الأطفال في جو من الحنان وعلى أيدي آباء عطوفين له أهميته العظمى في مساعدة الأطفال على أن يشبوا على التعاون والشعور بالمسئولية.

 

فلتحمل المسئولية يجب أن يكون لدى الطفل رصيد هائل من الشعور الطيب مع رصيد من الحب في أعماق نفسه، فهو لن يكن الحب والمسئولية تجاه الآخرين إلا إذا وجدها واقعًا معاشًا في محيط أسرته، ومن المعروف أن الذين يشعرون بالمسئولية الحقة يكون الحب دائمًا أساس علاقتهم بغيرهم. أما إذا شب الطفل على العداوة والانطواء، فسنجده مشغولاً بنفسه وإشباع أحاسيسه مما يجعله أنانيًا منطويًا على ذاته.

 

- ولكن السؤال الأهم هو متى أبدأ غرس مفهوم تحمل المسئولية في نفس طفلي ؟ وكيف ؟!

 

يبدأ شعور الطفل بالمسئولية منذ مولده، فهو يرى في والديه مثالاً عمليًا لتحمل المسئولية، فالأم ترعاه وتهتم به، والأب يلبي له رغباته، بدون أن يطالبوه بأي شيء، وهكذا نرى أن تعلم الطفل للمسئولية بأن يكون في البداية هو نفسه غير مسئول!!

 

أما عن الوقت المناسب لغرس مفهوم تحمل المسئولية في نفوس أطفالنا، فلا يمكن تحديد أو فرض وقت معين لتعليم المسئولية للطفل، فالوقت المناسب هو الوقت الذي يبدي فيه الطفل استعدادًا لتحمل المسئولية، وعلى الوالدين حينها استغلال تلك الفرص لغرس مفهوم تحمل المسئولية في نفوس أطفالهم.

 

فمثلاً حينما يبدي الطفل الصغير رغبة في أن يأكل بمفرده بدون مساعدة الوالدين، يجب على الوالدين فورًا مساعدته على تحقيق ذلك الأمر؛ بأن يحاولا بيان كيفية الاستخدام الأمثل للملعقة وهكذا، ولا يكونا عقبة أمام رغبته في الاعتماد على نفسه بحجة أن الطفل مازال صغيرًا، أو أنه سيبعثر الأشياء والأكل، فمجرد بسمة من الأم أو استحسان وضحكة من الأب ستعمل مفعول السحر مع الطفل، وتجعله يبادر للاعتماد على نفسه أكثر وأكثر والانصياع لتعليماتهم.

 

ونأتي لأهم نقطة في اعتماد الطفل الصغير على نفسه والتي يحار فيها الكثير من الأمهات، وهي مسألة اعتماد الطفل على نفسه في التحكم في الإخراج والنظافة الشخصية، وبداية كثير من الأمهات يسارعن في البدء بعملية تحكم الطفل في الإخراج رغم أن الوقت المناسب لبدء عملية التحكم تلك هو سن سنتين ونصف السنة، حيث تكون عضلات الطفل الدقيقة قد اكتمل نموها مما يجعل من السهل عليه التحكم في الإخراج.

 

ويكمن سر نجاح الأم في تدريب الطفل الصغير على الذهاب لدورة المياه هي العمل على أن يكون الطفل في المكان المناسب في الوقت المناسب!! فلا تبادر الأم دائمًا لأخذ طفلها إلى هناك فيشعر بالملل والضيق، ولا تدفعه دفعًا نحو دورة المياه في اللحظات الأخيرة.

 

ويتدرج شعور الطفل بالمسئولية مع تدرجه في سني عمره، ويعتبر أفضل سن لكي يأخذ الطفل زمام المبادرة ويكون دور الوالدين حينها فقط الدعم والإرشاد والتوجيه في حالة الخطأ، هو من سن الثامنة إلى الحادية عشرة من العمر، حيث يبدأ الطفل من الخروج من حيز الأسرة إلى نطاق المجتمع وتتسع دائرة اختلاطه المجتمعي، فالطفل يريد الخروج مع أصدقائه والاشتراك معهم في أنشطة خارجية، وحتى في حالة تشكك بعض الآباء من قدرة أولادهم على التصرف في موقف معين، فعليهم تجنب الرفض الصريح، ومحاولة طرح البدائل الممكنة التي تتيح للطفل قدر من الحرية والتصرف المسئول.

 

فمثلاً إذا أراد الطفل الخروج مع أصدقائه ليلاً، ويعلم الأب أنه – أي الطفل - سوف يتأخر وقد تحدث له عواقب وخيمة، فيقدم بديلا أخر وهو الخروج نهارًا والرجوع مبكرًا، أما الرفض الصريح فسيحطم معنويات الطفل ، ويجعله يفقد الثقة في ذاته ، ويفقده القدرة على مواجهة المواقف الجديدة الصعبة.

 

أما في سن المراهقة لن يحتاج الطفل إلى أن يدفعه والداه نحو الاستقلال والاعتماد على النفس وتحمل المسئولية، فالدافع الذاتي لدى الطفل يكون أكبر من أي توجيه، فهو يريد عمل كل شيء بنفسه وبعيدًا عن سيطرة الوالدين.

 

ونقول هنا بأننا كوالدين سنحصد في فترة المراهقة زرعنا في نفوس أولادنا تحملهم للمسئولية ، فغاية آمال الوالدين تكون في أن يعي ولدهم وهو في هذه الفترة العمرية أن تحمله المسئولية يعني أن يستقل في اتخاذ القرارات – إلى حد ما – وفي نفس الوقت يحترم الآخرين ولا يسبب لهم ضرر أو أذى، حينها يكون أطفالنا قد وعوا مصطلح ( المسئولية المسئولة ).

 

ولكن ماذا يفعل الأب الذي تأخر في انتهاز الفرص المواتية لغرس تحمل المسئولية في نفوس طفله، إن الفرصة لم تفت بعد فانتظر تلك الفرص وادعم طفلك معنويًا وأعطه زمام المبادرة ولا تخف، فالإنسان قابل للتحسن مهما طال العمر أو قصُر.

 

ونصيحة لكل أب وأم إن غرس تحمل المسئولية في نفوس أطفالكما لا يعني العبوس في وجوههم، ولا تكليفهم بما لا طاقة لهم بهم، ولا تعني كذلك العمل أو الدراسة المتواصل بدون ترفيه عن النفس، فلا تحمل الطفل ما لا يتناسب مع إمكاناته أو قدراته، وذلك حتى لا يهربوا من تحمل المسئولية وتذكرا قوله – صلى الله عليه وسلم – ( كل مُيسر لما خُلق له ).