23 محرم 1435

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والدتي طيِّبة، لكنَّها! مثاليَّة جدًا، لا تحبُّ الوقوع في الأخطاء، حتَّى ولو كانت بسيطة، أو حتَّى من باب اختلاف وجهات النَّظر، قد لا يكون خطأ، وإنَّما اختلاف أساليب، لذا هي كثيرة النَّقد والتَّعليق على المواقف.
أنا أقدِّر ذلك وأفهمه، لكن! أحيانًا يسبِّب ذلك شيئًا من المشاكل مع بعض إخوتي، أو زوجاتهم، فيصبح الوضع متوترًا، ويفضِّل الجميع التزام الصَّمت، أو إظهار الموافقة، حتَّى ولو كان بدون قناعة، ولا أخفيكم أنَّ الحقَّ يكون معها أحيانًا، لكن! لا أدري لم لا تتمُّ الاستجابة لرأيها الصحيح؟!..وفي الغالب تكون المسألة كما ذكرت من باب المثاليَّة، وليس الخطأ الفادح، أحبُّ أن نعيش بصراحة، وتقبُّل لبعضنا البعض، خاصة وأنَّ أسرتنا بدأت تكبر بفضل الله بزواج إخوتي، ومن المتوقَّع حصول اجتماعات كثيرة، آمل إرشادي لكيفيَّة العلاج، وجزاكم الله خير الجزاء.

أجاب عنها:
سعد العثمان

الجواب

الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه...
أختي العزيزة: أشكركِ على ثقتكِ، بموقع المسلم، ومتابعتكِ له، ونسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجعلنا أهلاً لهذه الثِّقة، وأن يجعلَ في كلامنا الأثر، وأن يتقبَّل منا أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعلها كلَّها خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل فيها حظَّاً لمخلوق..آمين.
أختي الكريمة: أنت تذكرين أنَّ والدتك مثالية ونقَّادة، ولا تحبَُّ الوقوع في الخطأ، وتعلِّق على كلِّ موقف تعتبره خطأ من وجهة نظرها هي، ولا تحترم وجهات نظر الآخرين، حتى صار من حولها يجتنب الحوار والمناقشة معها، ويلتزمون الصَّمت في حضورها، أو يبدون الموافقة على غير اقتناع، وأحيانًا يكون الحقُّ معها، ولا تحدث استجابة لرأيها الصَّحيح، وترغبين أن تعيشي حياة الصَّراحة والوضوح، والبعد عن المجاملة، خاصة وكون أسرتك بدأت تكبر بزواج إخوتك، وتفرُّع أسرتك، وارتباطها بسبب الزَّواج مع أسر أخرى، وبقاء أمّكِ بهذا الخلق، يؤثِّر سلبًا على عموم الأسرة مستقبلاً، لا تقلقي أختى الفاضلة، فقد وصلت إلى برِّ الأمان، فإخوانك في موقع المسلم عندهم العلاج الناجع – بإذن الله - لمشكلتك، والتي يمكننا معالجتها باتباعك للإرشادات والتَّوجيهات الآتية:
أولاً: قال الله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} الشَّورى: 38.
التَّشاور في الأمور المهمَّة، التي يخفى فيها وجه الصَّواب أمر محمود، ورأي رشيد وصائب، وذلك من أجل التَّعاون على الوصول إلى ما فيه الخير العام والخاص، ولما في ذلك من تآلف القلوب واجتماع الكلمة، ولما في ذلك من التَّواضع، ولين الجانب للمؤمنين. قال الله تعالى لنبيه صلَّى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} آل عمران: 159.‏
العمل بالشُّورى مشروع للمسلمين في كلِّ وقت وحين، على مستوى الحكومات والأسر والأفراد، ولكن! تكون الشُّورى في الأمور المهمَّة التي يخفى فيها وجه الصَّواب، ويكون المستشار من أهل الرَّأي والمعرفة. وكان النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام يطلب الرَّأي والمشورة من الجميع، من أصحابه، وأزواجه، من الكبار والصِّغار، ويأخذ بالرَّأي الرَّاجح، ويأخذ برأي الأغلبيَّة ولو خالف رأيه، فقد أخذ برأي الشَّباب في غزوة أحد لأنَّهم الأكثر، وترك رأي الشيوخ لأنَّهم الأقل مع أنَّ رأيه كان من رأي الكبار، وذلك ليعلِّمنا أصول الشُّورى والمشاورة، واحترام رأي الآخرين، بل أخذ برأي زوجته أمِّ سلمة في حادثة صلح الحديبية إذ قالت له: لو خرجت من خيمتي الآن، ولم تكلِّم أحداً من أصحابك، حتَّى تصير في وسطهم، ثمَّ انحر هديك أمامهم، ثمَّ ادع الحلاق يحلق شعرك، ثمَّ تحلَّل من عمرتك، فإذا رأوك فعلوا فعلك، فلما رأوه قاموا جميعاً منفذين لأمره، وكان ذلك ببركة رأي أم المؤمنين رضي الله عنها. وغالبًا مع رأي الفرد الخطأ، ودائمًا مع رأي الجماعة الصَّواب والرَّشد.
فليتك - أختي الفاضلة - تنقلي لأمّكِ هذه المعاني بأسلوب طيب، وألفاظ منتقاة، في وقت مناسب، وفي مكان مناسب، وليكن ذلك بينك وبينها، بكلِّ أدب واحترام، ولا تشعرينها بأنَّك أعلم وأفقه وأخبر منها في الحياة، بل اذكري لها صفاتها الحسنة والنَّبيلة، ثمَّ عرِّجي على موضوعك، وليكن ذلك على عدَّة جلسات، في الجلسات الأولى تلميح، وفي التَّاليات التَّصريح وبأسلوب مليح.
ثانيًا: رأيي صواب، ولكنَّه يحتمل الخطأ.
أدب الحوار، وحسن المناقشة، وقصد الوصول إلى الصَّواب والحقِّ، لا أبالغ إن قلت: إنَّها أصبحت شبه معدومة في مجتمعاتنا وأسرنا الإسلاميَّة، أصبح الكلُّ معجب برأيه، ثابت على موقفه ولو كان خطأ، وليتهم فقهوا قول الإمام الشَّافعي رحمه الله: رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصَّواب. وقوله أيضًا: وددت لو تعلَّم النَّاس علمي، ولم ينسب لي منه شيء. وقوله أيضًا: ما ناقشت عالماً إلا غلبته، وما ناقشني جاهلٌ إلا غلبني. يجب أن يتعلَّم أفراد الأسرة أدب الحوار وطرائقه، وليكن شعارهم في حواراتهم: أزداد لك حبًّا إن اختلفت معك رأيًا، وأزداد لك تقديرًا إن اختلفنا اجتهادًا. فمشكلتك أختي مشكلة كثير من الأسر، وكم أسر دمِّرت بسبب تصلُّب رأي الوالدين أو أحدهما برأيه، وكم من أسر تمزَّقت بسبب بقاء أحد أفرادها على موقفه، بل أدَّى الأمر في بعض الأسر إلى أن قتل الوالد ولده والعكس، وقتل الأخ أخته، وقتل الأخ أخاه، كلُّه بسبب التَّصلُّب بالرَّأي، والثَّبات على الموقف الخطأ، ولذلك أوصيك وأؤكِّد عليك بالوصيَّة أن تعالجي خلق أمّكِ باللِّين والرّفق، فالرِّفق ما كان في شيء إلا زانه.
ثالثًا: استعيني على أمّكِ بأبيك.
أمّكِ زوجة، وعليها وجوب الطَّاعة لزوجها، وزوجها أبوك، فاجلسي إلى أبيك، واعرضي عليه مشكلة أمّكِ، واطلبي منه أن يتدخل بأسلوب الزَّوج في معالجة خلق وأسلوب أمّكِ، واذكري له أنَّه إن لم يضع حدًَا لتصرفات أمّكِ ممكن أن يتعدَّى الأمر إلى مالا تحمد عقباه، فهو بطريقته وخبرته، ومعرفته بدقائق وتفاصيل أخلاق أمّكِ، قد يكون نقطة الارتكاز في علاج مشكلتها معكم، فهذا باب كبير ومؤثِّر فلا تهمليه، فالنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (إنَّ زوج المرأة منها لبمكان).
رابعًا: إياك أعني، واسمعي يا جارة.
أهدي أمّكِ كتابًا، وقدِّمي لها شريطًا، يتحدَّثان عن أدب الحوار والمناقشة، وقبول واحترام رأي الآخر، وأقترح عليك كتاب: أدب الحوار، للشيخ: عائض القرني، وكتاب: لماذا نخاف من النقد؟ للشيخ: سلمان بن فهد العودة، وشريط: أدب الحوار، للشيخ: محمد حسان، وشريط: أدب الحوار، للشيخ: محمد العريفي. قدِّمي الكتابين والشَّريطين مع قطعة ذهب مناسبة، لعلَّ الله أن ينفعها بهم.
خامسًا: ابحثي عن صديقات أمّكِ.
لا شكَّ أنَّ لأمّكِ صديقات تَرْكَن لهن، فتخيَّري إحداهن لتكليفها بمهمَّة الجلوس مع أمّكِ على انفراد، وتفتح معها الموضوع، وتنقل لها وجهات نظركم، وتوجيهاتها الشَّخصية لأمّكِ، فإن أدَّت المهمَّة وأثمرت فالحمد لله، وإن لم تثمر تخيَّري أخرى، وهكذا، فإن لم تنفع صديقاتها معها، فانظري الصَّالحين النَّافعين الفاهمين من أقرباء ومحارم أمّكِ، وجنديهم لفتح الموضوع مع أمّكِ، وأوصي الجميع أن يفتحوا الموضوع معها بكلِّ هدوء وأدب.
ختامًا: أقول لك: إن كان انتقاد أمّكِ لكم بنَّاء فسددوها وباركوها، وإن كان على خطأ وعنت فقوِّموها بكلِّ أدب واحترام، وبكلِّ وسيلة وطريقة مصلحة، فإنَّ من الخطأ ترك الخطأ دون معالجة.
وفقني الله وإياك لما يحبُّه ويرضاه من الأقوال والأعمال والاعتقاد.