(حيش) البلدة الشهيدة..
4 محرم 1434
أ.د. أحمد بن فارس السلوم

حيش بُليدة نَزهة دُوين معرة النعمان، مِن أرض الشام المباركة، تلوح لك من بعد المعرة، وكأنها الوشم في ظاهر يدها.
ولدتُ فيها - كما ولد فيها أبي وجدي من قبل - فكان نصيبي منها ما قيل:
بلادٌ بها نِيطت عليّ تمائمي ... وأول أرضٍ مس جلدي ترابها

 

ليس لي أكثر من ذلك، ولم يكن حظي منها غير هذا، فقد فارقتُها مع أبي وأنا طفلٌ صغير، ولذلك لا أملك لها في مخيلتي أي ذكرى، ولا أحتفظ لها بأيّ صورة، اللهم إلا الاسم!!

 

كم حاولتُ العودة إليها - يشهد الله - ولكنّ نظام الممانعة كان يرى بي خطراً عليه  فكنت ممنوعاً من دخول بلاد الشام..سطرتُ بعض تباريح ذلك في قصيدة لي بعد إحدى المحاولات المرفوضة..
كم كنتُ أتألم حين أرى أصدقائي يَذرعون الطريق إلى الشام جيئة وذهاباً، وأنا لا استطيع أن أبرح معهم.

 

ما أقسى أصدقائي حين كانوا يهاتفونني مِن الشام ليخبروني أنهم يعيشون أجواء رائعة.. كانوا يتشدقون بالضحك، وكنت أتجرع غصص القهر، علمتُ حينها مرارة ما ذاق القائل:
أحرامٌ على بلابله الدوح       حلال للأطيار من كل جنسِ!

 

ولكن الذي بيده مقاليد الأمور حيٌّ لا يموت، كانت وما زالت القلوب متعلقةً به، مطمئنةً لتدبيره، واثقةً بموعوده، كنتُ إذا قرأتُ قوله في محكم تنزيله مخاطباً أحبَّ خلقه إليه: (إنَّ الذي فرض عليك القرآن لرادُّك إلى معاد) أجد السلوة والراحة.
لم يطل انتظاري كثيراً، خمس وثلاثون عاما فحسب، وما عساها تكون في عمر الأمم والشعوب، ثم أذن الكريم المنان بالفرج..
فانطلقتْ مِن درعا ثورة الكرامة، لتقول بملئ فيها: يكفي ظلماً أيها الأقزام، يكفي تسلطاً ونهباً وسرقة أيها الخونة العملاء.. 

 

بعد خمس وثلاثين عاماً - وفي هذه الثورة المباركة - عُدتُ إلى حيش بعد أن حررها أهلها من الغاصبين المعتدين، عُدتُ إلي حيش بعد معركة بطولية خاضها أهلها في صد رتل الدبابات الكبير المتوجه من حماة إلى وادي الضيف في معرة النعمان..
معركة قال لي بعض من شارك فيها: يحق لك ولكل أبناء حيش أن يفخروا بهذه المعركة التي سيذكرها تاريخ الثورة أبد الدهر..

 

صدوا هذا الرتل الكبير، ولكن المجرمين أمطروا حيش بوابل من قذائف دباباتهم، ولم يقف حقدهم عند ذلك فاستعانوا بالطيران الحربي، فجاءت طائرات الموت فقصفتها من طولها إلى عرضها، واستمر القصف وقتاً طويلاً، ثم تمموا إجرامهم بإلقاء براميل المتفجرات عليها.
سمعت عن ذلك كله، وسمعتُ عن هجرة أهلها، وعن الفظائع التي بها، وعن كل شيء، ولكني لم أر شيئا من ذلك، وليس الخبر كالمعاينة.
بعد هذه المعركة بقليل سافرت إلى حيش.

 

كنتُ مصطحباً في طريقي إليها بعض أُصيحابي، ومنهم رفيقي الشيخ سعد العثمان، كان سعد - عفا الله عنه - يسترق النظر إلى وجهي ليقرأ تعابيره، ويستكشف مشاعره، عجباً لك يا سعد، مشاعر رجل على مشارف بلوغ الأشد خرج من قريته وهو ابن سنتين أو قريب، م لم يعد إليها إلى الساعة ما عساها تكون تلك المشاعر!

 

وصلنا حيش وقت الأصيل، اتفق أنه الوقت الذي وقف فيه النابغة الذبياني على دار الأحبة، حين قال:
يا دار مية بالعياء فالسند  أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقفت بها أصيلا كي أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد

وقفت أنا كذلك يا نابغة ولكن شتان بين الموقفين، وقفت على حيش أرض البطولات المدمرة.
لما وصلنا كان سعدٌ ينتظر مني كلمةً، أي كلمة، لكني لم أجد شيئاً أقوله، غير تلك الابتسامة التي تعودتها، فقد ضاعت مني الكلمات في ركام الحنين..

 

ترجلنا من السيارة، وقدماي ترتجفان لا أدري لماذا، فأولُ ما وطأتُ أرضها شعرت بشيء في داخلي يبعثني على لثم ثراها، وتقبيل ترابها، شيء يقول لي إنها أمك أيها الولد، وها قد عدت إلى أحضانها بعد غياب، مالك لا تقبلها، وترتمي في أحضانها!!
ولكن سعداً قال لي: يا رجل، اسجد شكرا لله أن أعادك لبلدتك، فخررت لله ساجدا، لا أدري أسجود هو أم لثم لثراها، أم الأمرين معاً!

 

رفعتُ رأسي لأطلق لعينيّ العنان، أريد أن أرى حيش، تلك التي كان أبي يحدثني عنها كثيراً، ويروي لي عنها حديث الذكريات، تلك التي صورها لي وكأنها قطعة من الجنان نزلت في دار الأحزان..
لكني لم أر ذلك، ولا مُدَّه ولا نَصيفه، ولا شيئا منه، كان الذي رأيته نمطاً مخيفاً..

 

هل ضللت طريقي أم ماذا، ما الذي حل بهذه البلدة حتى تحولت إلى ركام، في كل مكان ركام، حيث ما يممت وجهي لا يستقبلني إلا الركام..
دمار شامل لم يسلم منه شيء، لا الشجر ولا الحجر ولا الإنسان، شعرت بالخوف، وانطلقت قدماي تسعيان دون شعور مني، لقد شدهت مما رأيت وأصابتني الحيرة!!

 

أدركني ابن عم لي يقال له مَدْيَن عرفني إذ كان رآني من قبل على بعض القنوات، فسلم علي وأخذني بحضنه، وقال لي أول ما قال: لقد دُمّرت حيش يا ابن عمي، وسآخذك بجولة على (متوري) لترى بعينيك ما حل بها..

 

أردفني خلفه وأنا أفكر بكلمته: لقد دمرت حيش..كانت كلمة نزلت علي كالصاعقة، لا أدري إن شعر ابن عمي أنه طعن في قلبي سكينا أم لا..ثكلتك أمك - يا ابن عمي - أبهذا تستقبل المشتاق!

 

دار بي في أحياء حيش وأنا فاغرٌ فمي مشدوهٌ من هول ما أرى، لم أصدق حين قال لي: كان مكان هذه الحفرة العميقة التي تراها بيت لبعض أهلك ألقوا عليه برميلاً فصار كثيباً مهيلاً!!
أراني ما زعم أنه كان حيّاً آمنا يسكنه أهلي وأقربائي ..كان هذا الحي بيوتا ومساجد ودكاكين وصار اليوم بقايا أطلال!

 

صورة متكررة لا تعزب عن ذهني ولا تغرب عنه، شوارع محفرة، وأرصفة متكسرة، وبيوت مهدمة، ومحلات بلا أبواب، ومساجد بلا مآذن وقباب.. حتى المقابر لم تسلم من حقد بني نصير، فقد قصفوها فتبعثرت القبور، وكأنه أوان النشور..
كان ابن عمي يتكلم ويشرح ويقول، وأقول له الآن: لا والله يا مدين ما أدري ما كنت تقول، لكني أذكر أنه قال: سآخذك إلى بيتكم.
لم يكن بعيدا، فسرعان ما وقف وقال: وصلنا!

 

وصلنا بيت أبي !! أهذا هو البيت الذي ولدتُ فيه، أهذا هو البيت الذي يحدثني أبي عنه وكأنه أحد ندمائه، وأعز  جلسائه، قال لي صاحبي: نعم نعم هذا بيتكم..
ما إن سمعتُها حتى اضطرب حالي، وعادتني الأنفاس فتجاذبني وأجاذبها حتى لكأنني أتنفس من خرم إبرة، وشعرت بحرارة بعيني، خُيّل إلي للحظة أنها تريد أن تخرج من أحداقها، لماذا كل هذا لا أدري والله..
وأقول الآن:  كنت محتاجاً حينها أن أذرف دمعة، لتطفئ نار الشوق، وليتني فعلت فإنّ فيها راحتي والله، ولكنني لم أستطع، كان على رأسي رقيب يبادلني النظرات، ويحصي علي الحركات..

 

قرأتُ في نظراته إلي  محاورة امرئ القيس مع أصحابه حين وقف يبكي من ذكرى المنزل والحبيب:
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيّهُم .. يقولون: لا تهلك أسىً وتجملِ
وإنّ شفائي عبرة مهراقة..فهل عند رسم دارسٍ من معولِ

 

لقد كنتُ أحق بقول امرئ القيس هذا منه، فهذا منزلي وهؤلاء أحبتي، ولكني لم أذرفها بعد..

 

نزلت أتأمل هذا البيت القديم، فوالذي نفسي بيده لقد رأيتُ الحزن في وجهه بادياً، وقرأتُ الأسى في محياه ، وشعرت بالقهر الذي عاناه لثلاثة عقود وأكثر ، منذ غادره أصحابه وعامروه، وأسلموه لمن اغتصبوه..
رأيتُ الأرياح تخفق فيه، من كل الجهات، تنقل إليّ رائحة الدمار والخراب الذي عمّ المنطقة كلها، وسمعتُ في أركانه أصواتها وكأنه بيت أشباح، لم يتهلل وجهه لي لأنه لم يعرفني، أعذره فأنا كذلك لم أعرفه، لولا أن الذي معي عرفني عليه..

 

شممتُ رائحة البارود في كل مكان من حديقته، لم أجد فيها تلك الورود التي كانت جزءاً مِن حديث أبي عنه، ولم أشم عبقها..

 

ويحك أيها البيت العجوز أبهذا تستقبل ابنك المحب الوامق، برائحة البارود .. أعذرك ثانية فبخوركم اليوم هو البارود!!
ابتعدتُ عن عين الرقيب الذي معي، فسرقتُ الوقت منه وذهبتُ أنظر من فتحة في باب بيتنا الداخلي فأجلت نظري في زواياه، الحزن – ورب الكعبة - ولا شيء سواه وفي كل زواياه، ألصقتُ بطني بالباب أريده أن يعرفني، أن تشعر روحه بروحي، فأنا جزء منه أولا وآخرا،

 

هناك بكيت وسالت دمعة، وشعرت أنه كذلك بكى..وجد فيّ ريح أبي - ربما - لولا أن يفندوه !
أما أنا فشعرت بالإلف القديم، وشعرتُ أني غُليّمٌ ابن سنتين كحالي يوم فارقتُه، شعرتُ بحنانه وحبه وشوقه العميق..

 

للحجر أرواح تحنُّ إلى أهلها، كما قال الدمشقي:
مآذنُ الشام تبكي إذ تعانقني...وللمآذن كالأشجار أرواح!!
لا أدري كم استغرقتُ من الوقت، لكن صوت صاحبي أوقف توارد الأفكار علي، ودعاني كي نعود، عدت سريعا، لأجد أصحابي ينتظرون، فالعودة قد حانت..
ركبنا سيارتنا وولينا أدبارنا، ولم ألتفت للوراء، لم أستطع أن ألتفت مع أني كنت أريد أن ألتفت.
بعد خمس وثلاثين عاما عدتُ لحيش لأمكث فيها خمسا وثلاثين دقيقة!!
يا رب أنا - وعزتك - راضٍ بقضائك فهل أنت راض عني..

 

هذه مشاعر مَن كان طفلاً حين فارقها فكيف هي مشاعر مَن فارقها بعد أن شبَّ فيها، ودرج في شوارعها، وارتوى من مائها، وأكل من تينها، ونبت لحمه من زيتها الذهبي؟
كم أرثي لحالك يا أبي!! لك الله وكفى..

 

أكتب الآن عن زيارتي لحيش، ولم أستطع قبل أن أكتب شيئا، أكتب لأقول:
لم أزر حيش، ولكني زرتُ روحها، حيش البلدة النزهة، والريف الجميل، دمرها نظام الأسد - دمّره الله - فلم يسلم فيها بيت ولا حجر ولا شارع..
لم أزر حيش - إلى الآن - ولكن التي زرتها هي حيش الشهيدة..فرحماك يا الله..