اللحظات الساقطة !
28 ذو الحجه 1433
د. خالد رُوشه

اللحظات الساقطة !
خالد روشه
[email protected]

إنما أعمارنا لحظات , إذا ضمت إلى بعضها كان العمر كله , وإذا نقص منها شىء نقص من اعمارنا قدره , وكل لحظة تمر تنهي بعضه , وتقرب من نهايته , فتنقصه ولا تزيده , وتقرب من لقاء الحساب على ما تخلل تلك اللحظات من العمل..

 

 

واللحظات الساقطة , لا اقصد بها – كما قد يتصور بعض القراء – لحظات المعصية والذنب , فتلك لحظات يظهر حملها على جانب السيئات وظلم النفس , إنما اقصد بها لحظات الغفلة !

 

 

فالغفلة لايعدها أكثرنا شيئا , وقد لا ينتبه أكثرنا إلى أثرها , وقد يغشى أحدنا معظم حياته رداء الغفلة , فلايرى نفسه مقصرا في شىء, إذ إنه – برؤيته – لايرتكب إثما , ولا يعلم المسكين أن غفلته في ذاتها تقصير أي تقصير في حق الله سبحانه

 

فحق الله سبحانه أن يطاع فلا يعصى , ويذكر فلا ينسى , وأن يشكر فلا يكفر , ومن قصر في حق منها فهو المقصر بحق , وتلكم الحقوق هي ابسط ما يقدم له سبحانه الرحمن الرحيم , فإذا غفلنا عن ذكره سبحانه وطاعته فقد غفلنا عن حقه عز وجل , فاستحققنا الحساب عليها ..

 

 

ولحظات الغفلة إذا طرحها الغافل من حياته لم يبق من حياته ثُمّ شىء يذكر إلا مجرد صراعات مع الليل والنهار وسباقات نحو متاع زائل , ثم يفجؤه المرض فيقعده أو الموت فيسلمه !

 

 

وتظل لحظات الغفلة بالمرء حتى يلقى لحظة النهاية , فينظر حوله فلايجد شيئا قد قدم , إلا تيها واسعا , وقليلا من عمل , وعندئذ تعلو صرخة الندم .. ولات حين مندم !

 

 

والقرآن حين يتكلم عن الغفلة يصفها وصفا دقيقا جدا , فمع حركة الحياة , تدور الأيام , يوم بعد يوم , وتفوت الأعمار , ونحن غافلون عن دورانها , فالحساب يقترب , والميزان يعد , والصراط ينصب , وليس يشغلنا في حياتنا إلا المعاش والتصارع على الملذات , قال سبحانه :" اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون "

 

 

 

كما يصف القرآن حال كثير من الناس , يهتمون كثيرا بشئون الحياة , ويغوصون في معانيها , ويعلمون عن أطرافها وظواهر معيشتها ما يظنون أنه كثير , غير أنهم يغفلون عن الآخرة , قال سبحانه :" يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون "

 

 

ولذلك أمر سبحانه بدوام التذكر ونهى عن الغفلة , فقال سبحانه :" واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر بالقول في الغدو والآصال ولا تكن من الغافلين "

 

 

 

فأمر بذكر الله ذاتيا , بالقلب واللسان , متدبرا ذكره , متفهما لمعناه , متضرعا به لرضاه , خائفا من عذابه , ولتفعل ذلك في كل وقت بقدر استطاعتك

 

 

 

بل قد نهى عن صحبة الغافلين , إذ الصحبة ناقلة للعدوى , ولئن صحبت غافلا فأنت على وشك السقوط في حمأة الغفلة , قال سبحانه :" ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا "

 

 

 

وغفلتنا عادة تكون إيثارا للعاجلة على الباقية , واستئخارا للآخرة , " بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى " , وتكون عادة حبا للراحة , وإيثارا للكسل , وقد تكون حبا في المتعة الجسدية أو النفسية , أو ولوغا في اللهو المنسي المغفل , كما قد تكون من نسيان الذنب , والاغترار برحمة الله سبحانه ..

 

 

وقد تقع الغفلة من الطيبين , نتيجة لكثرة أعمال الدنيا وكدها وجهدها , وقد رفع الله قدر أناس لايغفلون عن ربهم برغم مشغوليات حياتهم وتجارتهم وبيعهم ومعاشهم , فقال سبحانه :" في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه , يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار "

 

 

فالصالحون يتذكرون الطاعات دوما ويخشون من الآثام في كل وقت وحين , فقد أخرج البخاري , لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ وابا موسى إلى اليمن قال معاذ لأبي موسى كيف تقرأ القرآن قال قائما وقاعدا وعلى راحلتي وأتفوقه تفوقا قال أما أنا فأنام وأقوم فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ..

 

 

 

 قال ابن حجر " إنه يطلب الثواب في الراحة كما يطلبها في التعب " , وقال ابن القيم " فلا يتقلب في شىء إلا وفيه مرضاة ربه , وان كان من الافعال العادية قلبه عبادة بالنية "

 

 

يقول السعدي في تفسير قوله تعالى " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ..الآيات "  : " وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة.

 

 

والحرمان كل الحرمان، أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قوما نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم ينجحوا، ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطا، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنا، لا يمكنهم تداركه، ولا يجبر كسره، لأنهم هم الفاسقون، الذين خرجوا عن طاعة ربهم وأوضعوا في معاصيه، فهل يستوي من حافظ على تقوى الله ونظر لما قدم لغده، فاستحق جنات النعيم، والعيش السليم - مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - ومن غفل عن ذكر الله، ونسي حقوقه، فشقي في الدنيا، واستحق العذاب في الآخرة، فالأولون هم الفائزون، والآخرون هم الخاسرون.

 

 

ولما بين تعالى لعباده ما بين، وأمرهم ونهاهم في كتابه العزيز، كان هذا موجبا لأن يبادروا إلى ما دعاهم إليه وحثهم عليه، ولو كانوا في القسوة وصلابة القلوب كالجبال الرواسي، فإن هذا القرآن لو أنزله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله أي: لكمال تأثيره في القلوب، فإن مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها، وهي من أسهل شيء على النفوس، وأيسرها على الأبدان، خالية من التكلف لا تناقض فيها ولا اختلاف، ولا صعوبة فيها ولا اعتساف، تصلح لكل زمان ومكان، وتليق لكل أحد "

 

 

وعلاج الغفلة , محاسبة النفس دوما , والوقوف معها على التقصير في حق الله سبحانه , والصدق مع النفس في معرفة السقطات والهنات والمعايب , ثم صحبة الصالحين الذاكرين العابدين العالمين , مع تذكر الموت ولقاء الله سبحانه ..